يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

بعد انتخابه خلفاً لأطول القادة حكماً

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً
TT

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

قد لا يكون يوشيهيدي سوغا، الذي تولى هذا الأسبوع قيادة اليابان خلفاً لرئيس الحكومة المستقيل شينزو آبي، من الزعماء الاستثنائيين. إذ لا هو في سن تَعِد بنقلة نوعية تاريخية في بلد عهوده الوزارية كثيرة وقياداته الكاريزمية قليلة، ولا هو زعيم متميّز داخل نظام تختلط فيه التقاليد ومعادلات الكتل وتوازناتها المصلحية، سواء داخل الحزب الديمقراطي الحر الحاكم، أو بينه وبين الأحزاب المعارضة أو المتآلفة.
غير أن ما لا يختلف عليه المتابعون أن السياسي المحنّك المخضرم (71 سنة) يرث أوضاعاً اقتصادية صعبة، فاقمتها جائحة «كوفيد – 19» التي هزّت اقتصادات العالم، بما فيها الاقتصاد الياباني، الذي يواجه آسيوياً وعالمياً الصعود الصيني، كما يعاني من مشاكل أخرى، ليس أقلها الشيخوخة السكانية.

لم تمض فترة طويلة على تحطيم رئيس وزراء اليابان المستقيل شينزو آبي الرقم القياسي لأطول فترة في تاريخ حكومات البلاد، في العام الماضي، حتى أعلن خلال أغسطس (آب) الماضي اضطراره إلى الاستقالة لدواعي صحية.
آبي (65 سنة)، الذي تولى رئاسة الحكومة مرتين (بين 2006 و2007 ثم بين 2012 و2020) قد استقال في المرة الأولى بعد سنة واحدة من توليه السلطة لسبب صحي هو التقرح الالتهابي في القولون. إلا أنه تعافى بعد ذلك وعاد إلى المعترك السياسي.
هذه المرة، يبدو أن المرض كان أقوى من آبي، ما اضطر سليل البيت السياسي العريق - المتحدّر من محافظة ياماغوتشي في أقصى جنوب هونشو، كبرى الجزر اليابانية - إلى التنحّي.
معركة الخلافة، كانت مفتوحة بين ثلاثة من كبار ساسة الحزب الديمقراطي الحر، هم: أمين عام مجلس الوزراء يوشيهيدي سوغا، الأكبر سناً بين الثلاثة، وفوميو كيشيدا (63 سنة) وزير الخارجية السابق، وشيغيرو إيشيبا (63 سنة) وهو وزير سابق للدفاع. غير أن سوغا كان أقرب الثلاثة إلى آبي، وبحكم منصبه الفعلي كان الأوثق علاقة بالوزراء الحاليين الذين يمثلون أبرز الأجنحة السياسية الفاعلة على الساحة السياسية، وبالأخص داخل الحزب الحاكم. ثم إنه من واقع تقدمه النسبي في السن بالمقارنة مع منافسه، كان يشكل الخيار الأنسب للمرحلة، لإكمال ما تبقى من عهد الزعيم المستقيل. ومن ثم، ما أن فتحت بات التنافس حتى بدا أن فرصة سوغا هي الأكبر.
وبالفعل، لدى إجراء الاقتراع الداخلي لنواب الحزب الديمقراطي الحر وممثليه الإقليميين، فاز سوغا بغالبية كبيرة؛ إذ حصل على 377 صوتاً من أصل 534. وتلقائياً، بحكم انتخابه زعيماً، غدا سوغا الرئيس الجديد للحكومة، التي شكّلها على عجل قبل يومين، وحملت كل سمات شخصيته المحافظة، مع احتفاظه بعدد من الوجوه القديمة، مع تمثيل محدود للنساء.

بطاقة شخصية

ولد يوشيهيدي سوغا في بلدة يوازا، بريف محافظة آكيتا في شمال جزيرة هونشو (كبرى جزر الأرخبيل الياباني) لعائلة من مزارعي الفراولة، يوم 6 ديسمبر (كانون الأول) 1948.
إلا أن الفتى الطموح، قرر ألا يرث مزرعة العائلة بعدما أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في أكيتا، بل حزم حقائبه وانتقل جنوباً إلى العاصمة طوكيو، حيث التحق بجامعة هوساي. وفي طوكيو عمل في مصنع للورق المقوّى وحارساً أمنياً من أجل الإنفاق على دراسته، إلى أن تخرج فيها حاملاً الإجازة في الحقوق.
سوغا، المتزوج والأب لثلاثة أولاد، يُعرف عنه أنه رجل شديد الالتزام ونشيط يعمل بلا كلل، ولا يشرب الكحول إطلاقاً. وأكثر من ذلك، يقول عنه عارفوه، إنه جدّي جدً يفتقر إلى روح النكتة والدعابة، ومواظب على التمارين الرياضية يومياً للمحافظة على لياقته البدنية والذهنية، ويصحو باكراً في الساعة الخامسة صباحاً.
ثم أنه، بعكس عدد من الساسة المحافظين اليابانيين، لم يعتمد يوشيهيدي سوغا على شبكة علاقات عائلية في مسيرته. غير أنه بعد التخرّج انجذب إلى السياسة، والتحق بصفوف الحزب الديمقراطي الحر، وبدأ تسلق السلّم درجة درجة في «الغرف الخلفية». وكانت البداية عمله في الحملات الانتخابية للمجلس الأعلى للبرلمان. ثم عمل سكرتيراً لعضو البرلمان هيكوسابورو أوكونغي، لمدة 11 سنة. استقال على الأثر، في أكتوبر (تشرين الأول) 1986، وشق طريقه السياسية. وحقاً، في أبريل (نيسان) عام 1987، انتخب عضواً في المجلس البلدي لمدينة يوكوهاما، ثاني كبرى مدن اليابان، وتعلم، ثم أتقن بذكائه وغريزته السياسية الفطرية، فن تنظيم الحملات الانتخابية الشعبوية، ومخاطبة الجموع في الشوارع والساحات.

المسيرة البرلمانية والوزارية

بعد تسع سنوات، أي عام 1996 دخل سوغا البرلمان لأول مرة ممثلاً الدائرة الانتخابية الثانية في محافظة كاناغاوا، التي تضم مدينة يوكوهاما (عاصمة المحافظة) وتقع مباشرة إلى الجنوب من طوكيو. وهي الدائرة التي لا يزال يمثلها حتى اليوم، في أعقاب فوزه في انتخابات الأعوام 2000 و2003 و2005 و2009، وحتى الآن. غير أن سوغا، خلال 3 سنوات فقط من وجوده في البرلمان، في خطوة غير مسبوقة من سياسي طري العود، نقل ولاءه من زعيم كتلته البرلمانية رئيس الوزراء (السابق) كيزو أوبوتشي إلى كتلة الأمين العام السابق للحزب سيروكو كاجياما.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، خطا سوغا خطواته الأولى في عالم الحكومات عندما عيّن نائباً لوزير الداخلية في خكومة جونيتشيرو كويزومي. وفي العام التالي، وتحديداً في سبتمبر (أيلول) عام 2006، أسند إليه رئيس الوزراء الجديد (يومذاك) شينزو آبي منصب وزير الداخلية والاتصالات وخصخصة البريد، وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، أضيفت لحقائبه الوزارية حقيبة الإصلاح اللامركزي حتى 2007.
انتخابات 2009، بالذات، كانت مفصلاً مهماً بالنسبة لسوغا؛ إذ احتفظ بمقعده بخلاف عدد لا بأس من رفاقه، عندما شهدت اليابان موجة تأييد غير مسبوق لحزب اليابان الديمقراطي المعارض. ثم في أكتوبر 2011 عيّن سوغا رئيساً لمقر القيادة والتنظيم في الحزب الديمقراطي الحر، وكان دور سوغا محورياً إبان سنوات المعارضة في مساعدة شينزو آبي على استعادة قيادة الحزب الديمقراطي، وكانت مكافأته أن أسند إليه آبي في العام التالي 2012 منصب الأمين العام التنفيذي لمجلس الوزراء.
في هذا المنصب الحساس تنظيمياً والعظيم النفوذ، عُرف عن سوغا الحزم والفاعلية، والصرامة في التعامل مع الجهاز الحكومي والإعلام. وثمة مراقبون جيدو الاطلاع على دهاليز السياسة اليابانية، أن تساعد خبرة سوغا الإدارية الكبيرة في ضمان الاستمرار والسلاسة في العمل الحكومي خلال الفترة المقبلة وصولاً إلى موعد الانتخابات العامة المقبلة عام 2021. وحول هذا الجانب نقلت هيئة الإذاعة البريطاني (بي بي سي) عن البروفسور كويتشي ناكانو، أستاذ العلم السياسية وعميد جامعة سوفيا في العاصمة اليابانية طوكيو قوله إن «شينزو آبي وقادة الحزب (الحاكم) الآخرين أيدوا سوغا وانضموا إلى حملته، خصوصاً، لأنه يشكل الضمانة الأكبر للاستمرارية، وهو الأقدر على مواصلة مسيرة آبي في غياب آبي».
وبالفعل، مع أن كثيرين يعتقدون أن سوغا يفتقر إلى الدفء والديناميكية، فإنه معروف ومقدّر جداً لنجاعته وحذقه وتفكيره العملي. ثم، أنه كان ولا يزال شديد الولاء لآبي وجناحه السياسي الحزبي، وبالتالي، لا يتوقع أن يُحدث أي تغيير جوهري في سياسات سلفه قبل

«كوفيد – 19» والاقتصاد

انتخابات العام المقبل، وبالأخص سياسات آبي الاقتصادية التي تحرص على تنشيط الاقتصاد الياباني، ثالث أكبر اقتصادات العالم، والتي يعد يوشيهيدي سوغا من كبار المؤمنين والملتزمين بها.
في المقابل، ثمة من يشير إلى أنه قد لا يقود الحزب والحكومة لفترة طويلة، إذا فرضت التطورات ديناميكيات جديدة تحتاج إلى وجه جديد أكثر وأوسع جاذبية. والحقيقة، أن جائحة «كوفيد – 19» هزّت الاقتصاد الياباني كما هزّت كل اقتصادات العالم. ومن ثم، ما عاد ممكناً الاكتفاء بالنظريات والممارسات المألوفة، وهذا، بلا شك، تحد كبير لرئيس الوزراء الجديد. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن سوغا، تعهد أخيرا بتوسيع قاعدة فحوص فيروس «كوفيد – 19»، وتأمين لقاحات ضده في النصف الأول من العام المقبل. كذلك تعهد برفع الحد الأدنى للأجور، والدفع قدماً بإصلاحات القطاع الزراعي، ودعم قطاع السياحة.
على صعيد آخر، يتوقع المراقبون، أن يواصل سوغا، ذو الخبرة المحدودة نسبياً في مجال السياسة الخارجية، السير على خطى سلفه. وهو ما يعني أن تكون في قمة أولويته تمتين التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بالتوازي مع الاحتفاظ بسياسة مستقرة مع الجار: الآسيوي العملاق... الصين.
غير أن التحدي الاقتصادي يبقى التحدي الأساسي قبل انتخابات العام المقبل. ومما لا شك فيه أن المرحلة الانتقالية التي يقود فيها سوغا اليابان تأتي في حقبة اقتصادية صعبة. إذ أدت الجائحة – كما سبقت الإشارة – إلى ركود حاد غير مسبوق. والخطوات التي اتبعها الرئيس السابق آبي ما كانت بعد قد آتت أكلها عندما ضربت الجائحة اليابان، ثم، أن الجائحة أتت بعد سنوات من بطء النمو والكساد.
في الجوانب الأخرى، تركت الحكومة السابقة للحكومة الجديدة أموراً أخرى معلقة، مثل خطط الإصلاح الدستوري في مرحلة ما بعد مرحلة اللاعسكرة – التي تلت هزيمة البلاد في الحرب العالمية الثانية. ويذكر في هذا السياق، أن آبي كان راغباً في تعديل الدستور من أجل إعادة تنشيط القوات المسلحة، المعروفة رسمياً باسم «قوة الدفاع عن النفس»، والممنوعة من المشاركة في أي عمليات أو مهام عسكرية دولية.
هناك سياسات، إذن، تحتاج إلى عامل الاستمرارية، ولكن توجد تحديات يعتقد على نطاق واسع أنها تحتاج إلى إعادة نظر. وهنا يطرح السؤال: ماذا يمكن أن يحصل بين الآن وسبتمبر 2021 موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة؟
بل يُطرح سؤال آخر أيضاً... هو، هل تحفّز الحملة الانتخابية الموعودة على استعاضة الحزب الديمقراطي الحر عن التخلي عن نهج الاستمرارية والبدء بالإعداد لبداية جديدة تحت قيادة جديدة قد تكون فرصتها أكبر بقيادة الحزب للفوز؟
بالنسبة للسؤال الثاني، كان سوغا ضد فكرة انتخابات مبكرة تسبق السيطرة على الجائحة، غير أن هناك شائعات لا تستبعد إجراء مثل هذه الانتخابات، بل هناك من يقول إنه قد تجرى خلال فترة قريبة جداً تقطع الطريق كسب الحزب الديمقراطي الدستوري المعارض زخماً بعد إعادة تنظيمه، قد يهدد معه الحزب الحاكم.
ولكن، حتى إذا أجريت انتخابات العام المقبل في موعدها (مجلس النواب في سبتمبر والمجلس الأعلى في أكتوبر)، قد لا تكون رئاسة سوغا أكثر من فترة انتقالية. وهذا يعني انتخابات أخرى لزعامة الحزب، علماً بأن أنظمة الحزب تفرض انتخابات زعامة كل ثلاث سنوات، وهي ستكون هذه المرة مفتوحة أمام كل أعضاء الحزب؛ ما يعزز فرصة منافسه بالأمس شيغيرو إيشيبا، القوي شعبياً، وأيضاً قد هناك فرصة لفوز وزير الدفاع السابق تارو كونو.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.