ديڤيد ثيوليس لـ«الشرق الأوسط»: التمثيل عندي يبدأ من التاريخ غير المكتوب للشخصية

اهتمامه بالموسيقى قاده للتمثيل

ثيوليس في «باركسكين»
ثيوليس في «باركسكين»
TT

ديڤيد ثيوليس لـ«الشرق الأوسط»: التمثيل عندي يبدأ من التاريخ غير المكتوب للشخصية

ثيوليس في «باركسكين»
ثيوليس في «باركسكين»

تتم المقابلات المختلفة في عالم الميديا والفنون من مسافات آمنة جداً هذه الأيام. ليس على بعد مترين أو ثلاثة، ولا حتى عشرة أمتار، بل على بعد كيلومترات. وفي هذه المقابلة، مع الممثل البريطاني ديفيد ثيوليس، عبر القارات.
لمن ما زال لا يعرف هوية هذا الممثل وشأنه، فإن ثيوليس المولود قبل 57 سنة من المخضرمين في مجال التمثيل. ترعرع منفتحاً على الأدب والفن، فكتب الشعر وألّف الموسيقى، وانضم إلى فرقة موسيقية باسم «Door 66»، ثم دخل معهداً لدراسة الدراما، وتخرج منه سنة 1985، إنما بتوجه جديد… الآن، بات يرغب في أن يُصبح ممثلاً. ومن عام 1987، أخذ يظهر في الإعلانات التجارية، ثم باشر الظهور في أدوار تلفزيونية صغيرة من سنة 1988 فصاعداً.
وفي عام 1990، قام المخرج مايك لي بمنحه دور البطولة في «عار» (Naked)، بعدما كان ثيوليس قد ظهر تحت إدارته في دور صغير في فيلم «الحياة حلوة» (Life is Sweet). وارتفع نجم ثيوليس بصفته ممثلاً مختلفاً في أماراته وتعابيره وأدائه عن باقي زملائه. وشملت أفلامه في التسعينيات: «جزيرة دكتور مورو» و«دراغونهارت» و«سبع سنوات في التيبت». ولاحقاً، انضم سنة 2004 إلى ممثلي سلسلة أفلام «هاري بوتر». واستمر منوال عمله في تصاعد حتى خلال الحقبة التالية، فظهر كذلك في «نظرية الصفر» (2013) و«نظرية كل شيء» (2014)، كما في فيلم «ماكبث» (2015)، وتبعه بعد عامين بفيلم «ووندر وومان»، والآن هو واحد من ممثلي المسلسل التلفزيوني «Fargo».
وحالياً، هو أحد ممثلي سلسلة فيلمية أخرى، هي «Avatar» (آفاتار) الذي يلتقط إيقاعه بعد توقف قصري. وعلى الشاشة الصغيرة هو أحد ممثلي مسلسل «Barkskins». وعلى عكس سواه، لا يفكر ثيوليس فيما بعد هذين المسلسلين. «كلاهما سيأخذ مني عدة سنوات، فلم أفكر فيما سيلي!»، كما يقول.
وفيما يلي نص الحوار:
-- عن السيناريو ومشاكله
> شاهدت بعض حلقات مسلسل «باركسكين» الذي يتألف من مواقع زمنية ومكانية غريبة على المسلسلات التلفزيونية… جديد من نوعه…
- سعيد بأن أسمع ذلك، وقد سمعته من آخرين. أعتقد أن الغرابة كانت مهمّة أساسية من صانعيه. والكتاب إذا ما قرأته ستجده أيضاً غريباً؛ شخصياته تتشبّث بالمستحيل لكي تحافظ على استقلالها، في الوقت الذي تزحف فيه المدنية إلى حيث كانت قد قررت أن تعيش.
> ماذا تعني كلمة «باركسكين»؟
- اسم غير تقليدي لقاطعي الأشجار؛ الأشخاص الذين يعملون في الغابات، والذين بنوا قبل قرون ما نعرفه من حضارات، ومرّ التاريخ عليهم من دون اكتراث.
> ما الذي تغيّر من الكتاب إلى الشاشة بالنسبة إليك؟
- كثير مما ورد في الكتاب غير وارد في المسلسل، وكثير من هذا ليس وارداً في شخصيّتي. مثلاً، ما قرأته في السيناريو يختلف عما في الكتاب بالنسبة لخلفيّتي؛ أعني أنني أعيش في ذلك المكان النائي، ولدي ولد من امرأة من القبيلة التي تستوطن المكان، وهذا لم يكن موجوداً في الكتاب.
> عندما يحدث ذلك معك، أقصد عندما تجد أن بعض جوانب الشخصية ليست في الرواية، هل عليك أن تعتمد على تأليف خلفية خاصة بك؟
- طبعاً. السيناريو لا يدلف في تاريخ الشخصية إلا عندما تستدعي الحاجة. أما الممثل فعليه أن يبنى تاريخ شخصيّته لكي يتأقلم تماماً ما يقدّمه. لكن علاوة على ذلك، واجهتني صعوبة كبيرة عندما تم تصوير كثير من المشاهد الداخلية التي كان من المفترض بها أن تقع في المنزل الكبير الذي يعيش فيه خارج ذلك المنزل.
> لماذا؟
- لم يكن المنزل جاهزاً بعد؛ كان لا يزال قيد الإنشاء.
> ما تأثير ذلك عليك؟
- لم أكن أعلم أن المنزل كبير بهذا الحجم؛ لو كنت أعرف لسعيت صوب بلورة شخصيّتي على نحو مناسب أكثر للمكان. بالنسبة لي، كان ذلك بمثابة صدمة. في السينما، كل شيء جاهز قبل التصوير. في التلفزيون، لديهم منوال مختلف. قبل معرفتي حقيقة أنني لا أعيش في الأكواخ، بل في منزل كبير، أصبت بالهلع لأني كنت بنيت نفسي وخلفيّتي على نحو مختلف عما كان جديراً بي أن أفعل، ولو أنني كنت أعلم لمثلت الدور بانسياب أفضل… على ما أعتقد.
> لكن ذلك لم يؤثر سلباً أو إيجاباً على طريقتك في الأداء؛ لم ألحظ ذلك.
- لا أعتقد أنه أثر سلباً أو إيجاباً. كان لا بد أن انصهر في خلفية جديدة لا تظهر على الشاشة. التمثيل عندي لا يبدأ من اللقطة الأولى، بل من التاريخ غير المكتوب للشخصية. لا بد لي أن أؤلّف التفاصيل، مثل: متى جاء إلى كندا؟ لماذا اختار أن يعيش هناك؟ ما الذي وجهه لكي يعمل في حقل الأخشاب؟ أو لماذا اختار العيش في الغابات على العيش في المدن.
> هذه المسائل لا يحلّها، أو على الأقل يمهّد لها، السيناريو المكتوب للسينما؟
- نعم. ولا أقصد أن المسلسلات التلفزيونية لا تكترث للسيناريو، لكن سيناريو الفيلم يختلف لأن الفيلم مؤلف من ساعة ونصف أو ساعتين، وعليه أن يقول كل شيء وإلا فشل. هل قرأت الكتاب؟
> لا. وصلني متأخراً، وهو في نحو 700 صفحة؛ لم يكن هناك وقت لذلك.
- أفهم هذا تماماً. حتى أنا قرأته على نوع من الاستعجال، ثم قرأت الصفحات المائة الأولى، لأن الحلقات الأولى من هذا المسلسل مبنية على تلك الصفحات، بتأن وإمعان. الرواية مذهلة في الحقيقة، وتقع في القرن السابع عشر، عندما كانت كندا ما زالت أرضاً غير مطروقة؛ مدنها القليلة كانت مجرد محطات ومعسكرات.
-- شخصيات متعددة
> عندما كنت في مطلع عهدك بالعمل ممثلاً، هل كان لديك من بين الممثلين من تأثرت به؟
- عندما كنت أدرس الدراما، كنت أرغب في أن أتبع خطوات جون هيرت؛ كان بالنسبة لي «موديلاً» متميزاً بين الممثلين، وأعتقد لليوم أنه كان من أروع الممثلين.
> ظهرتما معاً في بعض أفلام «هاري بوتر»…
- نعم، التقينا خلال تلك الفترة.
> بعض الممثلين يجدون أنفسهم، وربما بسبب نوعية العروض التي يتلقونها، يكررون أدوارهم من فيلم لآخر، لكن أنت لا تفعل ذلك؛ لا أجدك في دورين متشابهين. ليس أنني شاهدت كل ما قمت بتمثيله، لكني أقصد أنك تبدو جديداً في كل مرّة.
- هذا جيد. كلامك يجعلني سعيداً لأني دائماً ما أختار الأدوار التي لا أكرر فيها نفسي. أحاول على أي حال لأنه في بعض الحالات تعرف أنك تريد تمثيل هذا الدور الذي يشبه دوراً سابقاً.
> هل لعبت دوراً كان قريباً جداً منك؟
- لم أفعل ذلك إلا في أفلام قليلة جداً. المفترض بالممثل أن يبتعد عن شخصيته، وليس أن يقترب منها. أحد أدواري الأولى التي كانت شبيهة بشخصيتي إلى حد كبير كان فيلمي الأول «منبعث» (Resurrected) الذي دار حول حرب فوكلاندز، وكنت في الحادية والعشرين من عمري.
> من المهم جداً أن تكون هناك تلك المسافة النفسية والشخصية بين ما يؤديه الممثل وبين شخصيته. صحيح؟
- طبعاً. كلما ابتعد عن شخصيته الخاصة ارتفع التحدي الذي يواجهه، في رأيي. من المثير كثيراً أن يؤدي الممثل شخصية مختلفة قدر الإمكان. ليس الأمر السهل طبعاً، لكن صعوبته جزء مما هو مثير.
> نلت جائزة مهرجان «كان»، كأفضل ممثل عن فيلم «عار». كيف شعرت حينها خصوصاً أنها كانت جائزتك الأولى كممثل؟
- ماذا تريدني أن أشعر؟ دوري في هذا الفيلم منحني ثلاث جوائز، أولها من «كان»، كما ذكرت. شعرت بالفرح الطاغي. وعندما صعدت المسرح لتسلم الجائزة، أردت أن أقول أكثر مما قلت. فكّرت في أن أصف كيف كان هذا الفوز نتيجة تعاوني مع المخرج مايك لي، وكيف توصلت إلى تأدية دوري على النحو الذي في الفيلم. لكني اختصرت.
> هو من الأفلام المهمّة في تاريخك، ما الأفلام الأخرى المهمّة من وجهة نظرك؟
- «عار» كان أول دور مهم بالنسبة لي. الأدوار السابقة كانت مثل الدرجات التي تصعدها لكي تجد الدور الأكبر بانتظارك. الدور الذي يفتح الباب على المزيد، على السبب الذي من أجله رغبت في أن تصبح ممثلاً. أحب أدواري في «دراغونهارت» و«سبع سنوات في التيبت» و«تايملاين»… «ذَ بيغ ليبوڤسكي» مثلاً…
> أخرجت فيلماً واحداً في حياتك، ثم توقفت.
- نعم. (Cheeky)، سنة 2003.
> لماذا أخرجته؟ ولماذا لم تكمل؟
- أردت في تلك الأثناء أن أقوم بتجربة نفسي وراء الكاميرا، لكني كنت أطمح لفيلم آخر عوض هذه البداية. أساساً، كتبت السيناريو على أساس أن يقوم مخرج ما بتحقيقه، لكن المشروع آل إلي، ولم أستمتع به مطلقاً. كان علي أن أمثّل الدور الرئيسي أيضاً، وهذا ما قمت به، لكن لهذا السبب شعرت بالإرهاق. لم تكن تجربة مفيدة، ولذلك لم أكررها.
> قرأت أنك أردت فيلماً مختلفاً شبيهاً بأفلام لوي بونييل. صحيح؟
- نعم. كنت أريد استعارة طريقته في مزج الحكاية بمواقف سوريالية. الفيلم كوميدي، واعتقدت أن ذلك سيكون سهلاً عليّ؛ الحقيقة لم يكن.
-- رواية وموسيقى
> تلتحق بفريق «أڤاتار» قريباً…
- نعم، خلال أيام.
> لكن سؤالي كيف قضيت الوقت الذي لزمت فيه المنزل بسبب ظروف الوباء؟
- كنت قد بدأت كتابة رواية، والواقع أني أنجزتها قبل الحجر الذي فرضته الظروف علينا. هي روايتي الثانية، وقد بدأت كتابتها قبل سنة، وهي الآن في طريقها للنشر. خلال الفترة التي نتحدث فيها، راجعتها قليلاً قبل إرسالها إلى الناشر، ثم وجدت نفسي أعيش في وقت ضائع. قررت أن أكتب رواية ثالثة، لكني أمضيت معظم الوقت أبحث عن فكرة جديدة، والآن ليس لدي الوقت للبدء فيها لأن علي أن أعمل مجدداً.
> حين تجلس في مواجهة التلفزيون، هل تفكر بالطعام أيضاً؟
- (يضحك)… لم أكن يوماً طباخاً ماهراً، لكن هذا لم يمنعني من التجربة. تريد أن تبتدع شيئاً فتتجه إلى المطبخ، وتبدأ العمل على ما تعرف أنك لا تجيده (يضحك). من حسن الحظ أن زوجتي كانت تطردني من المطبخ دائماً؛ اكتفيت بأن أصبحت مستهلكاً فقط.
> فنياً، بدأت موسيقياً. هل ما زالت الموسيقى مهمّة عندك اليوم، كما كانت بالأمس؟
- نعم. مهمّة جداً جداً في حياتي. مارست العزف في فرقة هارد روك في أواخر السبعينيات. هكذا، بدأت الاهتمام بالفنون، والموسيقى قادتني للتمثيل لأنني ورفيقاي في الفرقة فكّرنا بالانضمام إلى معهد درامي نتيجة اهتمامنا بالموسيقى. دخلنا جميعاً مدرسة الدراما، ثم التقينا لنبحث في المستقبل. رفيقاي اقترحا أن نعود للعزف من جديد، وتقديم الحفلات. ومن يدري، قد نصبح نجوم غناء، لكني لم أوافق. كان حب التمثيل قد جذبني تماماً. كنت قد تعرفت خلال دراستي على تشيخوف وبيكيت ووايلد، ولم يعد من السهل أن أتراجع عن عالم هؤلاء، وعن عالم الأدب كله. أصبحت داخله. لكن علاقتي بالموسيقى لم تتوقف. أحياناً كثيرة، أجلس وغيتاري وأعزف.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».