في اليوم الحادي عشر من العام الجاري توفّي رجل في الصين قبل يومين من بلوغه الحادية والستين متأثراً بالتهابات حادّة أصابت جهازه التنفّسي، إثر تعرّضه لفيروس غامض كان قد ظهر قبل ذلك بأسابيع في مدينة ووهان. لم يكن أحد يتصوّر يومها أن تلك الوفاة ستغيّر وجه العالم، وأنه بعد تسعة أشهر على حدوثها أصبحنا قاب قوسين من سقوط الضحية المليون أمام هذا الفيروس الذي قلب الحياة رأساً على عقب فيما يقف العلم إزاءه حائراً ومرتبكاً، والناس تتساءل: متى سينتهي هذا الكابوس؟ هل سأخسر فرصة عملي أو أستعيد باب رزقي؟ وهل سأصاب وأصبح غداً أنا أيضاً في عداد الضحايا؟
صحيح أن الأجهزة الطبية أصبحت اليوم أكثر قدرة على معالجة الوباء والتخفيف من خطورته، وأن البحوث لتطوير اللقاحات بلغت مراحل متقدمة، لكن خبراء منظمة الصحة العالمية الذين لم يتوقفوا عن العمل منذ بداية الجائحة ينبّهون إلى أن الفيروس الذي أصاب حتى الآن ما يزيد على 23 مليون شخص في جميع أرجاء المعمورة ما زال بقدرة عالية على السريان، ويحمل معه مفاجأة جديدة كل يوم، وأن بلداناً عديدة اعتقدت أنها سيطرت على الوباء وتمكّنت من خفض ضحاياه إلى الحدود الدنيا تقف اليوم خائفة أمام موجة ثانية تعيدها إلى وكر العزل التام، وتهدّد منظوماتها الصحية واقتصاداتها المنهكة.
يُنسب إلى الطاغية ستالين قوله: «إن قتيلاً واحداً هو مأساة، أما مليون قتيل فهو رقم إحصائي»، لكن هذا الرقم يكشف كيف وصل العالم إلى هذه النقطة التي تغيّرت عندها الحياة، من أصغر تفاصيلها اليومية إلى الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والموازين الجيوسياسية.
يشبّه عالم الوبائيات السويسري أنطوان فلاهو، مدير معهد الصحة العامة في جامعة جنيف، جائحة «كوفيد - 19» بمقطوعة «بوليرو» للموسيقار الكلاسيكي الفرنسي موريس رافيل التي تدخل الآلات تدريجيّاً في عزفها حتى تصل إلى الذروة، ثم تعود إلى التراجع قبل أن يصعد اللحن نحو ذروات أخرى. ويستعرض فلاهو المشهد الوبائي العالمي الراهن من مناطق «تراجع فيها الانتشار مثل الصين واليابان وفيتنام وتايلاند وأستراليا، إلى أميركا اللاتينية التي تواجه كارثة صحيّة غير مسبوقة، ومناطق واسعة في الولايات المتحدة ما زال الوضع فيها بعيداً عن السيطرة ويهدد بعواقب وخيمة»، ثم يتوقّف عند أوروبا، فيقول: «بعد مرحلة الصيف التي تميّزت بارتفاع في الإصابات لم يرافقه ازدياد في عدد الوفيّات، نلاحظ اليوم أن سريان الفيروس ما زال نشطاً مع ازدياد متواصل في الإصابات الخطرة، ما يدلّ بوضوح أننا في بداية موجة ثانية قد تفرض العودة إلى تدابير العزل التام مجدداً».
وفي غابة الأرقام المتداولة والمقارنات، تسعى منظمة الصحة العالمية إلى وضع الأمور في نصابها، وتشدّد على أن العبرة الأساس هي في حتمية ظهور الأوبئة والجوائح، وفي ضرورة الاستعداد لها وعدم نسيانها مع زوالها أو تراجعها كما يحصل دائماً. وتذكّر أن الملاريا قضت على 405 آلاف شخص في عام 2018، وأن ضحايا الإيدز في العام الماضي وحده بلغوا 690 ألفا من مجموع 32 مليون ضحية منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، وأن الإنفلونزا العادية تقضي سنوياً على عدد يتراوح بين 290 ألفا و650 ألفاً، وأن ضحاياها زادوا على المليون في عام 1969، من غير أن تترك كل هذه الأرقام أثراً واضحاً في الذاكرة الجماعية.
المقارنة الأكثر تداولاً هي الإنفلونزا الإسبانية التي يقدَّر أنها قضت على حوالي 50 مليون شخص بين عامي 1918 و1920، لكن يقول الخبير الديمغرافي الفرنسي جان ماري روبين، إن «رقم المليون المتداول حالياً حول (كوفيد - 19) هو بدون شك أدنى بكثير من الواقع. في معظم البلدان توجد مصادر عدة لأرقام الضحايا، وغالباً ما تتضارب معلوماتها. سيمضي وقت طويل قبل أن نعرف بالضبط عدد الوفيّات التي نجمت عن فيروس كورونا». ويتوقع روبين أن تكون التبعات الديمغرافية لجائحة «كوفيد - 19» محدودة إذا انحسرت وتمّت السيطرة عليها باللقاح، أو بالعلاج مع أواخر العام المقبل. ويقول: «قد يتراجع متوسط العمر المتوقع خمسة أو ستة أشهر في البلدان الأوروبية هذا العام، لكنه يعود إلى مستواه السابق سريعاً كما يحصل عادة بعد الحروب أو الأوبئة. أما إذا طالت الأزمة وتعاقبت موجات الوباء بشكل منتظم، فإن التبعات ستكون أكبر بكثير وتحول دون الزيادة في المتوسط العمري، منهية بذلك ما نسمّيه اليوم (ثورة التعمير) في البلدان الغنية».
الباحث المتخصص في الشؤون الجيوسياسية روبرت كابلان يتناول جانباً آخر في أزمة «كوفيد - 19»، فيقول: «تحوّلت الأرقام إلى سلاح وأداة في المواجهات السياسية. ولست بحاجة للمقارعة واللجوء إلى قرائن وأدلّة كثيرة عندما تقارن معدّلات الوفّيات في العالم: في الصين 3 لكل مليون مواطن، كوريا الجنوبية (8)، ألمانيا (114)، مع فرنسا (486) والولايات المتحدة (629) أو إسبانيا (668)». ويضيف: «لا أعتقد أن المقارنة في هذه الحالة تستقيم بين الأنظمة المستبدّة والأنظمة الديمقراطية، بل بين الحكومات الذكيّة والحكومات الغبيّة». ويرى كابلان الذي يرأس قسم الدراسات الجيوسياسية في معهد السياسة الخارجية أن «الفيروس شكّل فترة فاصلة بين مرحلتين من العولمة. المرحلة الأولى التي بدأت مع نهاية الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي وحملت معها الديمقراطية إلى مناطق كثيرة في العالم، والمرحلة الثانية التي شهدت صعوداً للنظم الاستبدادية وتميّزت باحتدام الخصومة بين الدول الكبرى». ويضيف أن «سياسة الرئيس ترمب نالت من سمعة الولايات المتحدة ومكانتها، بينما تعززت سمعة الصين ومكانتها. والحدث الأكبر الذي نجهل مآله خارج دائرة الجائحة هي الانتخابات الرئاسية الأميركية التي قد تكون لها تبعات جيوسياسية هامة في أوروبا والشرق الأوسط والشرق الأقصى».
أستاذة العلوم السياسية في جامعة باريس إيزابيل ميغان لا تعتقد من جهتها أن جائحة «كوفيد - 19» تعيد عجلات العولمة إلى الوراء، وتُذكّر بأنه «إذا كانت حركة انتقال الأفراد قد توقّفت، فإن حركة البضائع والسلع استمرّت، بل انتعشت أحياناً، في أوروبا والعالم. لكن الخطر قد يأتي من تفاقم التوترات الجيوسياسية والتدابير الحمائية، تماماً كما حصل بعد أزمة عام 1929 وكانت لها آثار مدمّرة وبعيدة المدى على صعيد النمو الاقتصادي».
الأمم المتحدة من جهتها تخشى تداعيات الجائحة على مسار تحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي بدأت تظهر مؤشراتها الخطرة على ارتفاع عدد الجائعين في العالم وإهمال بقية الحملات لمكافحة أمراض وأوبئة أخرى، إضافة إلى انفجار أزمات بطالة غير مسبوقة في البلدان النامية تشكّل أرضاً خصبة لفصول جديدة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والهجرة.
العالم حائر أمام تحدّي «كورونا» بعد 9 أشهر على ظهوره
الفيروس الغامض أسقط مليون ضحية وأصاب عشرات الملايين
العالم حائر أمام تحدّي «كورونا» بعد 9 أشهر على ظهوره
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة