الظاهرة الأصولية.. معالم سوسيولوجية

الظاهرة الأصولية.. معالم سوسيولوجية
TT

الظاهرة الأصولية.. معالم سوسيولوجية

الظاهرة الأصولية.. معالم سوسيولوجية

الأصولية من المصطلحات الشائعة والمنحوتة في التداول الغربي الحديث خاصة في اللغة الفرنسية، فهي ترجمة لكلمتين من هذه اللغة هما intégrisme وfondamentalisme، ويقصد بهما الرؤى المذهبية المتعصبة في الاعتقادات المسيحية. أما عربيا فمصطلح الأصولية غامض وملتبس؛ ورغم أن أدبيات التراث العربي الإسلامي تنعت المتخصص في أصول الفقه بنعت «أصولي»، فإننا نستعمل هنا المصطلح للدلالة على التعصب المتمركز حول الدين والمرتبط بتأويلات خاصة لحقائقه ولمعطيات المعرفة الدينية والمبادئ التي تدعو إليها؛ ونحن نقصد بالأصولية كذلك تلك الرؤية الطهرية التي تزعم قداسة فكرتها ومبادئها، دينية كانت أم دنيوية علموية.
ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن الظاهرة الأصولية عربيا ظاهرة معاصرة. فإذا كان الجانب الديني ينذر بالخراب الدنيوي والأخروي، لما يحمله من شديد البأس والأذى للدين والمجتمع والدولة العربية المعاصرة؛ فإن الأصولية العلمانية لم تكن لتشد إليها الانتباه لولا تحالفها تاريخيا مع الأنظمة العسكرية العربية في مصر عبد الناصر والعراق وسوريا تحت المظلة البعثية، وكذا طريقة تعاملها مع التدين في العهد البورقيبي بتونس. ولذلك نعتبر فيما نطرحه هنا الأصولية أزمة بنيوية باعتبارها «رؤية للعالم»، قبل أن تكون نظرية في السلوك، وهو ما يفسر كون التطرف الديني والعلماني جزءا من النظر المعرفي الأصولي العربي المعاصر، ومسلكا من المسالك التي تندرج في نسق مؤطر بالرؤية الدينية أو العلمانية، باعتبار كل واحدة منهما، رؤية واحدية المرجعية، وواحدية التقديس الذاتي، وواحدية التفسير.
وإذا كانت المتغيرات الحالية عربيا، وتطوراتها بعد ما أطلق عليه «الربيع العربي» قد مست جزءا من هذه التحالفات القديمة للأصولية الدينية والعلمانية، فإن علتها ومعلولها، لم يشهدا كثيرا من التغير، من جهة عسكرة العلمانية، ومن جهة إلباس الدين حلة العنف السياسي الدموي. من جانب آخر ثمة جدلية بين التطرفين الديني واللاديني عربيا، فكلما كانت الأصولية العلمانية هي نواة السلطة السياسية، كانت الأصولية الدينية أكثر عنفا ودموية وإرهابا. وكلما كانت الأنظمة السياسية ذات شرعية دينية أو تتعامل بمرونة مع الدين، وجدت الأصولية العلمانية نفسها أمام توسع دائرة العلمانية المعتدلة، كمنافس مقتدر يحسن التعامل مع مختلف النخب بالدوائر الدينية، سواء كان اشتغال هذه الدوائر والنخب يهم المؤسسات الرسمية للدولة الوطنية، أو يهم المجتمع ومؤسساته المدنية الخاصة، وهيئاته الأهلية والعشائرية القبلية.
وعلى العكس من ذلك كلما توسعت الأصولية الدينية في دولة عربية معينة، وجدت النخب الدينية غير الرسمية وحتى جزء من النخب الدينية للدولة نفسها في وضع اجتماعي وسياسي ومعرفي لا تحسد عليه. ذلك أن ميل التطرف الأصولي الديني للشعبوية والتسييس المفرط للدين من جهة؛ وميله للصدام وتبنيه عقديا لحقه الأوحد في تمثيل العقيدة والدولة من جهة أخرى، يجعل من الوسطية والاعتدال الإسلامي دعوة فوقية، تتقدم بصعوبة في وسط الاجتماع السياسي. كما يجعل الوسطية الإسلامية، والاعتدال والسماحة الدينية مفاهيم سيالة ومبهمة، خاصة في نظر الآيديولوجيا العلمانية والأصولية الاستبدادية للدولة.
على هذه الصورة تدرجت الأصولية الدينية الإسلامية، من مجرد رؤية فكرية، إلى تنظيمات ونخب تنتج وتستعيد جزءا من تراثنا المأزوم، كما تتكيف مع آليات الحداثة بصورة تتناقض ومنطلقات الأصولية الإسلامية، مما زاد في فداحة الضرر الملحق بالدين ومؤسساته، وبالتراث وإنتاجاته العلمية الحضارية. فهي لا تكتفي برفض المؤسسات الدينية التقليدية وتكفير العاملين من داخل الشرعية القانونية للدولة، وإنما تصم المؤسسات الدينية الأهلية والعلماء «المستقلين» بالخارجين من الدين؛ وبالتالي تجعل من العقيدة نواة الصراع الناشب حول الدين، كما أنها تحاول احتكار السلطة الرمزية التي تمثلها الدعوة الدينية، جاعلة بذلك نفسها مصدر الشرعية الدينية، في تهميش واضح لمرجعية القرآن والسنة الصحيحة، وفي تجاوز كبير لحق الأمة في إيجاد صيغ متعددة للتدين من داخل المرجعية الإسلامية.
فالأصولية هنا مدرسة فكرية رافضة للتاريخ ومساره وخبرة مجتمعاته، لذلك تحاول التموضع في الزمن المعاصر بإيجاد صيغ حُلمية جماعية تأويلية للدين، تستطيع من خلالها التأثير على مسارات التحولات السياسية والدينية. في هذا الإطار يمكن فهم استعمال العنف واللجوء للإرهاب، باعتباره منهجا تفجيريا لإثبات الذات على مستوى الاجتماع السياسي العربي، أكثر من كونه دليلا على قوة الأصولية العربية من الناحيتين الثقافية والاجتماعية. فرغم قدرتها المؤثرة على الاستقرار الأمني السياسي، فإنها تظل محدودة التوسع في كثير من الدول العربية الإسلامية؛ خاصة إذا ما قورنت بانتشار الأفكار الإسلامية المعتدلة الرسمية والمدنية حول الدين.
وحين نجد أن الأصولية كآيديولوجيات دينية أو عسكرتارية تستند إلى التطرف والعنف والماضي في عدم توافق مع قيم سياسية واجتماعية متغيرة عبر الزمن فإنها في الحقيقة تتحول من «دعوة دينية» إلى حركة اجتماعية تجد في الدين المبرر الوحيد لإضفاء الشرعية المتوهمة على ممارسة العنف الاجتماعي؛ ومن هنا يمكن النظر للممارسة العنفية الاحتجاجية التي تتسم بها غالبية الحركات الأصولية، باعتبارها ممارسة سوسيولوجية وليست دينية بالأساس. فكما هو معلوم أن الأديان الإبراهيمية ترفض العنف وتدعو إلى التسامح والسلام. لكن تطور التاريخ الاجتماعي، مسيحيا ويهوديا وإسلاميا، يجعل من الممارسة الدينية، ممارسة اجتماعية متموجة، كثيرا ما التجأت للعنف الاجتماعي بمبررات دينية، أو تحررية، تحت اسم الجهاد أو النضال. ومن هذه الزاوية، يتبين أن تحليل أبعاد الممارسة العنفية الأصولية لا بد وأن يتأسس على ملاحظة ودراسة سوسيولوجية، تقوم بتحليل أبعاد الممارسة من الناحية التاريخية والثقافية، وتحليل الرؤى والتصورات الكامنة في آيديولوجيا الأصولية باعتبارها حركة اجتماعية متطورة وقابلة للفهم العلمي.
فكما تتعدد الأصوليات تحت سقف دين واحد، تتعدد معه تناقضات الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبالتالي تتعدد أسباب ظهور الحركات الاحتجاجية المسلحة الدينية والعلمانية؛ فإذا كانت الجماعات الدينية في بيئة سياسية مرنة، فإن ذلك يؤدي بنيويا لسيادة التعايش بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين الدينيين والسياسيين، وهو بدوره ينعكس على بنية الدولة التي غالبا ما تشهد تطورا إيجابيا مطردا حتى لو كان بطيئا.
فالجماعات المجتمعية التي تتعرض للاضطهاد، سرعان ما تبحث عن مبرر سياسي لممارسة العنف الذي تواجهه؛ وهنا تظهر الحركات الإرهابية المستندة على الدين لتحتل قمة تلك الجماعات المجتمعية، لما يضفيه الاستدعاء السياسي للدين من قداسة للأهداف والمنطلقات، يتوافق والذهنية الإطلاقية للأصولية، ويتماشى مع ارتباط المجتمع العربي الإسلامي بالمرجعية الإسلامية وقيمها الحضارية.
عموما، تظل الأصولية ظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى، لذلك نجد الأصوليين يتمتعون بخصائص سوسيولوجية وفكرية وينتمون لمختلف الأديان، وهم في الغالب غير بعيدين عن الحقل السياسي ومغرياته، فهم يعيشون بين تناقضات الواقع الاجتماعي والمبادئ الصارمة التي يتبنونها؛ ولذلك كثيرا ما نجدهم يبررون التطرف والعنف والالتزام بتصورات الماضي، بالدين من أجل الوصول إلى أهدافهم السياسية.
* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟