زيارة إبداعية لأحياء مصر العتيقة

معرض «ذكريات» يقدم 35 لوحة ترصد الأجواء الفلكلورية

TT

زيارة إبداعية لأحياء مصر العتيقة

عبر 35 لوحة تشكيلية للفنان إسلام النجدي، يتمكن زائر معرض «ذكريات» بـ«سماح أرت غاليري»، بحي الزمالك (وسط القاهرة) من استعادة الأجواء الفلكلورية المبهجة لأحياء مصر العتيقة، لا سيما أنّ هذه اللوحات تستلهم أعمال والده الفنان الراحل عمر النجدي لتشابهها الشديد معها، وهو ما لا يحاول إسلام التنصل منه، بل على العكس يبدي اعتزازه بذلك، مؤكداً أنّ «ذكريات» الطفولة، من ثمّ عمله معه قد دعم اتجاهه إلى السير على طريق النجدي الكبير قلبا ًوقالباً، أو من حيث المضمون والتقنية الفنية معاً.
ورغم ذلك كله، لا تُعد أعماله التي يضمها معرضه الحالي نسخة مقلدة من فن عمر النجدي، لكنّها استمرار لمسيرة فنان اختار منذ بداياته أن يصيغ ذاكرة وطنه عبر لغة مرئية مفعمة بالدفء، فقد كان الأب واحداً من أبرز فناني مصر والشرق الأوسط، وهو الفنان العربي الوحيد الذي يملك متحفاً لأعماله في باريس بالقرب من متحف رائد المدرسة الانطباعية كلود مونيه، وفق إسلام الذي يشير إلى تنظيم معارض سنوية لوالده في عواصم أوروبية قبل وفاته، بجانب حفظ بعض أعماله في عواصم ومتاحف العالم خصوصاً في إيطاليا وبريطانيا وفرنسا وأميركا واليابان وكوريا الجنوبية.
يقول دكتور إسلام النجدي، وكيل المعهد العالي للفنون المسرحية لـ«الشرق الأوسط»: «تأثرت للغاية بوالدي الذي كان يحكي لي عن نشأته في حي باب الشعرية الشعبي العتيق بالقاهرة، حتى كدت أمتلئ مثله بما مر به في طفولته من مظاهر الحياة الشعبية بمباهجها وأشجانها، وأرقب معه زفة العروس ومواكب الطرق الصوفية والتواصل الإنساني الجميل المستمر في جلسات المقاهي والبيوت، ومن جهة أخرى كنت أرافقه لأوقات طويلة في مرسمه، حيث كنت منذ طفولتي أشاهده أثناء الرّسم بداية من تخطيط اللوحة وعمل الاسكتش، مروراً بتحضير بالتة الألوان وتحضير الشاسيه حتى الانتهاء من اللوحة وميلادها على يدي».
من هنا جاء معرضه ليعكس في عنوانه وموضوعه، بل وتقنياته الفنية جانباً من هذه الذكريات... ذكرياته مع والده وذاكرة مصر الحية، ومن هنا أيضاً يغلب على لوحاته في المعرض المزج بين بساطة الرسوم المصرية القديمة وزخارف التشكيلات الإسلامية المفعمة بالتفاصيل، مع لمسات معاصرة، مما يُكسب أعماله أجواءً خاصة من زخم الماضي وسرعة إيقاع الواقع، فتجسد لوحاته بالمعرض وعددها 35 لوحة البيئة الشعبية مستخدماً التعبيرية التكعيبية وأحياناً التعبيرية عموماً، معبراً عن فكرة التلاحم المصري في الحياة، لا سيما في الأعياد الدينية والمناسبات الاجتماعية، مع إبراز عمق الارتباط بين المصريين وإرثهم الثقافي والاجتماعي على مدى آلاف السنين.
وفي لوحته التي تحمل اسم المعرض «ذكريات» يعيش المشاهد مع طقوس فرحة «ليلة العمر»، كما يطلق المصريون على يوم العرس، فاللوحة بمثابة إطلالة بانورامية على طقوس الاحتفال، فها هي العروس في ليلة الحنة، ثم داخل الهودج الذي يحملها من منزل الأسرة إلى «عش الزوجية» إلى أن نراها حاملة أطباق الطعام في «الصباحية» أو اليوم التالي للزفاف.
واستكمالاً للحكايات والطقوس الفلكلورية يطّلِع زائر المعرض المستمر حتى 27 سبتمبر (أيلول) الحالي، في لوحة «الأسرة» على تفاصيل الحياة اليومية داخل المنزل المصري، كما نتعرف في لوحة «العازفين» على ملامح التراث الموسيقي لمصر، وهكذا تتوالى القصص في أعماله، يقول النجدي في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «تأثرت بالفن الفرعوني، فعلى جدران المعابد المصرية القديمة لوحات متسعة تروي كل الحكاية، على سبيل المثال نتعرف على حكاية الزراعة من خلال الرسوم بداية من رمي الفلاح للبذور، مروراً بمرافقة (أبو قردان) له وصولاً إلى خصوصية طقوس الاحتفال بيوم الحصاد، أمّا استلهام الزخارف الإسلامية فهي لا تأتي مقصودة في حد ذاتها كعناصر زخرفية، بل هي عناصر من الحياة أوظّفها للتعبير عن تواصل الحضارات على أرض مصر».
سيطرة العنصر الإنساني على الأعمال خلق أجواء من الدفء، لا سيما أنّه جعل للرجل والمرأة وجهين في جسد واحد، ليرمز لتكاملهما ككيان واحد أو نواة رئيسية للمجتمع، كما استخدم الفنان الألوان الترابية المتداخلة على أرضية ذهبية اللون، مما أكسبها الثراء والحميمية.
حصل إسلام عمر النجدي على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية قسم ديكور عام 1993. وعلى الدكتوراه في السينوغرافيا المسرحية من جامعة لاسبينا روما عام 2005. وشارك في العديد من المعارض في مصر وإيطاليا وفرنسا.



«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
TT

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

أعقاب سجائر يصل عددها إلى 4213، مَمالح لا تُحصى، عبوات مشروبات غازية، فناجين قهوة تجمّدَ فيها البنّ والزمن... هذا بعضٌ ممّا يجدُه الزائر في «متحف البراءة» في إسطنبول. المكان الذي أسسه الكاتب التركي أورهان باموك، خارجٌ عمّا هو مألوف في عالم المَتاحف. هنا، لا لوحات ولا منحوتات ولا أزياء تراثيّة، بل تأريخٌ للحياة اليوميّة العاديّة في إسطنبول ما بين سبعينات وتسعينات القرن الماضي.

لا بدّ للآتي إلى هذا المكان أن يكون قد قرأ رواية «متحف البراءة» لباموك، أو على الأقل سمع عنها. ففي زقاق شوكوركوما المتواضع الواقع في منطقة بيوغلو، لا شيء يوحي بأنّ ذلك المبنى الصغير المطليّ بالأحمر هو في الواقع متحفٌ يخبّئ في طبقاته الـ4، الكثير من تفاصيل حياة الأتراك على مدى 3 عقود.

يقع متحف البراءة في منطقة بيوغلو في إسطنبول (الشرق الأوسط)

فراشة تستقبل الزائرين

يكفي أن يحمل الزائر نسخةً من الرواية حتى يجول مجاناً في المتحف. حرُصَ باموك على أن تضمّ إحدى صفحات الكتاب بطاقة دخول للقارئ، موجّهاً إليه بذلك دعوةً لزيارة المتحف إذا حطّت به الرحال في إسطنبول. بخَتمٍ يحمل رسمَ فراشة تُدمَغ البطاقة، لتبدأ الجولة بأول غرضٍ معروض وهو قرط أذن على شكل فراشة. يقفز إلى الذاكرة فوراً الفصل الأول من الرواية، يوم أضاعت المحبوبة «فوزون» أحد أقراطها عند بطل القصة «كمال»، فاحتفظ به كما لو كان كنزاً، مثلما فعل لاحقاً مع كل غرضٍ لمسَ «فوزون» أو وقع في مرمى نظرها.

صفحة من رواية «متحف البراءة» تمنح الزائر بطاقة دخول إلى المتحف (الشرق الأوسط)

في متحف الحب

تتوالى الواجهات الزجاجية الـ83 بمنمنماتها وأغراضها، لتعكسَ كلُ واحدة منها فصلاً من فصول الرواية. لا يكتفي المتحف بتوثيق أنثروبولوجيا إسطنبول فحسب، بل يؤرّخ لحكاية الحب الأسطورية التي جمعت بين الرجل الأرستقراطي صاحب المال وقريبته الشابة المنتمية إلى الطبقة الفقيرة.

لعلّ ذلك الحب الجارف بين «كمال» و«فوزون» هو أبرز ما يدفع بالزوّار من حول العالم إلى أن يقصدوا المكان يومياً بالعشرات. يصعدون السلالم الخشبية، يجولون بين الطبقات الضيّقة، يتوقّفون طويلاً أمام الواجهات الزجاجية الصغيرة التي تحوي ذكريات المدينة وإحدى أجمل حكاياتها. منهم مَن أتى من الصين، ومنهم مَن قصد المكان ليُعدّ بحثاً جامعياً عنه، وما بينهما شابة مولَعة بالرواية تصرّ على التقاط صورة في كل زاوية من زوايا المتحف.

في المتحف 83 واجهة زجاجية تختصر كل منها فصلاً من الرواية (الشرق الأوسط)

رواية في متحف ومتحف في رواية

لمعت الفكرة في رأس أورهان باموك في منتصف التسعينات. قرر أن يجمع أغراضاً ليبني منها رواية تصلح أن تتحوّل متحفاً. سار المشروعان التوثيقي والأدبي بالتوازي، فأبصرت الرواية النور عام 2008، أما المتحف فافتُتح عام 2012 نظراً للوقت الذي استغرقه إعداده. ليس كل ما في المكان مقتنيات خاصة اشتراها باموك من محال التحَف العتيقة في إسطنبول وحول العالم، فبعض ما تُبصره العين في المتحف الذي يفوق عدد معروضاته الألف، استقدمَه الكاتب من منازل أقرباء وأصدقاء له.

استقدم باموك بعض الأغراض المعروضة من بيوت أقرباء وأصدقاء له (الشرق الأوسط)

استثمر الأديب التركي الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2006، ماله ووقته في مشروعه، وهو أول متحفٍ في العالم خاص برواية. في المرحلة الأولى، بدأ بتجميع الأغراض. ثم ابتاعَ مبنى صغيراً مؤلفاً من 4 طبقات وعائداً إلى القرن الـ19.

بالموازاة، كانت مخطوطة «متحف البراءة» قد بدأت سلوك الخط الروائي الذي قرره لها باموك، أي الدوَران حول شخصيتَيها الأساسيتَين الطالعتَين من بنات أفكاره. في القصة المتخيّلة، يدعو البطل «كمال» الكاتب أورهان باموك إلى تدوين سيرته. يخبره كيف أنه جمع كل غرض يذكّره بـ«فوزون»، كما كان يسرق بعض مقتنياتها كأمشاط الشعر والحليّ وقطع الملابس وغيرها من الأغراض الشخصية. في الرواية، وبعد أن يخسر «فوزون» إلى الأبد، يشتري «كمال» المنزل الذي قطنت فيه المحبوبة مع والدَيها، ليقيم فيه ويحوّله إلى متحفٍ يحيي ذكراها.

أمشاط الشعر العائدة إلى بطلة الرواية «فوزون» (الشرق الأوسط)

مؤثرات بصريّة وصوتيّة

من قصاصات الصحف إلى أواني المطبخ، مروراً بالصور القديمة، وساعات اليد، وقوارير العطر، والمفاتيح، وأوراق اليانصيب، وبطاقات الطيران، يتيح المتحف أمام الزائر أن يدخل في الرواية. كما يسمح له بمعاينة قريبة لأسلوب عيش أهل إسطنبول على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ما بين 1975 ومطلع الألفية الثالثة. في «متحف البراءة» يتداخل الخيال بالواقع، ويصبح المتجوّل في الأرجاء جزءاً من اللعبة التي اخترعها أورهان باموك.

يتجاوز عدد المعروضات في متحف البراءة ألف قطعة (الشرق الأوسط)

تخرق صمتَ الزائرين وصوتَ الراوي، مؤثّراتٌ خاصة من بينها فيديوهات معروضة على الجدران تعكس الحقبة التاريخية، وأصوات خرير مياه ونعيق غربان إسطنبول ونَورس البوسفور.

السيّد باموك... مدير المتحف

ليس طَيفا «فوزون» و«كمال» وحدهما المخيّمَين على المكان، فباموك حاضرٌ كذلك من خلال ترجمات الكتاب المعروضة في الطابق السفليّ، وكذلك عبر نبرة الراوي في الجهاز الصوتيّ، الذي يتقمّص شخصية الكاتب. مع العلم بأنّ باموك أشرف شخصياً على تفاصيل المتحف، وحتى اليوم بعض الواجهات الزجاجية فارغة «لأني ما زلت أعمل عليها»، وفق ما يقول الراوي. أما إن سألت موظفة الاستقبال عن هوية مدير المتحف، فستجيب: «السيّد باموك». كيف لا، وهو الذي أنفق 1.5 مليون دولار على تحفته الصغيرة، من بينها جائزة المليون دولار التي حصل عليها من مؤسسة نوبل.

وصلت تكلفة المتحف إلى 1.5 مليون دولار سدّدها باموك من ماله الخاص (الشرق الأوسط)

في غرفة «كمال»

يقول «كمال» في الكتاب: «أذكر كيف كان البرجوازيون في إسطنبول يدوسون فوق بعضهم كي يكونوا أوّل مَن يمتلك آلة حلاقة كهربائية أو فتّاحة معلّبات، أو أي ابتكار جديد آتٍ من الغرب. ثم يجرحون أيديهم ووجوههم وهم يصارعون من أجل تعلّم استخدامها». هذه الطبقيّة ذاتها والفوارق الاجتماعية التي تخيّم على خلفيّة الرواية، هي التي جعلت قصة حب «كمال» و«فوزون» تتأرجح بين الممكن والمستحيل.

الرواية كما المتحف يجمعان السرديّتَين العاطفية والاجتماعية (الشرق الأوسط)

تنتهي الزيارة في الطبقة الرابعة، أو بالأحرى في العلّيّة حيث أمضى «كمال» السنوات الأخيرة من حياته ما بين 2000 و2007، وفق الرواية. هنا، على سريرٍ حديديّ ضيّق كان يستلقي البطل العاشق ويروي الحكاية لأورهان باموك الجالس قبالته على مقعدٍ خشبيّ. لا يضيع شيءٌ من تفاصيل الخاتمة؛ لا ثياب نوم «كمال»، ولا فرشاة أسنانه، ولا الدرّاجة التي أهداها إلى «فوزون» وهي طفلة.

غرفة «كمال» بطل الرواية حيث أمضى السنوات الـ7 الأخيرة من حياته (الشرق الأوسط)

على براءتها وبساطتها، تروي أغراض «متحف البراءة» إحدى أجمل قصص الحب التي أزهرت بين سطور أورهان باموك، وخلّدت في قلب إسطنبول النابض.