يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

بعد انتخابه خلفاً لأطول القادة حكماً

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً
TT

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

قد لا يكون يوشيهيدي سوغا، الذي تولى هذا الأسبوع قيادة اليابان خلفاً لرئيس الحكومة المستقيل شينزو آبي، من الزعماء الاستثنائيين. إذ لا هو في سن تَعِد بنقلة نوعية تاريخية في بلد عهوده الوزارية كثيرة وقياداته الكاريزمية قليلة، ولا هو زعيم متميّز داخل نظام تختلط فيه التقاليد ومعادلات الكتل وتوازناتها المصلحية، سواء داخل الحزب الديمقراطي الحر الحاكم، أو بينه وبين الأحزاب المعارضة أو المتآلفة.
غير أن ما لا يختلف عليه المتابعون أن السياسي المحنّك المخضرم (71 سنة) يرث أوضاعاً اقتصادية صعبة، فاقمتها جائحة «كوفيد – 19» التي هزّت اقتصادات العالم، بما فيها الاقتصاد الياباني، الذي يواجه آسيوياً وعالمياً الصعود الصيني، كما يعاني من مشاكل أخرى، ليس أقلها الشيخوخة السكانية.

لم تمض فترة طويلة على تحطيم رئيس وزراء اليابان المستقيل شينزو آبي الرقم القياسي لأطول فترة في تاريخ حكومات البلاد، في العام الماضي، حتى أعلن خلال أغسطس (آب) الماضي اضطراره إلى الاستقالة لدواعي صحية.
آبي (65 سنة)، الذي تولى رئاسة الحكومة مرتين (بين 2006 و2007 ثم بين 2012 و2020) قد استقال في المرة الأولى بعد سنة واحدة من توليه السلطة لسبب صحي هو التقرح الالتهابي في القولون. إلا أنه تعافى بعد ذلك وعاد إلى المعترك السياسي.
هذه المرة، يبدو أن المرض كان أقوى من آبي، ما اضطر سليل البيت السياسي العريق - المتحدّر من محافظة ياماغوتشي في أقصى جنوب هونشو، كبرى الجزر اليابانية - إلى التنحّي.
معركة الخلافة، كانت مفتوحة بين ثلاثة من كبار ساسة الحزب الديمقراطي الحر، هم: أمين عام مجلس الوزراء يوشيهيدي سوغا، الأكبر سناً بين الثلاثة، وفوميو كيشيدا (63 سنة) وزير الخارجية السابق، وشيغيرو إيشيبا (63 سنة) وهو وزير سابق للدفاع. غير أن سوغا كان أقرب الثلاثة إلى آبي، وبحكم منصبه الفعلي كان الأوثق علاقة بالوزراء الحاليين الذين يمثلون أبرز الأجنحة السياسية الفاعلة على الساحة السياسية، وبالأخص داخل الحزب الحاكم. ثم إنه من واقع تقدمه النسبي في السن بالمقارنة مع منافسه، كان يشكل الخيار الأنسب للمرحلة، لإكمال ما تبقى من عهد الزعيم المستقيل. ومن ثم، ما أن فتحت بات التنافس حتى بدا أن فرصة سوغا هي الأكبر.
وبالفعل، لدى إجراء الاقتراع الداخلي لنواب الحزب الديمقراطي الحر وممثليه الإقليميين، فاز سوغا بغالبية كبيرة؛ إذ حصل على 377 صوتاً من أصل 534. وتلقائياً، بحكم انتخابه زعيماً، غدا سوغا الرئيس الجديد للحكومة، التي شكّلها على عجل قبل يومين، وحملت كل سمات شخصيته المحافظة، مع احتفاظه بعدد من الوجوه القديمة، مع تمثيل محدود للنساء.

بطاقة شخصية

ولد يوشيهيدي سوغا في بلدة يوازا، بريف محافظة آكيتا في شمال جزيرة هونشو (كبرى جزر الأرخبيل الياباني) لعائلة من مزارعي الفراولة، يوم 6 ديسمبر (كانون الأول) 1948.
إلا أن الفتى الطموح، قرر ألا يرث مزرعة العائلة بعدما أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في أكيتا، بل حزم حقائبه وانتقل جنوباً إلى العاصمة طوكيو، حيث التحق بجامعة هوساي. وفي طوكيو عمل في مصنع للورق المقوّى وحارساً أمنياً من أجل الإنفاق على دراسته، إلى أن تخرج فيها حاملاً الإجازة في الحقوق.
سوغا، المتزوج والأب لثلاثة أولاد، يُعرف عنه أنه رجل شديد الالتزام ونشيط يعمل بلا كلل، ولا يشرب الكحول إطلاقاً. وأكثر من ذلك، يقول عنه عارفوه، إنه جدّي جدً يفتقر إلى روح النكتة والدعابة، ومواظب على التمارين الرياضية يومياً للمحافظة على لياقته البدنية والذهنية، ويصحو باكراً في الساعة الخامسة صباحاً.
ثم أنه، بعكس عدد من الساسة المحافظين اليابانيين، لم يعتمد يوشيهيدي سوغا على شبكة علاقات عائلية في مسيرته. غير أنه بعد التخرّج انجذب إلى السياسة، والتحق بصفوف الحزب الديمقراطي الحر، وبدأ تسلق السلّم درجة درجة في «الغرف الخلفية». وكانت البداية عمله في الحملات الانتخابية للمجلس الأعلى للبرلمان. ثم عمل سكرتيراً لعضو البرلمان هيكوسابورو أوكونغي، لمدة 11 سنة. استقال على الأثر، في أكتوبر (تشرين الأول) 1986، وشق طريقه السياسية. وحقاً، في أبريل (نيسان) عام 1987، انتخب عضواً في المجلس البلدي لمدينة يوكوهاما، ثاني كبرى مدن اليابان، وتعلم، ثم أتقن بذكائه وغريزته السياسية الفطرية، فن تنظيم الحملات الانتخابية الشعبوية، ومخاطبة الجموع في الشوارع والساحات.

المسيرة البرلمانية والوزارية

بعد تسع سنوات، أي عام 1996 دخل سوغا البرلمان لأول مرة ممثلاً الدائرة الانتخابية الثانية في محافظة كاناغاوا، التي تضم مدينة يوكوهاما (عاصمة المحافظة) وتقع مباشرة إلى الجنوب من طوكيو. وهي الدائرة التي لا يزال يمثلها حتى اليوم، في أعقاب فوزه في انتخابات الأعوام 2000 و2003 و2005 و2009، وحتى الآن. غير أن سوغا، خلال 3 سنوات فقط من وجوده في البرلمان، في خطوة غير مسبوقة من سياسي طري العود، نقل ولاءه من زعيم كتلته البرلمانية رئيس الوزراء (السابق) كيزو أوبوتشي إلى كتلة الأمين العام السابق للحزب سيروكو كاجياما.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، خطا سوغا خطواته الأولى في عالم الحكومات عندما عيّن نائباً لوزير الداخلية في خكومة جونيتشيرو كويزومي. وفي العام التالي، وتحديداً في سبتمبر (أيلول) عام 2006، أسند إليه رئيس الوزراء الجديد (يومذاك) شينزو آبي منصب وزير الداخلية والاتصالات وخصخصة البريد، وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، أضيفت لحقائبه الوزارية حقيبة الإصلاح اللامركزي حتى 2007.
انتخابات 2009، بالذات، كانت مفصلاً مهماً بالنسبة لسوغا؛ إذ احتفظ بمقعده بخلاف عدد لا بأس من رفاقه، عندما شهدت اليابان موجة تأييد غير مسبوق لحزب اليابان الديمقراطي المعارض. ثم في أكتوبر 2011 عيّن سوغا رئيساً لمقر القيادة والتنظيم في الحزب الديمقراطي الحر، وكان دور سوغا محورياً إبان سنوات المعارضة في مساعدة شينزو آبي على استعادة قيادة الحزب الديمقراطي، وكانت مكافأته أن أسند إليه آبي في العام التالي 2012 منصب الأمين العام التنفيذي لمجلس الوزراء.
في هذا المنصب الحساس تنظيمياً والعظيم النفوذ، عُرف عن سوغا الحزم والفاعلية، والصرامة في التعامل مع الجهاز الحكومي والإعلام. وثمة مراقبون جيدو الاطلاع على دهاليز السياسة اليابانية، أن تساعد خبرة سوغا الإدارية الكبيرة في ضمان الاستمرار والسلاسة في العمل الحكومي خلال الفترة المقبلة وصولاً إلى موعد الانتخابات العامة المقبلة عام 2021. وحول هذا الجانب نقلت هيئة الإذاعة البريطاني (بي بي سي) عن البروفسور كويتشي ناكانو، أستاذ العلم السياسية وعميد جامعة سوفيا في العاصمة اليابانية طوكيو قوله إن «شينزو آبي وقادة الحزب (الحاكم) الآخرين أيدوا سوغا وانضموا إلى حملته، خصوصاً، لأنه يشكل الضمانة الأكبر للاستمرارية، وهو الأقدر على مواصلة مسيرة آبي في غياب آبي».
وبالفعل، مع أن كثيرين يعتقدون أن سوغا يفتقر إلى الدفء والديناميكية، فإنه معروف ومقدّر جداً لنجاعته وحذقه وتفكيره العملي. ثم، أنه كان ولا يزال شديد الولاء لآبي وجناحه السياسي الحزبي، وبالتالي، لا يتوقع أن يُحدث أي تغيير جوهري في سياسات سلفه قبل

«كوفيد – 19» والاقتصاد

انتخابات العام المقبل، وبالأخص سياسات آبي الاقتصادية التي تحرص على تنشيط الاقتصاد الياباني، ثالث أكبر اقتصادات العالم، والتي يعد يوشيهيدي سوغا من كبار المؤمنين والملتزمين بها.
في المقابل، ثمة من يشير إلى أنه قد لا يقود الحزب والحكومة لفترة طويلة، إذا فرضت التطورات ديناميكيات جديدة تحتاج إلى وجه جديد أكثر وأوسع جاذبية. والحقيقة، أن جائحة «كوفيد – 19» هزّت الاقتصاد الياباني كما هزّت كل اقتصادات العالم. ومن ثم، ما عاد ممكناً الاكتفاء بالنظريات والممارسات المألوفة، وهذا، بلا شك، تحد كبير لرئيس الوزراء الجديد. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن سوغا، تعهد أخيرا بتوسيع قاعدة فحوص فيروس «كوفيد – 19»، وتأمين لقاحات ضده في النصف الأول من العام المقبل. كذلك تعهد برفع الحد الأدنى للأجور، والدفع قدماً بإصلاحات القطاع الزراعي، ودعم قطاع السياحة.
على صعيد آخر، يتوقع المراقبون، أن يواصل سوغا، ذو الخبرة المحدودة نسبياً في مجال السياسة الخارجية، السير على خطى سلفه. وهو ما يعني أن تكون في قمة أولويته تمتين التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بالتوازي مع الاحتفاظ بسياسة مستقرة مع الجار: الآسيوي العملاق... الصين.
غير أن التحدي الاقتصادي يبقى التحدي الأساسي قبل انتخابات العام المقبل. ومما لا شك فيه أن المرحلة الانتقالية التي يقود فيها سوغا اليابان تأتي في حقبة اقتصادية صعبة. إذ أدت الجائحة – كما سبقت الإشارة – إلى ركود حاد غير مسبوق. والخطوات التي اتبعها الرئيس السابق آبي ما كانت بعد قد آتت أكلها عندما ضربت الجائحة اليابان، ثم، أن الجائحة أتت بعد سنوات من بطء النمو والكساد.
في الجوانب الأخرى، تركت الحكومة السابقة للحكومة الجديدة أموراً أخرى معلقة، مثل خطط الإصلاح الدستوري في مرحلة ما بعد مرحلة اللاعسكرة – التي تلت هزيمة البلاد في الحرب العالمية الثانية. ويذكر في هذا السياق، أن آبي كان راغباً في تعديل الدستور من أجل إعادة تنشيط القوات المسلحة، المعروفة رسمياً باسم «قوة الدفاع عن النفس»، والممنوعة من المشاركة في أي عمليات أو مهام عسكرية دولية.
هناك سياسات، إذن، تحتاج إلى عامل الاستمرارية، ولكن توجد تحديات يعتقد على نطاق واسع أنها تحتاج إلى إعادة نظر. وهنا يطرح السؤال: ماذا يمكن أن يحصل بين الآن وسبتمبر 2021 موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة؟
بل يُطرح سؤال آخر أيضاً... هو، هل تحفّز الحملة الانتخابية الموعودة على استعاضة الحزب الديمقراطي الحر عن التخلي عن نهج الاستمرارية والبدء بالإعداد لبداية جديدة تحت قيادة جديدة قد تكون فرصتها أكبر بقيادة الحزب للفوز؟
بالنسبة للسؤال الثاني، كان سوغا ضد فكرة انتخابات مبكرة تسبق السيطرة على الجائحة، غير أن هناك شائعات لا تستبعد إجراء مثل هذه الانتخابات، بل هناك من يقول إنه قد تجرى خلال فترة قريبة جداً تقطع الطريق كسب الحزب الديمقراطي الدستوري المعارض زخماً بعد إعادة تنظيمه، قد يهدد معه الحزب الحاكم.
ولكن، حتى إذا أجريت انتخابات العام المقبل في موعدها (مجلس النواب في سبتمبر والمجلس الأعلى في أكتوبر)، قد لا تكون رئاسة سوغا أكثر من فترة انتقالية. وهذا يعني انتخابات أخرى لزعامة الحزب، علماً بأن أنظمة الحزب تفرض انتخابات زعامة كل ثلاث سنوات، وهي ستكون هذه المرة مفتوحة أمام كل أعضاء الحزب؛ ما يعزز فرصة منافسه بالأمس شيغيرو إيشيبا، القوي شعبياً، وأيضاً قد هناك فرصة لفوز وزير الدفاع السابق تارو كونو.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.