مصريات الخمسينيات أيقونات لـ«سحر الشرق»

معرض فني بالقاهرة استلهمهن في 30 لوحة

مصريات الخمسينيات أيقونات لـ«سحر الشرق»
TT

مصريات الخمسينيات أيقونات لـ«سحر الشرق»

مصريات الخمسينيات أيقونات لـ«سحر الشرق»

«الفلكلور الشعبي»، «أيقونات الموضة»، «ملامح الخمسينيات»... مفردات تعكس حالة من الحنين للماضي، والشجن لما افتقده المصريون في حياتهم الحالية بفعل نمط الحياة الاجتماعي والاقتصادي.
ولأجل التذكير بهذا الماضي، وإعادة ملامح قضت عليها تغيرات الزمن؛ تجتمع هذه العناصر كمفرداتٍ تشكيلية، على يد الطبيبة الفنانة بسنت عبد الرازق، بمعرضها «سحر الشرق»، في قاعة الأرض بـ«ساقية الصاوي» بحي الزمالك، حيث تستلهمها عبر 30 لوحة، معبرة عما يدور في وجدانها، وأحاسيس ومشاعر بنات جيلها، مُذكرة بمعاني الجمال، متخذة النساء المصريات رمزاً لهذا المفهوم، حيث تحولن إلى بطلات لبورتريهات المعرض.
تقول صاحبة المعرض المستمر حتى يوم غد 29 سبتمبر (أيلول): «بسبب طبيعة الحياة أصبح كثيرون منا لا وقت لديهم، مما أدى لافتقادنا مفردات كثيرة في حياتنا الحالية أبرزها المشاعر، كما افتقدنا مفردات أخرى على مستوى المجتمع مثل الذوق والجمال، بل تغيرت مقاييسنا للجمال، وأصبح الحكم عليه بمعايير الخارج، فأصبح له شكل معين لا علاقة له بنا، رغم أنه في فترة الخمسينيات من القرن الماضي على سبيل المثال كانت القاهرة مصدر الموضة والجمال، بل كانت مدينة الأناقة والفن في الشرق الأوسط، والعاصمة التي تجمع وتتعايش فيها كافة الجنسيات من بلاد العالم».
تستطرد: «لذا حاولت أن أعبر عن هذه المعاني المفتقدة في أعمال فنية، لذا كان اختيار عنوان «سحر الشرق»، لأعبر من خلاله عن عراقة الماضي، مستلهمة حكايات الفلكلور الأصيلة، والألوان الشعبية الصاخبة، ولمحات من هذا الماضي الجميل المفتقد، ولأعبر كذلك عن الطريقة التي أرى بها السيدات المصريات، وما أتمناه من رجوعهن مجدداً كأيقونات للجمال، بعد أن توارى لديهن ذلك بسبب ظروف متعددة ومتعاقبة، ولأقول عبر لوحاتي أن الجمال الشرقي والعربي يظل له رونقة، وأن المرأة العربية من أجمل النساء في العالم، ليس فقط من ناحية المظهر، بل والجوهر أيضاً، حيث تتحلى بقوة التحمل، والشخصية المتزنة».
هذا الانحياز من جانب صاحبة المعرض لبنات جنسها يمكن قراءته عبر لوحات المعرض بأكثر من طريقة، فقد نجده في تركيزها على الملامح الشرقية لبطلاتها، اللائي يزينهن الشعر الغجري، أو ظهورهن بالرقبة الطويلة، كرمز للجمال وللدلالة على الشموخ والكبرياء والعزة، إلى جانب ما تعطيه من معنى لقوة الشخصية، وفي المقابل قد نجد لديهن ملامح طفولية التي تعكس معاني البراءة.
أما مشاعر المرأة، فيمكن أن نجد مشاعر الفنانة نفسها مُعبراً عنها في مواقف حياتية مرت بها، أو التوسع للتعبير عن محيطها النسوي، وعن ذلك تتساءل: «من يمكنه أن يعبر عن مشاعر الحب والدفء والغموض كالمرأة... نحن كبنات حواء نستخدم مشاعرنا في كل أمور حياتنا، يمكن أن يرى البعض ذلك ضعفاً، ويوجه لنا النقد عليه، ولكني أراه مصدر قوة وليس ضعفاً، فطبيعة المرأة الحساسة مصدر قوتها وليس العكس، فالمشاعر والإحساس لدى المرأة من مفاتيح قدرتها على الاحتواء والعطاء والمرونة وغيرها».
يبدو تأثر الفنانة بالفلكلور جلياً في أعمالها، فهي تستلهم منه الألوان الصاخبة والساخنة، تقول: «أعشق هذه الألوان، فالأحمر مثلاً نجده في مصر في الملابس الفلكلورية الريفية والسيناوية، لذا أستوحي ألواني من الفلكلور ومن الفن الشعبي، حيث إنني متأثرة بهذه الفنون بشكل كبير». كما يمتد الفلكلور إلى الرمزية في التعبير، حيث تستلهم بعض المفردات الفلكلورية وتمزجها مع بطلات لوحاتها، فقد يظهر العصفور أو السيف أو الهلال أو الحصان، لإعطاء دلالة على معنى معين تريد إيصاله للمتلقي.
تعتمد بسنت على البورتريه العصري، وليس التقليدي، المنفذ بأسلوب «الاسكتش»، وعن ذلك توضح: «ما أقدمه في المعرض هي بوتريهات بطريقة حديثة، تبعد عن البورتريه التقليدي في نقل الملامح، حيث أعطي لنفسي المساحة للتخيل، وأفضل هذا الأسلوب (الاسكتش السريع) حتى أعبر عن نفسي ومن يشبهني، وأُخرج ما يدور ما بداخلي دون التقيد بشكل معين، وأعتقد أن هذا الأسلوب استطاع الوصول لمن شاهده، حيث تصلني ردود فعل بأن كثيرات يرون أنفسهن فيها بطلات لوحاتي».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)