ديفيد هوكني وحياة من الرسم والإبداع

المعرض الأخير للفنان البريطاني يركّز على العلاقات بين الناس

«غريغوري - لوس أنجليس - 31 مارس 1982» صورة فورية مركبة
«غريغوري - لوس أنجليس - 31 مارس 1982» صورة فورية مركبة
TT

ديفيد هوكني وحياة من الرسم والإبداع

«غريغوري - لوس أنجليس - 31 مارس 1982» صورة فورية مركبة
«غريغوري - لوس أنجليس - 31 مارس 1982» صورة فورية مركبة

سواء كانت تربطنا بهم قرابة الدم من عدمه، فلم يفارقنا أحباؤنا أبداً طيلة الشهور العديدة الماضية. كان بعضهم برفقتنا بصورة حقيقية، رفقة الكتف بالكتف، يحتمون داخل المنازل، ويعززون من المعنويات، ويشدون من روابط القرابة والألفة التي تجمع بيننا. أو لعلهم يرافقوننا من على بُعد، في شوق وحنين، عبر المسافات البعيدة، وربما المحيطات التي تفصل بيننا. وهناك أحبة آخرون لم يعودوا بين الأحياء، وربما كان غيابهم عنّا ناجماً عن الجائحة القاسية الراهنة، مخلّفين وراءهم فراغاً كبيراً وموجعاً ومجدداً الشكوك بأنهم قد ضاعوا بلا جدوى.
يدور معرض «ديفيد هوكني: الرسم من الحياة» المؤثر للغاية والجاذب لأعين المشاهدين حول الأحبة والطبيعة المعقدة المتّسمة بالتغيير المستمر في العلاقات والأشخاص الذين ينسجونها. ويتخذ المعرض موقعه لدى مكتبة ومتحف «مورغان»، حيث تنظمه السيدة سارة هاوغيت من «ناشونال بورتريه غاليري» (معرض الصور الوطني) في العاصمة لندن، وتشرف عليه السيدة إيزابيل ديرفو، لدى متحف «مورغان». ولقد جرى تخصيص المعرض للصور والتصاوير الذاتية التي يبلغ عددها 125 صورة كلها على الورق. وهو يعكس أعمال الفنان –كالمعتاد– بكامل طاقته من دون توقف، وعلى مختلف المقاييس فيما لا يقل عن عشرة أشكال متنوعة من الرسم (بالقلم الرصاص، والحبر، والفحم، وخلافه)، وأعمال الطباعة (الطباعة الحجرية، والحفر، والنقش باستخدام الصباغة المائية)، فضلاً عن الاستعانة بمستقطبات الصور الفورية وحاسوب آيباد اللوحي. إنه معرض أبعد ما يكون عن مجرد عرض الرسومات الشيقة للسيد ديفيد هوكني، بل إنه يمثل الانفتاح على التقانات الحديثة في العمل مع احترام أخلاقيات الفن باستمرار.
يعكس العنوان الفرعي للمعرض «الرسم من الحياة» مَيْل الفنان إلى حمل كراسة الرسم على الدوام ومواصلة العمل من واقع الحياة، مع محاولة تسجيل ما تراه عيناه أمامه. كما يشير العنوان إلى لمحات السيرة الذاتية التي يتسم بها مشروعه الفني. إنه يرسم من حياته الخاصة، ويصور الأشخاص الذين يعرفهم، ويهتم بشؤونهم، والمناظر الطبيعية من حوله، والمنال التي يسكن فيها بنفسه.
وفي حين أن المعرض غامر بالكثير من المواد، إلا أنه يركز بصفة كبيرة وخاصة على العلاقات العائلية الدافئة، إذ لا يصور المعرض أكثر من خمس شخصيات فقط: السيد هوكني، ووالدته، وثلاثة من المقربين إليه ممن عرفهم، وسافر معهم، ورسم صورهم في غير مناسبة على مدار خمسة عقود تقريباً: غريغوري إيفانز، صديقه المقرب للغاية، والأمين السابق لأعماله، ثم السيدة سيليا بيرتويل مصممة المنسوجات، وأخيراً السيد موريس باين المسؤول الأول عن طباعة أعماله، والذي يرتبط مع السيد ديفيد هوكني بعلاقة عمل وصداقة منذ بداية حياته المهنية.
إن كانت الصداقة من بين التيمات الرئيسية في أعمال ذلك المعرض، وكانت التيمة الأخرى تتمثل في براعة الرسم بمختلف المواد والأساليب المتنوعة، فإن الوقت في حد ذاته هو التيمة البارزة الثالثة. ينقسم معرص الصور إلى خمسة فصول –السير الذاتية الموجزة بلا كلمات معبرة – وفيه نرى أصدقاء السيد هوكني في حالات مزاجية متنوعة وبيئات مختلفة مع تقدمهم في العمر والحياة. تماماً كما هو الحال مع أنفسنا، إذ يمكننا ملاحظة مرور الوقت على وجوههم.
يحاول السيد هوكني توثيق حياته بصورة أساسية على النحو الذي تشابكت وارتبطت فيه مع بقية الأشخاص. ربما يحمل هذا التصور معاني حرفية في وقت من الأوقات، كما هو الحال تماماً في الرسم بأقلام الرصاص الملونة والمبهجة لصورة تحمل عنوان «دراسة لوالدي ولنفسي»، والتي انتهى منها داخل غرفة أحد الفنادق في العاصمة الفرنسية باريس في عام 1974. وفيها، يظهر وجه الفنان –المنعكس على مرآة منضدة التزين، بين وجهي والديه، متخذاً وضع الجلوس قبالة صف من الستائر الصفراء الداكنة. كان والده مهندماً وأنيقاً للغاية في ملابسه، في حين كان فستان والدته واسعاً وفضفاضاً في تمدد وارتجال غير مقصود، مما كان مناسباً تماماً كي يعكس شخصيتها الأكثر دفئاً، واحتواءً، وتشجيعاً لأعمال ابنها. وترجع واحدة من أكثر صورها المؤثرة إلى يوم الأحد الموافق 19 فبراير (شباط) 1978، وهو يوم وفاة زوجها الحبيب. رُسمت تلك الصورة الحزينة بالحبر البُني الداكن (وقد كان اللون المفضل للفنان رامبرانت)، وكانت الوالدة ترتدي معطفاً وعلى رأسها قبعة، مع نظرات مشتتة في الفراغ تعكس هدوءاً عميقاً في نفسها، كما لو كانت تحاول تقييم المرحلة التالية من حياتها.
يقدم الجدار الأول في المعرض لمحة جيدة عن موهبة السيد هوكني المبكرة والتزامه بالفنون من واقع أعمال ترجع إلى خمسينات القرن الماضي من التي لا أعتقد أنها رأت النور في كثير من المناسبات في هذا البلد. ومن المثير للإعجاب بصورة خاصة تلك الصورة الذاتية من عام 1954، وهو العام الذي بلغ فيه السيد هوكني عامه السابع عشر. ومن المفهوم أنه كان يواصل دراسته في مدرسة برادفورد للفنون في مقاطعة يوركشاير في إنجلترا التي شهدت مولده في عام 1937، ولكنها الصورة التي لا تزال تثير فضول كل من يطالعها حول السبيل الحقيقي إلى تصويرها. إذ تتجمع الصورة في غالب أمرها من قصاصات صغيرة وملونة من صفحات المجلات اللامعة المصقولة والملصقة بدورها على ورق الجرائد، ويظهر فيها الفنان الشاب وهو يحاول سبر أغوار ذاته شاخصاً بناظريه إلينا في اهتمام. وتبدو رباطة جأشه وثباته واضحين للغاية في صورته مع نظارته الكبيرة وإطلالته برأسه نحو الأمام –حتى مع الظلال الباهتة التي تحوم حولها. والألوان الباهتة مثيرة للذهول في حد ذاتها، مما يثبت مدى أحقية السيد هوكني في تعزيز جاذبيته العفوية من خلال معالجة لون شعره على طريقة آندي ورهول من عام 1961 في أولى رحلاته المعروفة إلى مدينة نيويورك آنذاك.
تتناول الأجزاء المختلطة من الألوان التي تحدد المعطف الأزرق للفنان، والسترة ذات اللون الأزرق البحري، والوشاح الأحمر مع ربطة العنق الصفراء، المناخ التكعيبي متعدد الأوجه لمستقطبات بولارويد في تلك الصورة التي ترجع إلى ثمانينات القرن الماضي. والذكاء المرئي في أعماله واضح للغاية: فاللون الأحمر في الوشاح يشتمل على أجزاء صغيرة من وشاح أحمر مجعّد بطريقة أنيقة، كما لو كان مقتطعاً من أحد الإعلانات. وفي تحول في الوسائط، فإنه يُشار إلى النمط المربع بصورة عرضية لياقة القميص بشريط رمادي مصقول مثبّت على ورق أبيض مقطوع.
تشكل الأقسام المخصصة لأصدقاء السيد هوكني الجوهر الحقيقي للمعرض. حيث تُظهر تصاوير غريغوري إيفانز في وفرة من الصور ذات اللمحة الروائية من حيث الأسلوب، والوسط المحيط، والمظهر دائم التغير. وتبدأ صوره بجمال صبياني الطالع مع شعر طويل مجعد (مصور بلطف يعكس أسلوب هنري ماتيس الفرنسي ببراعة)، ولا يكاد يمكن التعرف عليه كشخص أكبر سناً، وأثقل ظلاً، وأكثر عبوساً من خلال النظارات التي يعتمرها على وجهه والمصوَّرة في الرسم بالحبر الكبير في نهاية المعرض.
تضيء السيدة سيليا بيرتويل الأنيقة –وهي تعد مصدر إلهام السيد ديفيد هوكني– المعرض بهدوئها الأخّاذ، وعينيها المكحلتين، وإحساسها الراقي بالموضة. وتتغامق روحها في مرة واحدة فقط عبر المطبوعة الحجرية الكبيرة من عام 1973 والتي تتنكر في شكل صورة مرسومة بالحبر، فيما تعد واحدة من أفضل الصور في المعرض على الإطلاق.
ينبغي للسيد موريس باين –وهو خبير الطباعة الذي تعاون مع السيد هوكني في العديد من أعماله ومطبوعاته– أن يكون موضع أكثر التيمات ثباتاً في أعمال السيد ديفيد هوكني. بالميل والاقتضاب، مع بعض التشابه الواضح لأعمال مارسيل دو شامب، فإنه يغيّر بدرجة طفيفة من وضعيته أو تعبيرات وجهه المدروسة، والتي تجعل من براعة السيد هوكني أمراً أكثر وضوحاً. ويمنح النقش الكبير والمكثف من عام 1998 توصيفاً رائعاً لطريقة الوسيط الخاصة به من خلال غرس اللون الأسود مع الضوء المركب.
وفي خاتمة المطاف، يرجع هذا العرض المفعم بالحيوية إلى صور الفنان الذاتية، والتي غالباً ما تكتنف ذاته في أثناء الرسم، مع نظرة حادة وصارمة للغاية، إلى كل ما هو أمام ناظريه. ويقدم الجدار الأخير في المعرض ثمانية رسومات ضخمة بالحبر –وأحيانا بالأكريليك– لأصدقائه الثلاثة القدامى. ولقد اعتنق كل منهم شيخوخته الذاتية بطريقة مختلفة. ويعكس وجه السيدة سيليا بيرتويل الأكثر ازدهاراً نبع الفضول الذي لا ينضب أبداً لدى الفنان الكبير. ومع الاقتراب من الرسومات من حيث تأثيرها على المشاهد، فإن الصور الثماني الأخيرة تشهد في وضوح على طموح السيد ديفيد هوكني غير المنقوص للوسيط صاحب الحلقة المركزية في جلّ إنجازاته الفنية. كما أنها تشهد مرة أخرى على أعباء المحبة في حياتنا والدور البارع للفنون في الإحساس بهذه المحبة من حولنا.
- خدمة «نيويورك تايمز»



«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.