ميكا يجمع نجوم العالم بـ«أنا أحب بيروت»

في حفل خيري انطلق من توسكانا في إيطاليا

أطل ميكا على مسرح «تياترو نيكوليني» في توسكانا بلا جمهور (حساب ميكا على «تويتر»)
أطل ميكا على مسرح «تياترو نيكوليني» في توسكانا بلا جمهور (حساب ميكا على «تويتر»)
TT

ميكا يجمع نجوم العالم بـ«أنا أحب بيروت»

أطل ميكا على مسرح «تياترو نيكوليني» في توسكانا بلا جمهور (حساب ميكا على «تويتر»)
أطل ميكا على مسرح «تياترو نيكوليني» في توسكانا بلا جمهور (حساب ميكا على «تويتر»)

انهالت التهاني، وعبارات الشكر على الفنان العالمي ميكا، بمجرد أن أنهى حفله الافتراضي «أنا أحب بيروت» الذي كان من بين أكبر الحفلات التي يمكن أن يشاهدها متفرج وهو جالس في بيته، في أي مكان في العالم، بعد أن يحجز ثمن تذكرته ويُزوّد برابط ليتابع خلال ساعة وأربعين دقيقة، أمسيه عامرة بالموسيقى والشعر والرقص والريبورتاجات المصورة، والأغنيات التي قدمتها مجموعة كبيرة من النجوم من عواصم مختلفة، دعماً للمتضررين من انفجار مرفأ بيروت. ومن أبرز المشاركين كايلي مينوغ وسلمى حايك وفاني أردان. ونظم ميكا المولود في ربوع لبنان، من أم لبنانية وأب أميركي، هذا الحفل الخيري مدعوماً من مؤسسات عديدة. وأطل الفنان وهو يقف على مسرح «تياترو نيكوليني» في توسكانا بوجود عدد قليل من الموسيقيين ومن دون جمهور، فيما جرى عرض الحفل عبر قناة ميكا الخاصة على شبكة «يوتيوب».
وبدأ الحفل بكلمة لميكا مصحوبة بمشاهد مؤثرة، وهو يقول: «أرضي بيروت، أكتب لك من الجهة الأخرى من المتوسط، وقلبي ينبض حباً لك ولجمالك، فقد رافقْتِني في كل مكان ذهبت إليه، وكنتِ دائماً معي. وهذه الليلة جاء دوري لأعود إليكِ، لمينائكِ، لشوارعكِ، لأحيائكِ، للدورة والجميزة والكرنتينا ومار مخايل والزيتونة، حيث كل شيء محطم النوافذ، الأبواب والبيوت». واستعار ميكا مقطعاً من كتاب «الأجنحة المتكسرة» لجبران خليل جبران، مستنهضاً المدينة التي وُلد فيها وقضى جانباً من طفولته، عارضاً لصور له طفلاً صغيراً مع عائلته على شرفة منزله في لبنان. وينهي كلامه بالقول: «بيروت لستِ وحدكِ، أحبكِ يا بيروت».
الحفل كله، وبالطريقة التي نُظم وأُدير بها، يُظهر تضامناً واسعاً من فنانين كبار، كلٌّ يطلع من عاصمة، يلقي تحيته على أهل بيروت وناسها، ويحيّي صمودهم وشجاعتهم. فبعد أن أدى ميكا أغنيته «أصل الحب»، و«النهاية السعيدة»، و«قل وداعاً» عازفاً على البيانو رافقت هذه الأغنية مشاهد مروعة من انفجار بيروت، ووقْع العصف على أناس تطايروا مع منازلهم، ورجال الإطفاء الذين لعبوا دوراً بطولياً، وسقط العديد منهم ضحايا لهذه الكارثة. ثم أدّى أغنيته «الحب الصغير»، ليبدأ الريبورتاج الأول الذي صُوِّر بعناية وتتحدث فيه الشابة ميشال حمصي، وهي لا تزال مشوهة الوجه وإلى جانبها والدتها، عن الرجل المجهول الذي حملها على دراجته النارية، حين طلبت النجدة إلى المستشفى وأنقذ حياتها، ولم تتعرف إليه بعد، منتهزة الفرصة لتوصل له امتنانها لأنها مدينة له ببقائها على قيد الحياة.
وشكّلت هذه القصص الإنسانية جزءاً حيوياً من الحفل، لا سيما قصة الطفل جورج مع والديه الذي بدا في الفيلم أنه كَبر، وكان اللبنانيون قد تابعوا حكاية ولادته لحظة الانفجار، في «مستشفى الروم» الذي تدمر بشكل كبير، لكن الفريق الطبي بقي يتابع عملية الولادة رغم الحطام الذي تناثر عليهم وانقطاع التيار الكهربائي، على ضوء التليفونات الجوالة.
وغنّت في هذا الحفل النجمة الأسترالية البريطانية كايلي مينوغ، حيث قدّمت أغنية من لندن، والإيطالية لاورا باوزيني أدت أغنية من موقع الكولوسيوم الأثري في روما، في إطار غاية في الجمال. فيما غنّت الفرنسية لوان من أمام كاتدرائية القلب الأقدس في باريس. أما الأميركي الكندي روفوس وإينرايت فظهر من لوس أنجليس، يرافقه عازفان على آلتين شرقيتين من بيروت.
كذلك كانت مداخلات تضامن وإطلالات من مكسيكو للممثلة المكسيكية من أصل لبناني سلمى حايك، التي قرأت مقاطع لجبران خليل جبران عن الجمال، قائلة: «إن أجمل ما في بلدها الأصل هو جمال روح أهله». ومواطنتها دانا باولا غنّت وحيّت لبنان مذكّرة بوجود الكثير من اللبنانيين يعيشون في بلدها المكسيك. ومن باريس قرأت الممثلة الفرنسية فاني أردان قصيدة للشاعر محمود درويش عن بيروت مترجَمة إلى الإنجليزية يقول فيها: «اكتشفنا الاسم، من طعم الخريف وبرتقال القادمين من الجنوب، كأنَّنا أسلافُنا نأتي إلى بيروتَ كي نأتي إلى بيروت من مَطَرٍ بَنَيْنا كوخنا، والرِيحُ لا تجري فلا نجري، كأنَّ الريح مسمارٌ على الصلصال، تحفر قبونا فننام مثل النمل في القبو الصغير. كأننا كنا نُغَنِّي خلسة: بيروت خيمتنا. بيروت نجمتنا».
ومن بيروت ظهرت الشاعرة والفنانة التشكيلية اللبنانية إيتيل عدنان، معتبرة أن الرد الوحيد على هذه الجريمة «هو الإصرار على المزيد من الشعر والأدب والفن». وشاركت أيضاً فرقة «مشروع ليلى» اللبنانية مع ميكا في أغنية «بروميزلاند» أو «أرض الميعاد» باللغة العربية. وهي الأغنية الوحيدة التي قُدمت بلغة الضاد. وقد تكون النسخة الأجمل على الإطلاق لهذه الأغنية، حيث حصدت إعجاباً كبيراً جداً من متابعي الحفل. وشاركت أيضاً فرقة «فانك أوف» الإيطالية، في أغنية مع ميكا صُورت في باحة أحد المطاعم الإيطالية.
أما كايلي مينوغ فأرسلت «كل الحب للجميع في بيروت» ولبنان «الجريح». وقالت لوان إنّها شاءت أن تغني «لهذه المدينة الجميلة بيروت».
وغرّدت لاورا باوزيني عبر شبكة «تويتر» بعد مشاركتها في الحفل: «لقد كانت تجربة فريدة من نوعها لنا جميعاً الذين يؤمنون بقوة الموسيقى من خلال المشاريع الخيرية».
قدم ميكا أجمل أغنياته، بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وشارك النجوم أغنياتهم، وعلق على مشاهد الدمار في الأفلام التي عُرضت. شُحن الحفل بمشاعر الحب والتعاطف والذكريات، والألم. حفل من القلب قدمه هذا الفنان العالمي لمساعدة متضرري انفجار مرفأ بيروت. ولم يعلَن بعد عن المبلغ الذي تم جمعه من بيع البطاقات، لكنه نجح في الحصول على تبرعات إضافية على موقع «غو فاند مي» للضحايا، بلغت حصيلتها لغاية صباح أمس نحو 187 ألف جنيه إسترليني. ويعود ريع تذاكر الحفلة بالكامل للمساعدة الإنسانية للمتضررين، التي ستوزع بواسطة الصليب الأحمر اللبناني ومنظمة «سايف ذي تشيلدرن» في لبنان.
وأتى هذا الحفل عشية يوم واحد من حفل آخر سينظَّم في ذكرى الانفجار، في المكان نفسه الذي وقعت فيه الكارثة، ويُنقل على الشاشات اللبنانية بمشاركة ما يقارب 300 شخص.
وُلد ميكا في بيروت عام 1983 في عز الحرب الأهلية، وقضى سنينه الأولى وسط هذه الفوضى، قبل أن يترك أهله البلاد تحت ضغط العنف. لكن علاقته لم تنقطع مع عائلته الكبيرة. وهو عاد 2008 ليحْيي حفلاً كبيراً في وسط بيروت من تنظيم «مهرجانات بيت الدين» احتفاءً بعودة الأمن، حضره والداه وجدته، وعائلته الكبيرة. وهو استذكر ذاك الموعد الاستثنائي من حياته خلال حفله أمس. كما غنى مرتين ضمن مهرجانات بعلبك، في عامي 2010 و2011.
أما الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت يوم 4 أغسطس (آب) الماضي، فقد أودى بحياة 190 شخصاً وتشريد 300 ألف إنسان، فيما وصل عدد الجرحى إلى أكثر من ستة آلاف.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)