«صفقة الجنوب» بعد سنتين... نموذج قلق لـ«سوريا المستقبل»

سباق روسي ـ إيراني وغارات إسرائيلية واغتيالات في ريفي درعا والسويداء

عناصر من قوات النظام السوري بمعبر نصيف في يوليو 2018 (أ.ف.ب)
عناصر من قوات النظام السوري بمعبر نصيف في يوليو 2018 (أ.ف.ب)
TT

«صفقة الجنوب» بعد سنتين... نموذج قلق لـ«سوريا المستقبل»

عناصر من قوات النظام السوري بمعبر نصيف في يوليو 2018 (أ.ف.ب)
عناصر من قوات النظام السوري بمعبر نصيف في يوليو 2018 (أ.ف.ب)

مرت سنتان على عودة قوات الحكومة السورية إلى المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية من البلاد؛ إذ سمحت «صفقة الجنوب»، بسيطرة الحكومة والرموز الموالية للنظام، على المناطق الريفية في درعا والقنيطرة بمباركة من الأردن وإسرائيل ضمن التفاهم المسبق الذي نشأ بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا.
وكان لزاماً لاستيفاء بنود «الصفقة»، أن تستسلم قوات المعارضة المتمركزة في درعا وتسلم أسلحتها مع الاكتفاء بما يمليه عليها النظام السوري من ظهور مقنن في صورة المجالس المحلية، في حين جرى طرد «القوات غير السورية»، وهو التعبير الواصف لميليشيات موالية لإيران، من المناطق الحدودية المتاخمة للأردن وخط فك الاشتباك في مرتفعات الجولان.
لكن بعد مرور عامين على إبرام الصفقة، لا تزال أعمال العنف في المنطقة التي لم تنعم بالأمن والاستقرار. هناك شعور عام بالإحباط لدى قادة قوى المعارضة الذين لم ينالوا حظهم من الحكم الذاتي المحلي الموعود، ولا تزال الحكومة الأردنية غير قادرة تماماً على إعادة توطين اللاجئين السوريين بأعداد كبيرة في الداخل السوري، فضلاً عن الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة على «مواقع إيران» التي غيرت هيئتها منذ إبرام الصفقة قبل عامين. ومع تحول الاهتمام الدبلوماسي إلى شمال غربي البلاد أو شمالها الشرقي، هنا ترجمة غير رسمية لبحث نشر في «مركز السياسات العالمية» في واشنطن، عن الدروس المستفادة من «صفقة الجنوب».

كانت روسيا – وهي اللاعب الرئيسي في الحلبة السورية منذ تدخلها العسكري في الحرب الأهلية للمرة الأولى في عام 2015 – القوة الدافعة المحركة وراء إبرام تلك الصفقة من الأساس. وترجع تلك الصفقة بأصولها إلى الاتفاقية الأولى المبرمة في مايو (أيار) عام 2017 بين كل من روسيا وإيران وتركيا والمعنية بإنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد العسكري في سوريا، وكان الغرض الروسي منها معاونة الحكومة السورية على إلحاق الهزيمة بقوى المعارضة السورية وبقوات «الجيش السوري الحر».
وفي تلك الأثناء، كانت الولايات المتحدة الأميركية تعتمد سياسة أكثر ضلوعاً وانخراطاً في الشأن السوري، سواء كان ذلك بصورة علنية من خلال قاعدة التنف العسكرية، حدود روسيا والعراق والأردن، في محافظة حمص والمخصصة لتدريب القوات المكلفة بمكافحة تنظيم «داعش» الإرهابي في المنطقة، أو بصورة سرية من خلال الجهود التي كانت تشرف عليها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) من تدريب وتسليح قوى المعارضة السورية. وكان أحد أغراض الولايات المتحدة من وراء ذلك هو دعم وحماية مصالح الحلفاء الإقليميين؛ الأمر الذي جعل من المشاركة الإيرانية في المحادثات في آستانة، من الأمور الباعثة على القلق لدى واشنطن.
وفي يوليو (تموز) من عام 2017، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين عن اتفاق وقف إطلاق النار بين القوات الحكومية السورية وقوى المعارضة. وكان الرئيس الأميركي ترمب - قبل إبرام ذلك الاتفاق – قد أوقف تماماً جهود وكالة الاستخبارات الأميركية في تمويل قوى المعارضة السورية، فيما يعد موافقة ضمنية من جانبه على السماح للجانب الروسي بالحفاظ على اليد العليا والكلمة الأولى في الشأن السوري. ولقد حاولت روسيا ممارسة بعض الضغوط على الولايات المتحدة بُغية إغلاق قاعدة التنف، لكن لم يتم التوصل إلى اتفاق واضح في هذا الصدد حتى الآن. واستمرت المحادثات المشتركة بين الجانبين الأميركي والروسي منذ ذلك الحين، وعلى وجه التحديد فيما يتصل باستمرار التواجد العسكري الإيراني وأمن إسرائيل، وذلك حتى تاريخ التوصل إلى اتفاق في عام 2018 قضى بإخراج القوات والميليشيات الموالية لإيران من الجنوب السوري بالكلية.
وشنت القوات الحكومية السورية في يوليو 2018، حملة عسكرية جديدة بدعم من القوات الروسية على محافظتي القنيطرة ودرعا. وحسب مسؤول رفيع، في قوى المعارضة السورية، فإن تسليم «الجيش السوري الحر» أسلحته جاء بتوجيه – وربما ضغوط – من قبل ممثلين عن الحكومتين الأردنية والأميركية مع قبول الاتفاقيات المبرمة بهذا الخصوص ما بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي اشتملت – من بين أمور أخرى – على تشكيل المجالس المحلية، والاعتراف بعلم الحكومة السورية الرسمي، مع التوقيع على اتفاقيات التسوية اللاحقة.
وفي أثناء المحادثات التي جرت بين شخصيات من المعارضة السورية، اقترح الجانب الروسي تشكيل مجموعات جديدة من «الجيش السوري الحر» تحت قيادة «الفيلق الخامس» الخاضع لسيطرة القوات المسلحة الروسية. وكانت موسكو ترمي من وراء ذلك إلى تكوين الجيش المحلي الموالي لها حتى تتمكن من السيطرة على مجريات الأحداث في أرض الواقع مع الحيلولة دون إيران وتجنيد المزيد من الميليشيات الموالية لها في الداخل السوري.

بعد مرور عامين

يقترب وصف مدينة درعا في الآونة الراهنة من «مدينة الأشباح». وأفاد عدد من شهود العيان في المدينة بأن القوات الحكومية السورية تسيطر على حاجز التفتيش الأمني عند مدخل المدينة من طريق عمان – دمشق السريع الذي تظهر عليه صورة بالحجم الكبير للرئيس السوري بشار الأسد، فضلاً عن ملصقات لبيانات تمجد الجيش السوري. ذلك مع ندرة وجود نقاط التفتيش الموالية للحكومة السورية في داخل أنحاء المدينة، مع وجود طفيف لقوات الجيش، وقوات الأمن الداخلي، وبعض المسؤولين التابعين للحكومة الروسية.
وعلى جهة أخرى، تشهد المناطق الريفية المحيطة بمدينة درعا – التي كانت فيما قبل معقلاً من معاقل قوى المعارضة السورية حتى قبل عام 2018 – محاولات للتفجير المتناثرة هنا أو هناك مع بعض عمليات الاغتيال المنفردة والمتكررة بصفة شبه يومية. وأعلن «تجمع أحرار حوران» عن ارتكاب 415 محاولة اغتيال للأفراد على مدار العامين الماضيين – من بينها 277 محاولة اغتيال استهدفت مدنيين مع 133 محاولة اغتيال أخرى ضد مقاتلي المعارضة السابقة الذين انضموا إلى القوات الحكومية السورية بعد التسوية، فضلاً عن 48 محاولة أخرى طالت قادة وعناصر المعارضة الذين بقوا من دون ولاء واضح. وأفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» عن مقتل واغتيال أكثر من 525 شخصاً هناك في عام واحد، من بينهم 56 عنصراً من عناصر المعارضة السابقين من الذين وافقوا على المصالحات والتسويات التي أبرمت مع النظام السوري الحاكم، ذلك مع مقتل 19 مقاتلاً تابعين لـ«حزب الله» ومقاتلين آخرين موالين لإيران، فضلاً عن سقوط 17 مقاتلاً من جنود الفيلق الخامس السوري.
لم يوقف الاتفاق المبرم بين الولايات المتحدة وروسيا، القوات الحكومية السورية من السعي وراء بسط السيطرة الكاملة على المناطق الجنوبية من البلاد. كما لم يُفلح ذلك الاتفاق، وبشكل كامل، في إبعاد القوات الموالية لإيران عن الاقتراب من الحدود الأردنية أو الإسرائيلية. وكانا لزاماً على الجانب الروسي التدخل في غير مناسبة من أجل منع القوات الحكومية السورية من الهجوم على ريف درعا. وفي أحد الأمثلة الواضحة، أرسلت القوات الحكومية السورية تعزيزات عسكرية إلى بلدة طفس من الفرقة الرابعة المدرعة من قوات الحرس الجمهوري الذين يُعتقد بصلاتهم الوثيقة مع الجانب الإيراني. ولقد جاءت تلك الخطوة في أعقاب سيطرة عناصر مقاتلة سابقة من «الجيش السوري الحر» على نقطة تفتيش تابعة للقوات الحكومية السورية قبيل هجوم الأخيرة بتعزيزاتها العسكرية على بلدة طفس. ولقد دفعت تطورات الأوضاع هناك إلى التدخل المباشر من جانب القوات الروسية.

روسيا وإيران

وقال مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرينتييف، قوله: «إن مقاتلي (حزب الله) والميليشيات التي تدعمها إيران قد انسحبوا جميعاً من هناك»، وفي سبتمبر (أيلول) 2018، بعد الأزمة بين تل أبيب وموسكو بعد إسقاط إسرائيل بالخطأ طائرة روسية قرب سواحل سوريا، كشف الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية اللواء إيغور كوناشينكوف تفاصيل التفاهمات الروسية – الأميركية. وقال إن تم «انسحاب جميع القوات الموالية لإيران وأسلحتها الثقيلة من مرتفعات الجولان إلى مسافة آمنة بالنسبة لإسرائيل وهي 140 كيلومتراً شرق سوريا». كما أضاف أنه انسحب من هذه المنطقة 1050 عسكرياً و24 راجمة صواريخ ومنظومة صاروخية تكتيكية تعبوية، وكذلك 145 وحدة من أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية الأخرى. كما بددت قيادة مجموعة القوات الروسية في سوريا بناءً على طلب إسرائيل مراراً مخاوف الجانب الإسرائيلي بشأن النقل المحتمل لطرف ثالث لما يسمى بنماذج «المنتوجات العسكرية الحساسة» التي سلمتها روسيا إلى سوريا. كما سيرت «القوات الدولية لفك الاشتباك» (اندوف) دورية في 2 أغسطس (آب) لأول منذ عام 2012 برفقة الضباط الروس الذين وصلوا إلى خط وقف إطلاق النار المتفق عليه منذ عام 1974، في دلالة إلى عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.
ربما تكون إيران قد أقدمت على سحب الميليشيات غير السورية من البلاد، غير أنها لم تتوقف قط عن السعي وراء ترسيخ تواجدها وتعزيز قواتها بغير وسيلة أخرى، لا سيما من خلال تجنيد المزيد من الميليشيات السورية في المناطق الريفية المتاخمة لمدن درعا، والسويداء، والقنيطرة؛ وذلك بهدف مواصلة ممارسة الضغوط على إسرائيل. كما حاول الجانب الإيراني تعزيز تواجده ونفوذه في سوريا عن طريق دعم الفرقة الرابعة المدرعة في الجيش السوري. وبدت تلك الفرضية مؤكدة وواضحة، سيما بعد عودة الفرقة الرابعة المدرعة إلى الظهور على مسرح الأحداث في أعقاب تأسيس «الفيلق الخامس» الموالي لروسيا في الجيش السوري.
ودخلت روسيا وإيران في مواجهة تتسم بالهدوء الحذر بشأن المناطق الجنوبية في سوريا، تلك المواجهة التي تجري على أرض الواقع بالوكالة ما بين الفرقة الرابعة المدرعة الموالية لإيران لقاء «الفيلق الخامس» الموالي لروسيا. ولقد تجلت إشارات ذلك الصراع عبر المحاولات المتكررة من كلا الجانبين في بسط السيطرة الكاملة على محافظة درعا. ولقد سعت الفرقة الرابعة المدرعة إلى تجنيد المقاتلين – لا سيما من عناصر قوى المعارضة السابقة – من خلال الاستمالة بالرواتب الشهرية السخية، وغير ذلك من الامتيازات الأخرى التي تشتمل على الحماية والبقاء في درعا بدلاً من إعادة نشرهم في إدلب أو في أواسط سوريا.
ووفقاً لبعض النشطاء والمسؤولين المحليين في محافظة درعا، لا تزال اليد العليا في الصراع هناك لروسيا ولـ«الفيلق الخامس» الموالي لموسكو. هذا، وحسب مسؤول معارض، يخطط «الفيلق الخامس» الموالي لروسيا راهناً لرفع قوته البشرية من الجنود إلى 20 ألف مقاتل. ويختار الكثير من العناصر حالياً الانضمام إلى «الفيلق الخامس» بدلاً من الالتحاق بالجيش السوري أو «الفرقة الرابعة»، أو التحول إلى هاربين من الخدمة. وأشرف أحمد العودة، قائد «الفيلق الخامس» بنفسه على حفل تخرج الدفعة الجديدة والذي حضره عدد من الضباط الروس وهتف فيه مئات المقاتلين بهتافات مناهضة للرئيس السوري، مثل «عاشت سوريا»، و«يسقط بشار الأسد». وكان لافتاً، أن الأيام الأخيرة شهدت تعرض «الفيلق» لمحاولات اغتيالات في معقله، بصرى الشام.

الاستجابة الإسرائيلية

في أواخر شهر يونيو (حزيران) الماضي، ذكرت دمشق و«المرصد السوري لحقوق الإنسان» قيام إسرائيل بشن غارات جوية على المناطق الجنوبية الغربية من سوريا. واستهدفت تلك الغارات أربع محافظات، هي: دير الزور، وحمص، وحماة، والسويداء. وأفادت وكالة الأنباء العربية السورية الرسمية (سانا)، «تم استهداف إحدى النقاط العسكرية بالقرب من صلخد في جنوب السويداء». ثم عاودت إسرائيل شن الغارات الجوية في أواخر أغسطس وفي سبتمبر من العام الحالي، في إشارة واضحة إلى اعتقاد إسرائيل بأن روسيا قد أخفقت في إبعاد القوات الموالية لإيران عن مناطق غرب سوريا المتاخمة لحدودها.
وكانت إسرائيل قد شنّت مئات الغارات الجوية خلال السنوات الأخيرة، غير أن الغارات المشار إليها آنفاً كانت هي الأولى من نوعها التي تستهدف المناطق الريفية في محافظة السويداء بالقرب من الحدود الأردنية. الأمر الذي يشير إلى استمرار التواجد العسكري الإيراني في المناطق الجنوبية من سوريا. وكانت إسرائيل قد استهدفت بغاراتها الجوية محطة للرادار في تل الصحن في ريف محافظة السويداء في أواخر شهر يونيو الماضي، وفقاً لما أفادت به شبكة «السويداء 24» الإخبارية؛ الأمر الذي أثار التكهنات بأن إيران تحاول الاستيلاء على هذه القمة على وجه التحديد من أجل تركيب أجهزة للمراقبة والتنصت في أعقاب سيطرة روسيا على النقطة الاستراتيجية في تل الحارة في محافظة درعا ضمن التفاهمات الأميركية والروسية سالفة الذكر.
وكانت إيران تسعى منذ فترة طويلة إلى زرع خلاياها في مرتفعات الجولان، جنباً إلى جنب مع سيطرة عناصر «حزب الله» على بلدة الحضر في ريف محافظة القنيطرة. ولقد استهدفت إسرائيل الخلايا الموالية لإيران هناك مرات عدة بعملياتها العسكرية، بما في ذلك اغتيال جهاد مغنية، وهو نجل القيادي في «حزب الله» عماد مغنية، ذلك أثناء محاولة تواجده في مرتفعات الجولان في بداية 2015
كما قامت القوات الجوية الإسرائيلية بتنفيذ غارات جوية أخرى عدة على خلية موالية لإيران في ريف القنيطرة في مطلع شهر أغسطس، تلك التي أعقبها قصف لنقطة اتصال تابعة للجيش السوري في منطقة «فك الاشتباك». وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو قد حذر من رد قوي وشديد في حالة العمليات الانتقامية بالتزامن مع التدريبات العسكرية التي يجريها الجيش الإسرائيلي في الأجزاء المحتلة من الجولان. ولقد جاء ذلك التصريح في أعقاب زيارة نادرة قام بها الجنرال مارك مايلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، إلى تل أبيب بهدف دراسة التنسيق العسكري ضد إيران، ولا سيما فيما يتعلق بالوجود الإيراني في سوريا. وجاءت تلك الزيارة رفيعة المستوى بمثابة رسالة واضحة إلى الجانب الإيراني و«حزب الله» بالتنسيق العسكري المكثف بين الولايات المتحدة الأميركية والجيش الإسرائيلي. غير أن انفجار بيروت الأخير قد أسفر عن تعديل تلك الخطط عن صورتها الأولى.

دروس صفقة جنوب سوريا

تختلف أهداف كل من أميركا، والأردن، وقوى المعارضة السورية، من تلك الصفقة. إذ إن الحكومة الأردنية لاتزال تعمل على تأمين الحدود الشمالية سيما مع استمرار عمليات التهريب عبر الحدود السورية، في حين لم تبذل الحكومة السورية أي جهود تذكر لتوفير الظروف المواتية لعودة النازحين أو اللاجئين السوريين من الأردن. ولا يزال طريق درعا - نصيب السريعة بعيداً من الأمان المطلق؛ الأمر الذي يجعل من الصعب للغاية استئناف نقل البضائع من لبنان إلى الخليج مروراً بالأردن.
ولم يسفر تخلي أميركا عن دعم «الجيش الحر» عن أي مكاسب معتبرة - سواء بالنسبة إلى قوى المعارضة، التي كانت تأمل في الاستحواذ على درجة معينة من الحكم الذاتي والسلطة المحلية، أو بالنسبة إلى الأردن، الذي كان يأمل في وجود منطقة آمنة يمكن للاجئين العودة بسهولة إليها. وحتى أولئك الذي تخيروا إعلان الولاء للحكومة السورية المركزية لم يربحوا الكثير من المكاسب. إذ أعرب عدد من المرشحين للبرلمان عن شكاويهم من استشراء الفساد الانتخابي، ووجهوا الاتهامات إلى دمشق بتسجيل أسماء الناخبين من المعتقلين أو المتوفين بغية ضمان فوز المرشحين الموالين بالكامل في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، على حساب المرشحين المستقلين في البلاد.
ربما لم تكن الولايات المتحدة الأميركية جادة على الإطلاق في دعمها لـ«الجيش الحر»، لا سيما في أعقاب صعود «داعش» ثم «جبهة النصرة»، غير أنها قامت بالتخلي عن دعمه من دون الحصول على أي شيء في المقابل من روسيا.
ومن الراجح أن الأطراف الأخرى لم تكن منيعة للغاية في مواجهة مثل تلك الخسائر. إذ يعكس الاستهداف الجوي الإسرائيلي للتواجد العسكري الإيراني داخل سوريا مدى السوء الذي تتحمله مثل تلك التفاهمات. فضلاً عن عدم وجود جهة تنظيمية – أو ربما رقابية – تشرف على مجريات تنفيذ الاتفاق يعكس في حد ذاته نقطة ضعف عميقة من حيث إن تنفيذه صار يتعلق بصفة شبه كاملة على رغبة روسيا في متابعة الأمر من عدمه، من دون مساءلة تُذكر من جانب الولايات المتحدة الأميركية أو أي أطراف ثالثة ذات صلة بالأمر، مثل منظمة الأمم المتحدة.
لقد أعربت السلطات السورية عن أن استراتيجيتها للبقاء والاستمرار تتمحور حول المحافظة على حالة دقيقة للغاية من التوازن ما بين حليفين في موسكو وطهران، من دون تفضيل أي جانب منهما على الآخر، خشية من أن الاعتماد على طرف دون طرف قد يسفر عن تعريض دمشق لغضب الطرف الآخر، وللعداوات الإقليمية، وربما العالمية. أما بشأن حالة الصراع المستمرة ما بين إيران وروسيا في الجنوب السوري فهي أبلغ دليل على الاستراتيجية السورية المعتمدة والتي حولت المناطق الخاضعة لسيطرة النظام الحاكم – بما في ذلك جنوب البلاد – إلى مناطق نزاع مشتعل جديدة.
ولا بد من أخذ سيناريو الوضع الراهن في الجنوب السوري في الحسبان في حال إجراء أي محادثات بين الولايات المتحدة وروسيا في المستقبل فيما يتصل بمنطقة شمال شرقي الفرات التي تتواجد فيها «قوات سوريا الديمقراطية»؛ إذ لا يزال الجانب الروسي يطلق البالونات لاختبار العزم الأميركي في تلك المنطقة، وصار يهدد بصورة فعلية اتفاق «منع الصدام» الذي جرى التوقيع عليه في منتصف عام 2017، ثم تجدد العمل به في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وذلك في ظل انسحاب الولايات المتحدة التدريجي من أجزاء كانت تسيطر عليها على الحدود السورية - التركية.
ولا تزال «صفقة الجنوب» تعتبر من العلامات الواضحة إلى استعداد الجانب الروسي لاستغلال أي اتفاق محتمل لتعزيز قوات الحكومة واستعادة السيطرة الكاملة على تراب البلاد مع سحق قوى المعارضة تماماً، سيما في غياب كامل لآليات المساءلة من أي درجة، ما يعني أن الوضع في الجنوب قد يكون نموذجاً لـ«سوريا المستقبل».



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!