رواية القرن الـ21... ميل طاغٍ للعب دور «الحاضنة الثقافية»

عبر توظيف وسائلها اللامحدودة في المناورة والقدرة على تمرير الأفكار

إليزابيث غلبرت
إليزابيث غلبرت
TT

رواية القرن الـ21... ميل طاغٍ للعب دور «الحاضنة الثقافية»

إليزابيث غلبرت
إليزابيث غلبرت

بعدما شاهدتُ فيلم «صلاة، طعام، حب» الذي لعبت الممثلة الهوليوودية ذائعة الصيت جوليا روبرتس دور البطولة فيه لم يتعدّ انطباعي كونه فيلماً مصنوعاً بالمقاسات الهوليوودية التي تتوسمُ بين الفينة والأخرى بعضاً من الثيمات الروائية الشائعة وتسعى لتوظيفها في أهدافها الربحية، وبدا لي واضحاً حينها أنّ هذا الفيلم يوظّفُ موضوع «الاستنارة الروحية» التي يمكن متابعة جذورها النقية في بعض الثقافات الشرقية. تسنّى لي لاحقاً قراءة الرواية التي وظّفها الفيلم؛ فكانت رواية أفضل بكثير من الفيلم رغم حساسيتي المزمنة من روايات الـ«Bestseller»، فهي في العادة تخاطب القارئ بوسائل تنشد التلاعب بمجساته الإدراكية عبر خليط من الحبكات البوليسية والإثارة القصدية، لكنها تفتقر في عمومها إلى القيمة الفكرية الثرية، ويبدو أنّ كُتّاب الـ«بيست سيلر» أدركوا هذه اللعبة، فراحوا يكتبون رواياتهم وفقاً لمخطط مسبق ينطوي على جعل الرواية نسقاً من مشهديات مثيرة يمكن تحويلها بسهولة إلى فيلم سينمائي. لم تكن رواية «طعام، صلاة، حب» مُنساقة لتوصيفات الـ«بيست سيلر» التي ذكرتها؛ لكنها ظلّت رواية غير متفرّدة بالنسبة لي رغم إعجابي بمقدرة الروائية إليزابيث غلبرت وسيرتها الحياتية وموهبتها الروائية.
جاءت الانعطافة في علاقتي مع الروائية إليزابيث غلبرت بعدما قرأتُ روايتها The Signature of All Things الصادرة عام 2013 (اختار المترجم أسامة أسبر للعنوان عبارة «توقيعه على الأشياء كلها» في ترجمته للرواية، (وكان موفقاً كل التوفيق في هذا الخيار)؛ فرأيتني إزاء روائية متمكّنة غاية التمكّن، وقد جاءت روايتها تمثيلاً لنمط الرواية المعرفية التي أتوقع لها أن تصبح النمط الروائي السائد في العقود المقبلة.
ليست فرادة هذه الرواية في حبكة خطيرة أو خطوط روائية غير مطروقة أو تقنيات سردية غير مسبوقة؛ بل تكمن فرادتها في هذه المقدرة المتميزة على شحذ الاسترخاء واللذة والتفكّر الدقيق لدى القارئ، وهو يتابع حياة «ألما ويتاكر» المولودة مع بداية القرن التاسع عشر (عام 1800) وعلاقتها بالعلم والنباتات (الطحالب على وجه التخصيص)، ويمكن وصف الرواية باختصار بأنها كشف للطريقة التي ستجعل من دراسة (ألما) الدقيقة للطحالب دافعاً لتعميق معرفتها بالتطوّر الأحيائي، ومن ثمّ تتحوّلُ هذه المعرفة التي تبدو علمية خالصة في طبيعتها شكلاً من أشكال الاستنارة الروحية والتنوير الفكري في القرن التاسع عشر.
تنتمي هذه الرواية إلى صنف الروايات البدينة (501 صفحة في نسختها الإنجليزية، وقرابة السبعمائة صفحة في الترجمة العربية)، ولستُ أسعى هنا لتقديم قراءة عن بعض تفاصيل الرواية؛ إذ لا بديل عن قراءتها والاستمتاع بأجوائها الفاتنة؛ لكني سأقدّمُ في المقابل بعض المؤشرات التي تجعل الرواية المعرفية الجنس الروائي الذي أتوقّعُ تسيّده وشيوعه في العقود القليلة المقبلة.
لا بد من التساؤل في البدء: هل توجد رواية غير معرفية؟ الجواب: كلا بالطبع. كل رواية تسعى (بقصد أو بغير قصد) لتقديم لون معرفي يثري حياتنا البشرية؛ غير أن المقصود بالرواية المعرفية (من الوجهة التقنية) تقديم المعرفة الخاصة بالمباحث الدقيقة (أو ما يسمّى بالمعرفة الصلبة Solid Knowledge) في شكل روائي مغلّف بعناصر الإمتاع، وبعيداً عن النمطية المتعارف عليها في المقرّرات الدراسية أو المصنّفات المعرفية المثقلة بشروط النشر الأكاديمي.
نشهد اليوم في كل بقاع عالمنا انحساراً معرفياً كبيراً على مستوى الأفراد مقابل تفجر معلوماتي هائل، وتكمن المشكلة دوماً في كيفية تحويل ذلك التفجر المعلوماتي إلى معرفة موجهة لتحقيق صالح الفرد والمجتمع معاً، وقد جاءت لنا الوسائط الرقمية الشائعة بنوع من القدرة السهلة والجاهزة للحصول على المعلومة، إنما دون توظيفها لاحقاً في صيغة معرفة هادفة تقود إلى خبرة منتجة، وتفاقمت هذه الإشكالية بعد انحسار الرغبة في القراءة الرصينة والاستعاضة عنها بالمتعة الصورية العابرة المفتقدة لأي قيمة فلسفية، ووصل الأمر حداً بلغ معه مرتبة المعضلة القومية في كثير من الدول بعد أن شهدت مخرجات التعليم تباطؤاً واضح المعالم في القدرات الجمعية. يمكن للرواية - وسط بيئة بهذه المواصفات - أن تكون وسيطاً معرفياً معتمداً أكثر من أي وسيط آخر لتوفير المعرفة الهادفة عبر توظيف وسائلها اللامحدودة في المناورة والقدرة على تمرير الأفكار في إطار جمالي مغلّف بالمتعة.
تلمستُ - في قراءاتي للرواية وعبر ترجماتي لحوارات كثيرة مع كُتّاب الرواية وكاتباتها - ميلاً طاغياً للروائيين المعاصرين نحو جعل الرواية نصاً معرفياً، وسنلمس في روايات القرن الحادي والعشرين قبسات متزايدة من المعرفة العلمية والفلسفية والسيكولوجية والتأريخية تتواشج مع الصفات الخاصة لكل شخصية، وتبرز اهتماماتها وأحلامها ونمط سلوكها، ويتفق هذا الأمر مع القناعة المتزايدة بأن الرواية الحديثة ستلعب في السنوات المقبلة دور «الحاضنة المعرفية»، التي تزوّد الأجيال المسحورة بالعالم الرقمي بقدر معقول من تلاوين المعرفة المتجددة، وسيكون بوسع الروائي البارع (عبر مقاربة مفردات المعرفة بوسائل ناعمة وسلسة) إعادة التوازن بين المعرفة التحليلية والمعرفة الرقمية المهيمنة ليساعد بعمله الإبداعي على تعزيز كفاءة قرائه في استخدام الطاقات الخلاقة المتاحة للعقل البشري.
يُلاحَظُ في عصرنا الراهن خفوت الجانب البحثي الاستقصائي المتّسم بالفضول المعرفي لدى معظم البشر في المجتمعات كلها، وقد يعزو البعض هذا الأمر إلى أن المهمة البحثية الاستقصائية واجب تنهض به المؤسسات الخليقة بأداء هذا الدور (الجامعات ومراكز البحوث العلمية والتقنية والإنسانية)؛ غير أن وهناً ملحوظاً أصاب مراكز البحث التقليدية هذه، وبخاصة بعد شيوع المعرفة الرقمية التي ستعمل مع الزمن على قلب الموازنة لصالح التعليم الفردي من منصّات إلكترونية؛ الأمر الذي يبشّر بثورات جذرية في أنماط التعليم السائدة.
سنشهدُ في السنوات القليلة المقبلة تعاظماً ملحوظاً في توظيف الرواية كوسيط معرفي تعمل بمثابة جسر يقود القارئ للاطلاع على معرفة تأسست قواعدها الحاكمة - في أقل تقدير - وباتت جسماً معرفياً حائزاً على كافة شروط القبول والاعتراف الرسمي والأكاديمي العالمي، ويمكن إيراد أمثلة كثيرة لهذه المعرفة في الميادين العلمية والأدبية والإنسانية، والتي ستصبحُ ميداناً للتناول الروائي الدقيق: الهندسة الوراثية وتقنيات الاستنساخ الوراثي، أدبيات ما بعد الحداثة، العولمة - بكل أشكالها - وتصدّع الهياكل التقليدية للمنظومات السياسية والاقتصادية الحاكمة، العوالم الافتراضية وإسقاطاتها على البنية النفسية للفرد. يمكن للرواية المعرفية أيضاً أن تكون مجسّاً استقصائياً في ثنايا معرفة لم تتشكّل بعدُ ولم تزل في طور التأسيس وتوطيد الأركان ورسوخها، وسنرى في السنوات المقبلة الكيفية التي سنعرف بها عن حقول معرفية مستجدة عبر قراءة روايات خاصة بشّرت بتلك المستجدّات، وفي الغالب سيكتب تلك الروايات علماء وباحثون ساهموا في تطوير تلك الحقول المستجدة.

* كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي