من ريغان إلى ترمب... تسييس الدين ضخّم تأثيره في السياسة الأميركية

الانتماءات العرقية والدينية تلعب دوراً رئيسياً في الاستقطابات الحزبية

من ريغان إلى ترمب... تسييس الدين ضخّم تأثيره في السياسة الأميركية
TT

من ريغان إلى ترمب... تسييس الدين ضخّم تأثيره في السياسة الأميركية

من ريغان إلى ترمب... تسييس الدين ضخّم تأثيره في السياسة الأميركية

تُجمع كل الدراسات والأبحاث على أن الدين يلعب دوراً كبيراً في السياسة الأميركية، الأمر الذي يضع الولايات المتحدة في المرتبة الأولى لناحية حضور الدين في الحياة السياسية، مقارنة مع أي دولة غنية أخرى في العالم.
ورغم أن التعديل الدستوري الأول يمنع تشكيل أي حكومة أميركية على أساس ديني، فإنه يضمن حرية ممارسة الدين. كذلك فإن الدين لا يزال يشكل عنصر الاستقطاب الرئيسي لدى الحزبين الكبيرين، في حين يعلن الأميركيون بلا تردد أنهم متدينون. وبحسب إحصاءات أخيرة، فقد أعلن 55 في المائة من الأميركيين أنهم «يصلّون» بانتظام، مقارنة بنحو 10 في المائة في فرنسا و6 في المائة في بريطانيا. كذلك يقول 87 في المائة إنهم يؤمنون بالله، و56 في المائة يقولون إنهم يؤمنون بالله «تماماً كما هو موصوف في الكتاب المقدّس».

تاريخياً، خلال القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، استقطب الحزبان الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية أنصارهما على أسس عرقية ودينية. وعموماً، في الشمال كان معظم البروتستانت من الجمهوريين، في حين أن معظم الكاثوليك كانوا من الديمقراطيين. أما في الجنوب ومنذ ستينات القرن 19 إلى ثمانينات القرن الماضي، كان معظم البيض ديمقراطيين (بعد عام 1865) وكان معظم السود جمهوريين، قبل أن تتغير الحال في العقود الأربعة الأخيرة.
أيضاً، كثيراً ما يناقش السياسيون دينهم أثناء الحملات الانتخابية، فيما العديد من الكنائس والشخصيات الدينية نشطة سياسياً. ورغم ذلك كان توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة، هو أول مَن شق الطريق للفوز بمنصب الرئاسة عبر أفكار مثيرة للجدل حول الدين، معلناً «لا دينيته»، بعدما تمكّن من تغيير العلاقة بين الفوز في الانتخابات على أساس الدين إلى إعلان تسامحه مع الحرية الدينية.
ولعل من بين جميع السياسيين الذين ترشحوا للرئاسة الأميركية خلال العقود الأخيرة، فإن بيرني ساندرز الأقل تديناً؛ فهو يعرّف نفسه على أنه يهودي علماني ويربط المعتقدات الدينية بالعدالة الاجتماعية، ولا يشارك في أي دين، ويدافع عن الفصل بين الكنيسة والدولة. لكن ظهور سياسات الهوية ونجاحها يشير إلى أن العرق أو الدين قد تكون لهما أهمية أكبر من العدالة الاقتصادية.
مع ذلك وبغية حفاظ الجمعيات الدينية والكنائس على وضعها كمؤسسات ومبرّات معفاة من الضرائب، فقد منعها الدستور الأميركي من اعتماد مرشح رئاسي رسمي. فالمسيحيون المتدينون موجودون في كل من الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. لكن المسيحيين الإنجيليين المتشددين (أو «المولودين من جديد») يميلون إلى دعم الحزب الجمهوري، بينما يميل المسيحيون الأكثر ليبرالية والكاثوليك والعلمانيون إلى دعم الحزب الديمقراطي. ولقد وجد استطلاع أجراه مركز «بيو للأبحاث» عام 2019 أن 54 في المائة من البالغين يعتقدون أن الحزب الجمهوري «ودود» تجاه الدين، بينما قال 19 في المائة فقط من الشريحة المستطلعة الشيء نفسه عن الحزب الديمقراطي.
من ناحية ثانية، يعرّف غالبية الأميركيين أنفسهم بأنهم مسيحيون بنسبة 71 في المائة، بينما الأديان غير المسيحية (بما في ذلك الإسلام واليهودية والهندوسية وغيرها) تشكل مجتمِعةً نحو 6 في المائة من السكان البالغين. وأعلن 23 في المائة من السكان البالغين أن ليس لديهم انتماء ديني. ووفقاً لمسح الهوية الدينية لدى الأميركيين، يختلف المعتقد الديني بشكل كبير في جميع أنحاء البلاد، حيث يقول 59 في المائة من الأميركيين الذين يعيشون في الولايات الغربية إنهم يؤمنون بالله، لترتفع هذه النسبة إلى 86 في المائة في الجنوب.

إعادة تعريف الانتماء
عندما أسّست الولايات المتحدة، كانت تُسمّى بـ«الأمة البروتستانتية»، لكن «البروتستانتية» اكتسبت في الآونة الأخيرة تعريفاً أضيق. إذ بات يعني المتشددين أو البروتستانت «الإنجيليين» الذين يؤمنون بضرورة «الولادة من جديد»، ويؤكدون على أهمية الكرازة وعلى التعاليم البروتستانتية التقليدية حول سلطة الكتاب المقدس وتاريخيته. وفق هذا التعريف الضيق، يمكن القول إنهم ما عادوا يشكلون غالبية، بحسب مصادر متعددة. ووفق هذه المصادر، فإنهم يشكلون اليوم ما يقرب من ربع سكان الولايات المتحدة، وهم يأتون من مجموعات مأخوذة من خلفيات طائفية متنوعة، بما في ذلك الكنائس المعمدانية والنظامية (الميثودية) والإصلاحية وغير الطائفية.
«الإنجيلية» لعبت دوراً مهماً في تشكيل الدين والثقافة الأميركية، وشكلت «صحوتهم» الأولى الكبرى في القرن الـ18، بمثابة ظهور «الدين الإنجيلي» في أميركا الكولونيالية. ووحّدت هذه «الانجيلية» الأميركيين في جميع أنحاء المستعمرات 13 الأولى (التي أصبحت الولايات التي أسس اتحادها نواة الولايات المتحدة الـ50 حالياً) حول إيمان مشترك. ولاحقاً، أدت «الصحوة» الكبرى الثانية في القرن 19 إلى ما أطلق عليه المؤرخ مارتن مارتي «الإمبراطورية الإنجيلية»، وهي الفترة التي سيطر فيها «الإنجيليون» على المؤسسات الثقافية الأميركية، بما في ذلك المدارس والجامعات.
كان «الإنجيليون» في شمال الولايات المتحدة من دعاة الإصلاح بقوة، وشاركوا في حركة الاعتدال، ودعموا إلغاء الرق (العبودية)، بالإضافة إلى العمل من أجل إصلاح التعليم والعدالة الجنائية. في حين انفصل «إنجيليو» الجنوب عن نظرائهم الشماليين بشأن قضية الرق، وأسسوا طوائف جديدة لم تطالب بإلغائه. ويجمع المحللون على أن العامل الرئيسي الذي يقف وراء الدعوة لإلغاء الرق، تعود أسبابه إلى عوامل اقتصادية بحتة. ففي أواخر أربعينات القرن 19 كان للهجرة الكثيفة والتدفق المفاجئ وغير المسبوق للمهاجرين الألمان والآيرلنديين على الولايات المتحدة، أبلغ الأثر على الانخفاض السريع والحاد في أجور اليد العاملة، الأمر الذي هدّد بخفض عدد «الرجال الأحرار البيض» لمصلحة العبيد، وذلك لدى إقدام الأثرياء البيض بزيادة عدد العبيد لاستثمار الأرض. وبسبب هذا الخوف من أن الرق سيدمر الآفاق الاقتصادية للعائلات العاملة البيضاء، نما وتوسع حزب لم يعمر طويلاً كان يسمى «لا نعلم شيئاً»، أو «نو نوثينغ»، لكنه شكل الأرضية لتعزيز قوة الحزب الجمهوري الذي دعم ترشح أبراهام لينكولن وقاد الحرب لإلغاء الرق.

مشهد ديني متغير
حضور الدين في الخطاب السياسي الأميركي تزايد بعد «تسييسه»، لا سيما بين «الإنجيليين» البيض منذ سبعينات القرن الماضي، وسلّط هذا التسييس الضوء على الانقسام العنصري الموجود في الولايات المتحدة. وبحسب «المعهد العام لأبحاث الدين» وهي منظمة غير ربحية وغير حزبية، «لا توجد اليوم جماعة دينية أكثر ارتباطاً بالحزب الجمهوري من البروتستانت الإنجيليين البيض». ومع ذلك، فإن تسمية «إنجيلية» قضية معقدة؛ فهي حركة عابرة للطوائف في الغالب داخل المسيحية البروتستانتية على أساس مجموعة من المعتقدات الأساسية الشخصية: الكتاب المقدس هو مركز الإيمان، والتكفير عن الخطايا بصلب المسيح، والاهتداء الشخصي والخلاص، والمشاركة في الإنجيل الذي منه أخذت هذه الحركة اسمها.
لكن ليس كل «الإنجيليين» اليوم هم من البيض والمحافظين. بل هناك نسبة صغيرة من «الإنجيليين» غير البيض (نحو 25 في المائة) بالإضافة إلى بعض «الإنجيليين» البيض التقدميين (نحو 15 في المائة) يميلون إلى التصويت للديمقراطيين. ومع ذلك، تظهر الإحصائيات تآكلاً بطيئاً في عدد الأميركيين الذين يُعرّفون بأنهم بروتستانت «إنجيليون» منذ تسعينات القرن الماضي، وخاصة لدى الأجيال الشابة. أيضاً، انخفض عدد الكاثوليك ببطء، في حين انهار عدد البروتستانت التاريخيين.
بعض الأكاديميين يناقشون أن هناك زيادة ملحوظة في عدد الأميركيين الذين لا ينتمون إلى أي دين، وهؤلاء باتوا يساوون عدد «الإنجيليين» إن لم يكونوا أكثر عدداً. لكن باحثين آخرين، مثل لوريك هينيتون، يقولون إنه لا يوجد شيء مشترك سوى أنهم لا يريدون أن يُحسبوا على أنهم ينتمون إلى مجموعة دينية أو لتقاليد راسخة. وأظهر استطلاع أجراه مركز «بيو» عام 2014 أن الملحدين و«اللاأدريين» Agnostics آخذون في الازدياد، لكنهم ما زالوا يمثلون أقل من ثلث اللامنتمين، مما لا يثير الدهشة أن بيرني ساندرز هو المفضل عندهم.
من ناحية أخرى، تظهر بعض الدراسات أن الأجيال الشابة لا تنتسب بشكل متزايد إلى دين أو كنيسة، لكنهم أيضاً من أقل الأجيال إقبالاً على التصويت، ما يقلل من تأثيرهم على الانتخابات. بل حتى لو تزايدت نسبة تصويتهم، كما جرى في الانتخابات النصفية عام 2018، فإن النظام الانتخابي والتقسيم السياسي لأميركا يضخّم قوة الناخبين البيض والريفيين والمسيحيين المحافظين، عبر تقسيمات إدارية للمقاطعات تمكن الأقلية في الولايات القليلة السكان من التحكّم بنتائج الانتخابات. ومن ثم، يُرجّح أن يستمر الدين في لعب دور رئيسي في الانتخابات الأميركية لسنوات مقبلة، وأن ستستمر «الآلة القومية المسيحية» في دفع دونالد ترمب لجعل الهوية الدينية عنصراً أساسياً في حملته، على حد قول الباحثة كاثرين ستيوارت، وفي المقابل، يسمح لمنافسه جو بايدن باستخدام «تسامحه الديني» لاستقطاب القاعدة المؤمنة.

مرحلة رونالد ريغان
خلال العقود الأخيرة أصبح التديّن أكثر وضوحاً في البيت الأبيض. لقد كان رؤساء الولايات المتحدة يتذرّعون بالإيمان والله منذ أن أعرب جورج واشنطن عن «توسلاته الحارة لهذا القدير الذي يحكم الكون» في خطابه عام 1789. غير أن استخدام اللغة الدينية وحتى الإشارات الصريحة إلى الله قد ازدادت في الخطاب الرئاسي منذ الثمانينات. ويرى باحثون أن عبارة «بارك الله في أميركا»، وهي العبارة الأكثر وضوحاً التي تربط بين الله والوطن، تزايدت بشكل كبير، وباتت متوقعة في جميع الخطابات الرئيسية، بينما كانت شبه غائبة قبل رونالد ريغان. وبحسب دراسة حديثة أجراها الباحث سيري هيوز، يبدو أن هذا الاتجاه أكثر وضوحاً مع دونالد ترمب... الذي رغم ادعائه الانتماء إلى الطائفة البروتستانتية المشيخية، هناك أدلة كثيرة تشير إلى أنه أقل الرؤساء التزاماً دينياً في العصر الحديث. وفي هذا السياق، فإنه يستدعي الدين أكثر من غيره، في استراتيجية استخدمها بشكل ناجح عام 2016؛ فقد صوّت 81 في المائة من «الإنجيليين» البيض لصالح ترمب، ووعد بالدفاع عنهم في الحروب الثقافية، لا سيما في مواضيع الإجهاض وحقوق مجتمع المثليين والصلاة المدرسية.
وبخلاف ترمب، حدد جميع رؤساء العصر الحديث أنهم «مسيحيون بروتستانت»، باستثناء جون كينيدي (الرئيس الكاثوليكي الوحيد) الذي ظهر أن «كاثوليكيته» كانت قضية حملته الانتخابية. من ناحية أخرى، لم ينل أي شخص يهودي ترشيحاً رئاسياً من أي حزب كبير (فقط حصل جوزيف ليبرمان على ترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس في عام 2000)، في حين لم يخلُ من جدل انتماء ميت رومني المرشح الجمهوري في عام 2008 إلى طائفة المورمون.
في أي حال، ولئن كان لا يزال هناك تشكيك في أهمية الدين والدور الذي يلعبه في السياسة الأميركية، فإن تركيبة الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، تعطي صورة واضحة عن هذا الدور. ومع أن الكونغرس الحالي الـ116 يُعتبر الأكثر تنوّعاً على المستوى الديني، فإنه يظل مسيحياً بأغلبية ساحقة قياساً حتى لعدد سكان الولايات المتحدة؛ فهناك 88 في المائة من أعضائه من المسيحيين، مقابل 71 في المائة من السكان الأميركيين البالغين. وهناك مشرّع واحد منتخب فقط في مجلس الشيوخ: السيناتورة كيرستن سينيما (ديمقراطية من ولاية أريزونا)، تعلن أنها لا دينية، في حين لا يوجد أي مشرّع يصف نفسه بالملحد. وحتى النائبة اليسارية النيويوركية إلكساندريا أوكاسيو كورتيز دائماً ما تذكّر بإيمانها الكاثوليكي وتقتبس تعابير من الإنجيل وتنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.

المتدينون أنشط اقتراعاً
وإذا كان من الصعب معرفة اتجاهات التصويت لدى المتدينين الأصوليين، خصوصاً من «الإنجيليين»، وهو ما لعب دوراً كبيراً في فشل استطلاعات الرأي التي توقعت فوز هيلاري كلينتون على ترمب عام 2016، فإنهم «يميلون إلى الانخراط في النشاط السياسي بمعدلات أعلى من متوسط الأميركيين».
كذلك، رغم أن الاعتقاد السائد بأن الناخبين المتدينين يصوتون دائماً للجمهوريين، فهذا لا يصح دائماً. فالتصويت لمصلحة هذا الحزب أو ذاك يعتمد بشكل ملحوظ على الوضع الاجتماعي والاقتصادي. وبالنسبة للأشخاص المتدينين ذوي الدخل المنخفض، لا يوجد تقريباً أي ارتباط بين معتقداتهم الدينية وقرارهم في التصويت. إذ حقق جورج بوش الأبن (الطائفة النظامية) فوزا ضئيلاً جداً على منافسه جون كيري، حين لم يلعب الاستشهاد «بالقيم الأخلاقية» دوراً كبيراً في حض القاعدة الانتخابية المتدينة على التصويت بكثافة لبوش. ونسب فوزه مباشرة إلى الجماعات الأصولية المسيحية الذين أطلق عليهم تسمية «المحافظون الجدد»، وليس للمتدينين عموماً. من جهة أخرى، أشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب» عام 2019. إلى أن 60 في المائة من الأميركيين على استعداد للتصويت لرئيس ملحد. في حين أن أبحاثاً كثيرة تظهر أن الأميركيين ينظرون للمرشحين الذين يُعتبرون متدينين بأنهم جديرون أكثر بالثقة.

الواقعان السياسيان لليهود... والمسلمين

> يشكل تعداد اليهود في الولايات المتحدة ما يصل إلى 2.1 في المائة من السكان. ولقد سجل هذا التعداد انخفاضاً كبيراً من أكثر من 3 في المائة في الخمسينات، ويرجع السبب أساساً إلى انخفاض معدل المواليد نسبياً بين اليهود الأميركيين وارتفاع معدلات الزواج المختلط من غير اليهود.
مع هذا، ما زال اليهود يلعبون دوراً مؤثراً في الحياة السياسية الأميركية لأسباب عدة متشعبة، يتداخل فيها العامل الآيديولوجي مع السياسي والاقتصادي. وبينما كان المهاجرون اليهود الأوائل من ألمانيا يميلون إلى أن يكونوا محافظين سياسياً، كانت موجة يهود أوروبا الشرقية التي بدأت في أوائل ثمانينيات القرن 19 أكثر ليبرالية أو يسارية بشكل عام، وأصبحت الغالبية السياسية. لقد جاء العديد من هؤلاء إلى أميركا من ذوي الخبرة في الحركات الاشتراكية والفوضوية والشيوعية بالإضافة إلى حزب العمال، المنبثق من أوروبا الشرقية. وصعد العديد من اليهود إلى مناصب قيادية في الحركة العمالية الأميركية في أوائل القرن العشرين وساعدوا في تأسيس نقابات لعبت دوراً رئيسياً في سياسة اليسار ثم بعد عام 1936، في سياسات الحزب الديمقراطي.
بعد تلك الفترة كانت الغالبية العظمى من اليهود في الولايات المتحدة متحالفة مع الحزب الديمقراطي. وقبيل نهاية القرن 20 وبداية القرن 21. أطلق الجمهوريون مبادرات بدأت تؤتي ثمارها لجذب اليهود الأميركيين بعيداً عن الحزب الديمقراطي. ولعل العلاقة الخاصة التي باتت تربط ترمب بإسرائيل وسلسلة القرارات السياسية المهمة التي اتخذها سواء في ملف السلام أو في قضية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقله السفارة الأميركية إليها واعترافه بحقها في ضم أراضي الجولان السورية المحتلة، شكلت كلها علامات فارقة، كان بالإمكان رؤية تأثيرها في الخطابات التي ألقيت في الاجتماعات السنوية للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية «أيباك».

ماذا عن المسلمين؟

أما عن المسلمين، ففي عام 2006. أصبح كيث إليسون أول مسلم ينتخب في مجلس النواب الأميركي، كممثل عن الدائرة الخامسة في ولاية مينيسوتا، وأصبح لاحقاً رئيس اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي. وعند إعادة تصوير أدائه اليمين استخدم نسخة من القرآن كان يملكها الرئيس توماس جيفرسون.
بعدها، أدت انتخابات مجلس النواب عام 2018 إلى دخول نائبتين مسلمتين مجلس النواب هما إلهان عمر (من أصل صومالي) ورشيدة طليب (من أصل فلسطيني). ولكن حتى الساعة لا يمكن الحديث عن دور كبير يلعبه المسلمون في الحياة السياسية الأميركية، خاصة، أنهم يشكلون أقلية لا تزيد نسبتها على 2 في المائة، سوادهم الأعظم من المهاجرين وأطفال المهاجرين. من ناحية ثانية، معظم منظماتهم التي تشكلت في العقود الأخيرة، وهي لا تزال تسعى إلى الموازنة بين لعب دور سياسي من ناحية، ورفع صفة الإرهاب عنهم من ناحية ثانية. وراهناً توجد عدة منظمات إسلامية أميركية متعددة التوجهات، بعضها يوصف بالمعتدل وبعضها الآخر يتهم بالتشدد والارتباط بقوى سياسية في العالم الإسلامي.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.