السعودية تعيد صناعة حضورها العالمي من بوابة الثقافة

حوكمة ومبادرات نوعية خلقت لها جسور اتصال

السعودية عززت مواقعها الثقافية لجذب السياح (الشرق الأوسط)
السعودية عززت مواقعها الثقافية لجذب السياح (الشرق الأوسط)
TT

السعودية تعيد صناعة حضورها العالمي من بوابة الثقافة

السعودية عززت مواقعها الثقافية لجذب السياح (الشرق الأوسط)
السعودية عززت مواقعها الثقافية لجذب السياح (الشرق الأوسط)

خلال السنوات الأخيرة ركزت السعودية اهتمامها في تعزيز الهوية والثقافة والتراث الذي تكتنزه أراضيها؛ كونها ملتقى حضارات، ولبعضها تاريخ يمتد لعشرات آلاف السنين؛ وهو ما جعلها هدفاً استراتيجياً تسعى إلى تطويره والمحافظة عليه، خصوصاً أن نحو 70 في المائة من مواطنيها هم من فئة الشباب من دون 30 سنة، إضافة إلى تعزيز حضورها كموقع جذب سياحي عالمي.
ورأت الحكومة السعودية الحاجة إلى وزارة لها القدرة التشريعية لإدارة كم هائل من التراث المتنوع الذي تزخر به المملكة في مناطقها الـ13؛ ولذلك جاء الأمر الملكي في يونيو (حزيران) من لعام 2018 بإنشاء وزارة باسم «وزارة الثقافة» وتنقل إليها المهام والمسؤوليات المتعلقة بنشاط الثقافة.
والوزارة خلال عامين وأشهر قليلة، حوكمت القطاع الثقافي في السعودية، عبر تخصيص 11 هيئة مختلفة، إضافة إلى بناء مبادرات نوعية للمحافظة عليها وتعزيز استدامتها، حتى تمكنت من الصعود باسم السعودية عالمياً، لتحصل على عضوية المجلس التنفيذي لمنظمة «يونيسكو»، وتنضم إلى لجنة التراث العالمي، إضافة إلى انتخاب الدول الأعضاء لها لعضوية لجنة التراث الثقافي غير المادي للمرة الأولى.
وعلى الرغم من الترشيح والانتخاب عالمياً، فإن ذلك لم يأت من دون وجود حقيقي واهتمام بالنشاط الثقافي، عبر القطاعين الحكومي والخاص بجانب القطاع الثالث مثل مؤسسة «مسك الخيرية»، التي لها مبادرات كثيرة في السياق ذاته.

حضور عالمي
إن تواجد السعودية في المنظمات الدولية المتخصصة بالتربية والعلم والثقافة ليس جديداً، ما عدا اللجان المتخصصة التي انتخبت لها للمرة الأولى مثل لجنة التراث الثقافي، في مطلع سبتمبر (أيلول) الحالي؛ إذ إن السعودية تعد عضواً مؤسساً في منظمة «يونيسكو»، ولها تاريخ في دعم العمل المشترك تحت مظلتها، ولكن الحضور الجديد جاء بعد اهتمام غير مسبوق على المستوى المحلي في تعزيز الأنشطة الثقافية والمحافظة عليها، وهو ما يقول عنها الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة السعودي، إن ترشيح السعودية لعضوية «يونيسكو» «يأتي تأكيداً على مكانتها الدولية ودورها في بناء السلام والمساهمة بفاعلية في إرساء مبادئ الثقافة والعلوم».

حوكمة قطاع الثقافة
وعززت الوزارة من حوكمة القطاع الثقافي، بعد موافقة مجلس الوزراء مطلع العام الحالي على إنشاء 11 هيئة ثقافية جديدة، وتفويض وزير الثقافة، بممارسة اختصاصات رئاسة مجالس إداراتها، حيث ستتولى الهيئات مسؤولية إدارة القطاع الثقافي السعودي بمختلف تخصصاته واتجاهاته، لتكون كل هيئة مسؤولة عن تطوير قطاع محدد، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية العامة والاستقلال المالي والإداري وترتبط تنظيمياً بوزير الثقافة.
والهيئات الجديدة هي: هيئة الأدب والنشر والترجمة، وهيئة الأزياء، وهيئة الأفلام، وهيئة التراث، وهيئة فنون العمارة والتصميم، وهيئة الفنون البصرية، وهيئة المتاحف، وهيئة المسرح والفنون الأدائية، وهيئة المكتبات، وهيئة الموسيقى، وهيئة فنون الطهي.

المحافظة على التراث
وعملت السعودية على ترميم الكثير من المواقع التراثية، وإعادة إحيائها مثل أحياء الطريف والبجيري وجدة التاريخية، ومواقع تراثية كثيرة وسط العاصمة الرياض.
وآخرها، كانت في العاصمة الرياض، مطلع الأسبوع الحالي، حين أصدر الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء، قراراً بترميم وتأهيل مباني التراث العمراني ذات القيمة المعمارية والتاريخية وسط الرياض في أحياء الفوطة والظهيرة، التي تحتضن قصوراً ملكية تراثية تتجاوز 15 قصراً.
وقبل ذلك، كان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء، قد وجّه في منتصف عام 2019، بدعم مشروع ترميم 56 مبنى من المباني الآيلة للسقوط في جدة التاريخية، بمبلغ 50 مليون ريال (كمرحلة أولى)، التي تحمل عناصر معمارية ثرية لتراث جدة التاريخية، حيث يحمل جزء منها معالم أثرية يزيد عمرها على 500 عام تعود ملكيتها لأسر جدة؛ وذلك للحفاظ عليها وإحيائها وتأهيلها ومنع انهيارها حسب متطلبات «يونيسكو» لتسجيل جدة في سجل التراث العالمي المتوافقة مع «رؤية المملكة 2030»، وذلك ضمن مشروع شامل لإنقاذ المواقع ذات القيمة الثقافية من أي مهددات قد تؤدي إلى زوالها.
إضافة إلى مشاريع تأهيل وترميم مئات المساجد التاريخية، ضمن برنامج «إعمار المساجد التاريخية» التي تهدف إلى ترميم وإعمار أكبر عدد من المساجد التاريخية المستهدفة على مستوى مناطق المملكة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)