رحلات فينوس: نظرة على التاريخ ومتى يمكننا العودة

رسم تخيلي من «ناسا» للمركبة الأميركية «بايونير فينوس 2» (نيويورك تايمز)
رسم تخيلي من «ناسا» للمركبة الأميركية «بايونير فينوس 2» (نيويورك تايمز)
TT

رحلات فينوس: نظرة على التاريخ ومتى يمكننا العودة

رسم تخيلي من «ناسا» للمركبة الأميركية «بايونير فينوس 2» (نيويورك تايمز)
رسم تخيلي من «ناسا» للمركبة الأميركية «بايونير فينوس 2» (نيويورك تايمز)

كشف علماء فلك، الاثنين، رصد مادة الفوسفين الكيميائية داخل السحب الحامضية لكوكب فينوس، الأمر الذي يمثل مؤشراً محتملاً على وجود حياة على سطح فينوس. وأثار هذا الإعلان رغبة حثيثة في نفوس بعض العلماء المعنيين بالفلك والكواكب للعودة إلى ثاني كوكب في المجموعة الشمسية، خصوصاً أولئك الذين يشعرون أن فينوس تعرض للتجاهل على مدار فترة طويلة لصالح المريخ وعدد من الكواكب الأخرى.
في هذا الصدد، قال بول بيرن، العالم المتخصص في الكواكب بجامعة نورث كارولينا: «لو كان هذا الكوكب نشطاً وينتج الفوسفين، وهناك شيء في الغلاف الجوي لفينوس ينتجه، فإن هذا يعني أن علينا نسيان كل ذلك الهراء عن المريخ. إننا بحاجة لمركبة هبوط وأخرى تدور في مدار فينوس، باختصار نحن بحاجة إلى برنامج».
ومع هذا، ليس من السهل زيارة فينوس، ذلك لأن غلافه الجوي الغني بثاني أكسيد الكربون أكثر كثافة عن غلافنا الجوي بمقدار 90 مرة عن غلافنا الجوي، في الوقت الذي يبلغ فيه متوسط درجة حرارة سطحه 800 درجة فهرنهايت. كما أن مستوى الضغط على سطحه على درجة كافية من الكثافة لسحق بعض الغواصات.
إلا أن ذلك لم يمنع برامج الفضاء من محاولة الوصول إلى فينوس. وتشير الإحصاءات إلى أن قرابة 40 مركبة فضاء «روبوتية» أطلقتها حكومات على كوكب الأرض، حاولت زيارة فينوس بطريقة أو بأخرى. وفيما يلي بعض أهم النقاط المستخلصة من رحلات سابقة لفينوس، ومدى إمكانية العودة سريعاً إليه لسبر أغوار ما يحدث داخل تلك السحب.

الزائرون السوفيات الكثيرون لفينوس
عام 1961، شرع برنامج الفضاء السوفياتي في محاولة استكشاف فينوس. وخلال العقود التالية، أرسل الاتحاد السوفياتي عشرات المركبات الفضائية لفينوس الذي يطلق عليه في بعض الأحيان توأم الأرض. ورغم أن المحاولات السوفياتية لاستكشاف فينوس منيت بكثير من الإخفاقات في بدايتها، تحول الاتحاد السوفياتي بمرور الوقت إلى أول دولة ترسل مركبة فضائية إلى عالم آخر، وبعد فترة ليست بالطويلة أصبح أول دولة تلتقط صوراً من على سطح كوكب آخر. وجاءت إنجازات الاتحاد السوفياتي بمجال الهندسة مذهلة، حتى قياساً بالمعايير الحديثة.
وبعد أن عاينوا كيف أن المجموعة الأولى من المركبات الفضائية التي أرسلوها إلى الغلاف الجوي لفينوس سحقت كما لو كانت علباً معدنية مصنوعة من القصدير، أدرك السوفيات مدى ضخامة مستوى الضغط في كوكب فينوس. وأدى هذا الأسلوب من التجربة والخطأ نهاية الأمر إلى بناء مركبة فضائية من المعدن بلغ وزنها 5 أطنان كي تتحمل، ولو لساعة واحدة فقط، الضغط الهائل على سطح فينوس.
وبالفعل، أصبحت «فينيرا 4» عام 1967 أول مركبة فضائية تقيس الغلاف الجوي في كوكب آخر، ورصدت وجود كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون التي تسبب ظاهرة الاحتباس الحراري المستمرة على سطح فينوس.
وأنهى الاتحاد السوفياتي عام 1985 رحلاته إلى فينوس من خلال مركبة «فيغا» التوأم، التي أطلق كل منها بالونات ضخمة محملة ببيانات علمية تكشف إمكانية إجراء عمليات استكشاف أخرى عبر سحب الكوكب. وكان من شأن الوتيرة البطيئة لبرنامج الفضاء السوفياتي قرب نهاية الحرب الباردة وقف الرحلات إلى فينوس.

«ناسا» أبقت أعينها على فينوس
في الوقت الذي لطالما بدا المريخ الجائزة الكبرى أمام المعنيين بالتخطيط لبرنامج الفضاء الأميركي، أتاح برنامجا «مارينر» و«بايونير» خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي بعض الوقت لفينوس. وكانت «مارينر 2» أول مركبة فضاء أميركية تتجه إلى فينوس عام 1962. وخلصت المركبة إلى أن درجات الحرارة كانت أقل عند المستويات الأعلى من السحب، لكنها شديدة الارتفاع على السطح.
عام 1978، منحت رحلات «بايونير» باحثين أميركيين نظرة عن قرب على الكوكب. ودارت واحدة من مركبات «بايونير» في مدار الكوكب طوال نحو 14 عاماً، الأمر الذي كشف النقاب عن كثير من المعلومات حول الغلاف الجوي الغامض لفينوس. أيضاً، لاحظت المركبة أن فينوس يتسم بسطح أملس عن الأرض، وأنه يوجد به حقل مغناطيسي ضئيل للغاية أو لا يوجد به حقل على الإطلاق.
كما أرسلت رحلة أخرى لـ«بايونير» عدداً من المعلومات حول الغلاف الجوي لفينوس والسحب الموجودة به، بجانب قراءات لرادار من على سطحه.
عام 1990، دخلت مركبة «ماغيلان» التابعة لـ«ناسا» إلى المجال الجوي لفينوس وقضت أربع سنوات ترسم خرائط لسطح الكوكب وتبحث عن معلومات تتعلق بالصفائح التكتونية بالكوكب. واكتشفت المركبة أن ما يقرب من 85 في المائة من سطح الكوكب مغطى بتدفقات حمم بركانية قديمة، ما يشير إلى نشاط بركاني كبير في الماضي، وربما في الحاضر.
وكانت هذه المركبة آخر الزائرين الأميركيين لفينوس.

زائرون آخرون لفينوس
أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية مركبة «فينوس إكسبريس» عام 2005، التي دارت في مدار الكوكب طوال ثمانية أعوام، ولاحظت أنه ربما لا يزال نشطاً من الناحية الجيولوجية.
أما الضيف الوحيد من كوكب الأرض لدى فينوس حالياً فهو مركبة «أكاتسوكي» التي أطلقتها اليابان عام 2010. وتأخرت المركبة عن موعدها مع فينوس عندما تعطل محركها أثناء توجهها نحو مدار فينوس. بحلول عام 2015، نجح القائمون على المهمة في توجيهها من جديد إلى مدار فينوس لدراسة الكوكب.
ومنذ ذلك الحين، نجحت المركبة في تغيير نظرة العلماء إلى فينوس، وكشفت وجود اضطرابات في الرياح على الكوكب فيما أصبح يعرف باسم «موجات جاذبية»، إضافة إلى وجود تيارات نفاثة استوائية في الغلاف الجوي.

ما الخطوة المقبلة؟
جرى اقتراح كثير من الرحلات للعودة إلى فينوس، وأعلنت بعض وكالات الفضاء عن طموحاتها لزيارة الكوكب، لكن من الصعب الجزم بأنها ستبعث رحلات إلى الكوكب بالفعل.

- خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)