درج المسؤولون السودانيون في الحكومة الانتقالية وموقعو اتفاق السلام، على إطلاق عبارة «تكلفة الحرب أكبر من تكلفة السلام»، بمواجهة الأسئلة التي تثيرها الالتزامات المالية لاتفاقية جوبا، في الوقت الذي يشهد فيه السودان أوضاعاً اقتصادية «مهلهلة»، أعجزت الخرطوم عن توفير الحاجات الأساسية مثل «الخبز والمحروقات والدواء»، كما أن توفير استحقاقات السلام المالية ينتظر حدوث معجزة، ولا يعرف ماذا سيحدث لو فشلت في الإيفاء بتعهداتها في مواقيتها.
وتحتاج الحكومة الانتقالية لعشرات المليارات من الدولارات للإيفاء بالتزاماتها تجاه السلام، وقد جاء في «بروتوكول قسمة الثروة» اتفاقية السلام الموقعة في جوبا 3 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على التزام الحكومة السودانية بمبلغ 750 مليون دولار سنوياً على مدار 10 سنوات تخصص لصندوق دعم سلام دارفور وحده، وتوفير مبلغ 100 مليون دولار بعد شهر من توقيع الاتفاق، وتخصيص 40 في المائة من عائدات الإقليم لمدة 10 سنوات للإقليم.
ولخصت وزيرة المالية المكلفة هبة محمد علي في تصريحات الأسبوع الماضي متطلبات السلام بنحو 7.5 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة، وقالت إن وزارتها ستعمل على حشد الموارد لتوفير متطلبات السلام في الموازنة العامة ومؤسسات التمويل الدولية والإقليمية، وأصدقاء وشركاء السودان، بالتنسيق مع البعثة الأممية المتكاملة لدعم الانتقال في السودان «يونيتامس».
ويعاني الاقتصاد السوداني أزمة هيكلية، أدت لتدهور حاد في سعر صرف العملة الوطنية «الجنيه» الذي يبلغ سعره نحو 55 جنيهاً للدولار بحسب بنك السودان، وأكثر من 250 جنيها للدولار في السوق الموازية، وارتفاع حاد في معدلات التضخم بلغت 166.83 في المائة خلال أغسطس (آب) الماضي مقارنة مع 143.78 في يوليو (تموز) الماضي.
وتبعاً لتدهور الأوضاع الاقتصادية والانخفاض غير المسيطر عليه لصرف الجنيه السوداني، تزايدت ندرة وغلاء السلع الرئيسية مثل الخبز ودقيق القمح والوقود وغاز الطهي والدواء، وغيرها يعاني السودان من أزمات متجددة في الخبز والطحين والوقود وغاز الطهي، في وقت بلغت فيه ديون السودان الخارجية نحو 60 مليار دولار.
ولمواجهة هذه التحديات أعلنت الحكومة حالة «الطوارئ الاقتصادية»، للحد من تدهور سعر صرف العملة الوطنية، وبموجبها سنت قوانين رادعة ضد المضاربين في العملات، وعقدت نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي «مؤتمرا قوميا اقتصاديا» أوصى بتحديد أولويات التنمية، وإزالة التشوهات الهيكلية في الاقتصاد، وتنفيذ أولويات الانتقال بما في ذلك إيقاف الحرب وبناء السلام، ووضع برنامج تنموي قومي، يساعد على إقامة الدولة التنموية الديمقراطية.
ودولياً، يجري السودان مباحثات مع الإدارة الأميركية لحذفه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بما يمكن من إعادته للنظام الاقتصادي الدولي، وبالتالي يستطيع الاستفادة من مبادرة البلدان الفقيرة الشديدة المديونية «هيبك» في إعفاء ديونه، والحصول على قروض من مؤسسات التمويل الدولية.
وأكدت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، أنها شرعت في وضع خطة لتنفيذ متطلبات اتفاقية السلام الاقتصادية وكيفية تطبيق بنودها، لكن الوزارة لم تحدد مصادر تمويل هذه المتطلبات، في وقت يخشى فيه الكثيرون من فشل الحكومة في توفير الالتزامات المالية والاقتصادية التي تمكن من تنفيذ الاتفاقية وفقاً للمصفوفة الزمنية.
ووصف أستاذ الاقتصاد بجامعة أم درمان الأهلية أحمد محمد حامد، الحرب والصرف عليها بأنه عملية غير منتجة ومعيقة، وينتج عنها فقدان موارد ضخمة تؤثر سلباً على الاقتصاد، وحذر مما سماه الإنفاق غير المنتج على السلام، وقال لـ«الشرق الأوسط» أمس: «الإنفاق المنتج يستفيد منه المنتجون، ويساهم عائده في محاصرة الأزمة الاقتصادية». وتابع: «إذا انحصر الصرف على المناصب والوقود وإيجار منازل، سيكون عبئاً حقيقياً على الاقتصاد، وبالتالي لن يحقق المطلوب».
واشترط حامد إعادة هيكلة الاقتصاد للوفاء بالتزامات السلام، عن طريق خفض الإنفاق العسكري والأمني والشرطي والسيادي، وأضاف: «إذا تم خفض الإنفاق الحكومي يتم توجيه الموارد لتمويل السلام، وإلا ستضطر الحكومة لتحميل المواطن عبء تمويل السلام، ما يزيد من التوترات الاجتماعية ويفاقم عدم الاستقرار السياسي»، وشدد على أهمية إلحاق تبعة الشركات التابعة للجيش والأجهزة الأمنية والشركات الرمادية بوزارة المالية، لما تشكله من مصادر ضخمة للإيرادات تمكن الحكومة من تمويل الإنفاق على السلام. ولا يعول حامد على وعود المانحين في دعم عمليات السلام في السودان بقوله: «الدول المتقدمة تعلن أنها ستقدم المساعدات، لكن دائماً حصيلة وعودها صفر، مقارنة بما حدث في اتفاقية السلام السودانية وبلدان أخرى»، وأضاف: «المجتمع الدولي يعد لكنه لا يفي بكل ما يعد به».
وقال عادل خلف الله، عضو اللجنة الاقتصادي لتحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير» الذي يمثل المرجعية السياسية للحكومة الانتقالية، لـ«الشرق الأوسط»، إن الاتفاق خطوة مرحب بها، بيد أن تفاصيله قد تقود لتحفظات على بعضها، وتابع: «نحن حريصون على الوصول لسلام شامل يحقق للشعب الديمقراطية، بعد أن تخلصنا من أكبر عقبتين وقفتا أمام الحلول الوطنية لأزمة التطور الاقتصادي في البلاد، وهما «الديكتاتورية والحروب».
وأوضح أن الاتفاقية وفرت جواً مواتياً لتحقيق السلام، وتحقيق التوازن الاجتماعي بين الأقاليم أو القطاعات الاقتصادية أو بين العرض والطلب، وتابع: «الحروب والديكتاتورية ضيعت على السودان فرصا وأموالا طائلة لا تعوض، وإسقاطها وتوقيع السلام سيعوض الفرص الضائعة، بتوجيه ما ينفق على حماية النظام المعزول وأجهزته وتوسعة خيار الحرب، إلى موارد تدعم التنمية ودعم المجتمعات الأكثر تأثراً».
وقال إن ميزانية 2020 أنشأت صندوقا وطنيا لبناء السلام، رصدت له مبالغ بالمكون المحلي والأجنبي، مصحوبة باستنفار شعبي واسع في صناعة السلام، مع الإبقاء على «العشم» في المساهمات الإقليمية والدولية، إضافة إلى فرض سياسات تقشفية تخفض سقف الإنتاج الحكومي الاستهلاكي.
وبدا غير متفائل بمدى استطاعة الحكومة إيفاء التزامات السلام في وقتها، وقال: «من تجربة زيادة الأجور والأوضاع الاقتصادية المعلومة، ستواجه الحكومة صعوبات للوفاء بالتعهدات بالتوقيتات المعلنة»، وتابع: «الأمر يستوجب على الحكومة القول صراحة بأن المبالغ المرصودة لا تفي بالمطلوبات في توقيتاتها، إلا في حالة حدوث معجزة، أو تكون للحكومة مصادر غير معلنة».
السودان بانتظار معجزة اقتصادية تمكنه من الوفاء بالتزامات السلام
خبراء: إلحاق تبعية شركات القطاع الأمني بالمالية يوفر موارد كبيرة للدولة
السودان بانتظار معجزة اقتصادية تمكنه من الوفاء بالتزامات السلام
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة