منذ ظهور أول إصابة بفيروس كورونا في الولايات المتحدة، دخلت البلاد في سلسلة تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية غيرت شكل الحياة كما عهدها الأميركيون. وضع الوباء عشرات الملايين قيد الحجر الإجباري في بيوتهم، وفرض قيودا على الحياة الاجتماعية تراوحت في صرامتها بين التباعد والعزل التام، كما دفع شركات إلى الإفلاس وتسبب في فقدان ملايين الوظائف. هيمنت تطورات الوباء على الدورات الإخبارية، وألقت بظلالها على سنة انتخابية تاريخية، وأربكت المكاسب الاقتصادية التي كان الرئيس دونالد ترمب يعول عليها لدعم حملة إعادة انتخابه، وغيرت أسلوب إدلاء الناخبين بأصواتهم.
غير الوباء وجه الولايات المتحدة في فترة قياسية، وفتك بأكثر من 200 ألف من مواطنيها في حصيلة ضحايا تتجاوز ضحايا الحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب فيتنام والعراق. أصبحت شوارع نيويورك المزدحمة وقطاراتها التي تفيض بالركاب على مدار الساعة، خالية مهجورة. وتداول العالم صور محال تجارية خالية من السلع في أكبر اقتصاد عالمي. كما دخلت حانات لاس فيغاس وصالات القمار في صمت طويل استمر عدة أسابيع، واختفى روادها، فيما توقفت استوديوهات هوليوود عن العمل، لتزدهر في المقابل خدمات البث عبر الإنترنت. ولعل التحول الأكثر إثارة، هو إغلاق الحدود الأميركية في وجه العالم، وإغلاق حدود عشرات الدول في وجه الأميركيين والمقيمين.
وبعد سنوات من تحقيق بورصة وول ستريت أرقاما قياسية وانتعاش قطاع الأعمال، أصبح الأميركيون معتادين منذ مارس (آذار) الماضي على أخبار فقدان عشرات الملايين من الوظائف أسبوعيا، في نزيف اقتصادي استمر شهورا وبدأ بالتعافي أخيرا. إلا أن تداعيات الجائحة مستمرة، ويتوقع أن تستمر لشهور إن لم يكن سنوات في قطاعات مثل الطيران والسياحة، التي لم تستطع مواصلة نشاطها عبر العمل عن بُعد.
ولعل الأهم في هذا المشهد الدرامي، هو انهيار قطاع الصحة الأميركي تحت وطأة الوباء الذي أصاب 7 ملايين شخص في هذا البلد وحده، وافتقاد عشرات المستشفيات إلى أبسط سبل الوقاية، وازدحام غرف العناية المركزة، وتراجع رعاية الأمراض المزمنة والطارئة غير المرتبطة بـ«كوفيد - 19». انعكست هذه التطورات على المشهدين السياسي والاجتماعي، خاصة أنها تزامنت مع توترات عرقية حادة في البلاد، وانتعاش حركات الحقوق المدنية، وتعمق الانقسامات بين اليسار واليمين ما قاد إلى احتجاجات تميزت أحيانا بالعنف، وبانتشار «ميليشيات مسلحة» في الشوارع. كما عمق الوباء وتداعياته الفروقات الاجتماعية، واستهدف الفئات المعوزة والأقليات العرقية بشكل خاص، والتي تفتقد للتغطية الصحية وتتقدم صفوف «العاملين الأساسيين» الذين واصلوا أداء وظائفهم رغم المخاطر.
أما على صعيد الدورة الانتخابية الحالية، فقد غير الوباء من شكل الحملات ومؤتمري حزب الجمهوريين والديمقراطيين، وحد من لقاء المرشحين ونائبيهما مع الناخبين. ويستخدم كل من ترمب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن الأزمة الصحية وقودا انتخابيا، وسط استياء شعبي من تعاطي الإدارة الحالية مع الأزمة من جهة، وغضب آخرين من القيود التي فرضها الوباء من جهة أخرى. وتبادل كل من الحكومة الفيدرالية وحكام الولايات الانتقادات والاتهام حول إدارة الوباء وتردي القطاع الصحي، إلى جانب استمرار الخلاف الشعبي والسياسي حول أهمية الأقنعة الواقية والتباعد الاجتماعي. فيما يهدد التغيير في طريقة التصويت، عبر تشجيع الانتخاب عبر البريد بدلا من التصويت المباشر في مراكز الاقتراع، سير العملية الديمقراطية، خاصة بعد تعبير الرئيس ترمب عن مخاوفه من «تزوير الانتخابات»، و«تأخير الإعلان عن نتائج التصويت».
لم تقف التداعيات السياسية للوباء عند هذا الحد، بل تدفقت إلى السياسة الأميركية الخارجية. واعتبرت إدارة الرئيس ترمب أن منظمة الصحة العالمية تسترت على دور الصين في انتشار الجائحة إلى العالم، ما دفعها إلى الانسحاب من المنظمة التي تنسق الجهود الدولية لمكافحة «كورونا»، وهي خطوة تعهد بايدن بالتراجع عنها في حال انتخابه. كما عمقت الأزمة الصحية من الخلافات بين واشنطن وبكين، وتسبب «الفيروس الصيني» كما يسميه الرئيس ترمب في تعزيز بوادر «الحرب الباردة» بين العملاقين الاقتصاديين.
ويبقى الأمل الوحيد في احتواء هذا الوباء والعودة التدريجية إلى الحياة الطبيعية، هو إنتاج لقاح آمن وفعال. وقد وصلت أربعة مشروعات لقاح أميركية إلى المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، مع توقعات في أن تظهر أولى النتائج بحلول نهاية العام الحالي، وتعميم اللقاح على جميع الأميركيين بحلول أبريل (نيسان) من العام المقبل.
وفي انتظار ذلك، يعمل مسؤولو متاحف سماثونيان في واشنطن والمتحف الوطني للتاريخ الأميركي على مشروع تاريخي لجمع الصور والتذكارات عن فيروس «كورونا»، في دليل على وقعه الضخم والمستمر على المجتمع الأميركي؛ حيث ستقوم فرق العمل بتجميع الأقنعة والصور الفوتوغرافية والشهادات وغيرها من العناصر التي ستشرح هذه الفترة الزمنية للأجيال القادمة.
الجائحة تعمّق الانقسام الأميركي وتربك سير العملية الانتخابية
عرقلت حملات المرشحين وغيّرت أسلوب التصويت
الجائحة تعمّق الانقسام الأميركي وتربك سير العملية الانتخابية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة