نقوش بوابات ومباني القاهرة التاريخية وثيقة اجتماعية وثقافية

مشروع لترميم واجهات تضم نصوصاً عن الضرائب والأسعار

{باب النصر} أحد بوابات القاهرة التاريخية
{باب النصر} أحد بوابات القاهرة التاريخية
TT

نقوش بوابات ومباني القاهرة التاريخية وثيقة اجتماعية وثقافية

{باب النصر} أحد بوابات القاهرة التاريخية
{باب النصر} أحد بوابات القاهرة التاريخية

عبر مسارات جديدة، تسعى مصر لإبراز المزيد من جماليات وفنون وقصص «القاهرة التاريخية»، وذلك عبر تسليط الضوء على تفاصيل مختلفة مما تحويه من كنوز ومكونات ثقافية ما زالت تواصل الكشف عن أسرارها تباعاً.
وتمثل النقوش التي تزين بوابات ومباني القاهرة وثيقة اجتماعية واقتصادية للفترات وأنظمة الحكم التي عاصرتها مصر، فيما تعمل وزارة الآثار راهناً على مشروع لترميم مجموعة من هذه النقوش التي تكشف عن «تفاصيل مختلفة عن القرارات الإدارية خلال عصر الدولة المملوكية، يتعلق بعضها بالضرائب والأسعار، وهي لافتات كانت تعلق أو تكتب على مداخل القاهرة وبناياتها التي تقع في قلب تحركات وزحام الحياة اليومية للمواطنين».
النقوش التي تم حصرها عبارة عن نصوص مكتوبة بخط النسخ في لوحات رخامية على مداخل القاهرة التاريخية وبعض بناياتها التراثية في شارع المعز ومنطقتي الأزهر والغورية.
وفضلاً عن الهدف الأثري من مشروع ترميم النقوش الذي تنفذه «الإدارة العامة للقاهرة التاريخية بوزارة السياحة والأثار المصرية»؛ فإن عملية الترميم تفتح مسارات جديدة لحكايات وقصص تراثية وتاريخية مختلفة عن الضرائب والأسعار في العصر المملوكي، حيث «سيتم صياغة هذه الحكايات لتكون مادة للحكي لزوار المنطقة»، وفق محمود عبد الباسط، مدير عام القاهرة التاريخية، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن النقوش تحمل قيمة ثقافية كبيرة بجانب قيمتها التراثية الأثرية، فبعضها يوثق للقرارات الإدارية في عصر المماليك، وهي قرارات تتعلق بنسب الضرائب على البضائع والأسعار وغيرها، فكانت تكتب على جدران البنايات، أو يقوم (المحتسب) وهو مندوب السلطان في المنطقة بالتجول بشوارع القاهرة للإعلان عن هذه القرارات».
ومن بين أبرز النصوص لوحة رخامية على البرج الغربي لباب النصر (أحد بوابات القاهرة التاريخية)، وتضم مرسوماً مملوكياً خلال فترة تولى الأمير سودون نيابة السلطنة ومؤرخ في الفترة ما بين (784 - 802 هـجرية) (1382 - 1399ميلادية) ونصه «بحسب ما رسم نائب السلطنة العظمى المعز العالي سودون من عراقة الجمال بأن يؤخذ على كل حمل خمسة، وملعون من يأخذ أكثر من ذلك أو يحدث مظلمة في أيام الدولة العلية».
وتشرح فاطمة الزهراء محمد علي، مفتشة الآثار بالإدارة العامة للقاهرة التاريخية، لـ«الشرق الأوسط» أن «النص يعني دفع رسوم دخول وخروج التجار إلى سوق القاهرة، وهو 5 دراهم يحصلها (العارف)، وهو وكيل التجار أو المفتش الذي يقوم بتحصيل الضريبة على كل حمولة يحملها الجمل».
نص آخر على الواجهة البحرية لمجموعة قلاوون يبرز جانباً مختلفاً من القرارات الإدارية السلطانية في العصر المملوكي، يتعلق بتوسيع دائرة استفادة الورثة من ريع الوقف، وهو مؤرخ رسمياً في 17 ذي الحجة سنة 791 هـجرية «26 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1388ميلادية، وجاء نصه» برز المرسوم الشريف... أن ينعم على مستحقي ريع وقف البيمارستان المنصوري ما يخص بيت المال السلطاني من إرث من يتوفى من أرباب وظائفه وسكان أوقافه...»...
وكلمة بيمارستان كانت تعني مستشفى، ويوثق النص بحسب فاطمة الزهراء لتنازل الدولة عن حقها في ريع الأوقاف التي مات أصحابها لتوسيع دائرة المستفيدين منها، «والمقصود بالريع هي الأموال التي تنتقل ملكيتها من المستخلف عنهم إلى ورثتهم، وهو ما أقره الدين الإسلامي أن من يموت وليس له وارث، فإن أملاكه وأمواله تنتقل إلى بيت المال لتخصص للإنفاق على المرضي وشراء الأدوية لهم وعلاجهم، وإلي أكفان الموتى الذين لا مال لهم، ونفقة من هو عاجز عن الكسب وليس له قريب يعيله».
ويتضح من المرسوم تنازل السلطة المملوكية عما يخص بيت المال من أموال من يموت ولم يكن له وارث، والإنعام على مستحقي ريع البيمارستان المنصوري على اختلاف وظائفهم. وكان الغرض من هذا المرسوم هو التوسعة على المستفيدين من ريع هذا الوقف من إرث أربابه ومباشريه وسكانه.
ويتضمن مشروع الترميم مجموعة من النصوص المتنوعة توثق لجوانب مختلفة من القرارات الإدارية في العصر المملوكي، بعض هذه النصوص قد لا يتمكن المرممون من إعادتها إلى حالتها الأصلية، إذ تفتت بعضها، وفقد بعض الكلمات من نصوصه بحسب محمود عبد الباسط، مدير عام منطقة القاهرة التاريخية، الذي يشير إلى أن «بعض النصوص ضاعت منها كلمات كثيرة، لذلك سنقوم بترميمها فقط دون محاولة إضافة الكلمات التي فقدت حتى لا يؤثر ذلك على قيمتها التراثية، وستقوم بإضافة لوحات حديثة ملحقة بجانبها تشرح مضمون النص والكلمات المفقودة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)