سيمون دي بوفوار... خارج ظل سارتر

أستاذة فلسفة بريطانية تقدم سيرة مغايرة للأيقونة الفرنسية

دي بوفوار وسارتر
دي بوفوار وسارتر
TT

سيمون دي بوفوار... خارج ظل سارتر

دي بوفوار وسارتر
دي بوفوار وسارتر

سيمون دي بوفوار (1908 - 1986) رمز النسويّة المتحررة، التي كتبت بإيقاع حياتها وتجاربها الشخصيّة قبل الكتب والمقالات معالم فلسفة عيش كانت نقطة فاصلة في ثقافة مواطناتها الفرنسيّات - وكثير من نساء العالم - خلال القرن العشرين، وأصبحت بسلسلة علاقاتها المتحررة والمتمردة على السياقات التقليدية في المجتمعات المحافظة موضع إعجاب وأيضاً مادة للفضائح... بوفوار التي فازت بكثير من الجوائز الأدبيّة، وغيّرت نصوصها الفلسفيّة من نظرتنا لمعنى الجندر، وقدّمت نصوصاً ومواقف فكريّة وسياسيّة كان لها صدى بفرنسا والغرب برمّته، تعرّضت - رغم شهرتها الفائقة - إلى ظلم كبير، وأُلقيت على شخصيتها ظلال كثيرة ليست لها؛ إذ عدّها كثيرون مجرّد قمر تابع يدور في فلك شمس جان بول سارتر (1905 – 1980) فيلسوف الوجوديّة ذائع الصيت وأحد أهم المثقفين الفرنسيين في كل الأوقات، والذي عاشت معه علاقة غراميّة طويلة فائرة ومتقلّبة، وأساء كثيرون فهم نُصوصها - لا سيّما النسويّات ومثقفي المقاهي - فيما هي اختارت أحياناً حذف بعض التفاصيل من حياتها - والأشياء التي نحذفها عادة تقول عنّا أكثر ربّما مما نبقيه -. ولم يساعد كثيراً أن الترجمة الوحيدة لكتابها الأشهر «الجنس الآخر - 1949» إلى اللغة الإنجليزيّة - لغة الثقافة العالميّة في هذا العصر - أسقطت نحو خمس النصّ الفرنسيّ، الأمر الذي تسبب في عدم توازن الصورة بشأن مواقفها، لا سيّما فيما يتعلّق بالحركات النسويّة، أو أن السيرة شبه الرسميّة التي وافقت عليها وتحدثت مطولاً لكاتبها ديدريه بيرز (1991) لم تكن دقيقة بما فيه الكفاية كما يبدو، لا سيّما بعد ظهور مذكرات عدة لنساء تعرّضن للإذلال الجنسي والاستغلال العاطفي من قبل الثنائي سارتر - بوفوار، إضافة إلى نصوص مراسلاتها طوال سبع سنوات قضتها في علاقة رومانسيّة مع كلود لانزمان آخر عشاقها، التي كشف عنها للعموم قبل عامين فحسب (2018).
ولذا بدا منطقيّاً أن يتصدى أحدهم لكتابة سيرة أكثر تمثيلاً لدي بوفوار بعد نحو 35 عاماً على غيابها، لكن هذي المرّة لم تأت السيرة الجديدة من باريس ولم تكتب بالفرنسيّة، بل من لندن، وباللغة الإنجليزيّة، وعلى يد أستاذة فلسفة ولاهوت بجامعة أكسفورد؛ كيت كيرباتريك، عنونتها «صيرورة بوفوار: سيرة حياة»*.
وفي الحقيقة؛ فإن عبارة «صيرورة» جاءت أفضل تعبير عن الثيمة العامّة التي طبعت السّرد في السيرة الجديدة؛ إذ إنّ البروفسورة كيرباتريك ترى أن فلسفة دي بوفوار ومنطقها ومغامراتها الفكريّة تُقرأ بأوضح ما يكون من خلال تحولات حياتها، أو على الأقل لن تُفهم تلك الفلسفة بشكل عميق إلا من خلال مقارنتها بهذي التّحولات، وتلك مسألة كانت واضحة في ذهن الفيلسوفة الشابّة دي بوفوار التي علّمتها دروسها الجامعيّة مبكراً أن الإنسان يعيش حياة واحدة فحسب، وأنه لذلك يجدر به ملأها بالتجارب والمغامرات والاستكشاف، وأرادت لحياتها أن تكون بمثابة المادة الخام لاختبار أفكارها وعواطفها والتزامها الذي لا يتزعزع بالحريّة الإنسانية، وبقضيّة المرأة في المجتمعات البطريركيّة المحافظة.
تنجح كيرباتريك بتقديم مقاربة مغايرة لجانبين مهمين من شخصيّة دي بوفوار استحكمت بهما طويلاً التصورات المسطّحة والانحيازات المغلوطة في الإعلام والرأي العام؛ أولهما علاقتها بالحركات النسويّة وموقفها لناحية مسألة «الجندر»، وثانيهما بشأن العيش في ظل سارتر.
ترددت دي بوفوار - كما مجايلتها الروائيّة البريطانيّة دوريس ليسنغ (1919 - 2013. حائزة نوبل للآداب 2007) - في منح تأييدها للحركات التي شرعت تطالب بحقوق المرأة في أوروبا منتصف القرن العشرين، وذلك رغم مكانتهما بوصفهما أيقونتين للنساء داخل بلادهما. وهنأت دي بوفوار نفسها خلال سيرة ذاتيّة نُشرت عام 1963 على «تجنبها الوقوع في فخ موضة (النسويّة)»، فيما هي نادت بإلغاء المفهوم التقليدي للعائلة، وعدّت الاستقلال الاقتصادي للمرأة والاشتراكية لن يكونا كافيين لتحقيق تحرر النساء من وعثاء أكوام البطريركيّة المتراكمة، وناضلت بشجاعة في حملات لمنح المرأة الفرنسيّة حقّ الإجهاض. وفي كتابها «الجنس الآخر» تجرأت على رسم مشاهد بنفس روائي لتجاربها الذاتيّة ومن ثم تحليلها على نحو كان - على الأقل بمقاييس أيّامها - ريادة وفي آن مصدر انتقادات حادة من قبل قلاع المحافظة في بلادها - وعبر الغرب - إذ وصفتها الصحف وقتها بحواريّة باخوس (إله الخمر والنشوة والابتهاج عند الإغريق القدماء). لقد كانت نسويتها ممارسة فلسفيّة وجوديّة يوميّة لا ثرثرة حفلات الكوكتيل الباريسيّة، ونسقاً يتجاوز السفسطة الأكاديميّة المحض، ولم يكن ممكناً تعليبها في صندوق نظري خشبي لترضي المناضلات. وللحقيقة يكاد سوء الفهم لنسويّة دي بوفوار يتكرر اليوم مجدداً نظراً للموقف السلبي منها الذي يتخذه أنصار التحوّل الجنسي وبدعة الجنس الثالث كرجعيّة وضحيّة للمجتمع البطريركيّ! ولعل جملتها الأشهر في «الجنس الآخر» بأن «المرء لا يولد امرأة، لكنه يصبح كذلك» المثال الكلاسيكي على المدى الذي يمكن الذهاب إليه في قلب المعاني وتحميل النصوص ما لا تحتمل؛ إذ إن الأكثرية أخذت بظاهر النّص بالفرنسيّة معزولة عن السياق الكلي للكتاب ولفلسفة دي بوفوار، وضاعفت خيانة المترجمين إلى الإنجليزيّة من ذلك، مع أن مقصدها تحديداً هو أن «الإنسانة لا تولد امرأة، ولكنها تصير كذلك»، وأنها كتبت بأن الاعتراف بالمرأة إنساناً - تساوياً مع الرجل - كما تدعو الحراكات النسويّة فذلكة نظريّة مجرّدة، لأن «المرأة ببساطة ليست رجلاً». وقد انتظرنا سبعين عاماً من صدور «الجنس الآخر» كي توثق لنا كارولين كرايدو بيريز في كتابها «النساء اللامرئيّات - 2020» واقع كون المساواة العمياء تميل بحكم تجّذّر الذكوريّة في ثقافة المجتمعات لجهة الرجل دون المرأة؛ إذ سرعان ما تتوارى النّساء في الكلمات المحايدة «الجندر» مثل «الشخص» أو «الإنسان» أو «المرء»، فتقرأ في اللاوعي الجمعي كأنها تشير أساساً إلى الرّجال.
ولم تتجاهل كيرباتريك الاتهامات حول نفاق نسويّة دي بوفوار بعد صدور مذكرات لإحدى تلميذاتها (2008) تحدثت فيها عن استغلال جنسي تعرضت له من الثنائي دي بوفوار - سارتر، كما شهادة من تلميذة أخرى (1993) وصفتهما - بوحوش التحرر – للأسباب ذاتها. وقد وضعتها كاتبة السيرة في إطار فلسفي كلي لناحية التجريب واستكشاف الذات والآخر، وأوردت نصوصاً عدّة من مراحل مختلفة عبّرت فيها دي بوفوار عن إحساسها بالندّم على ما تسببت به من آلام للآخرين.
أما بشأن سارتر، فكيرباتريك، وإن لم تورد شيئاً جديداً بشأن تفاصيل علاقة بطلة كتابها به، فقد بذلت كثيراً من الجهد لإخراجها من ظلّه - لا سيما بعدما رسمها ديدريه بيرز في السيرة التي نشرها بعد 5 سنوات على رحيلها وقد تنازلت عن كل صراخها حول حريّة المرأة لأجل الالتحاق بعلاقة غير متكافئة مع شريك ذكر مهيمن. وإذا كان ذلك تقصيراً من بيرز، فإنه ليس ذنبه وحده؛ إذ كانت الصورة غالبة في الثقافة الشعبيّة عن الثنائي الشهير - لدرجة أنّ نصوص رثاء سارتر في صحف باريس عند وفاته (1980) تناست دي بوفوار أو همشت دورها، فيما هيمن الحديث عن سارتر على معظم نصوص رثائها عندما رحلت (1986). وتبني كيرباتريك مستفيدة من مراسلات دي بوفوار - لانزمان شكلاً آخر لعلاقة أكثر نديّة - وأقل تهتكاً وتحرراً من النموذج الإيروتيكي الموهوم عن الثنائي دي بوفوار - سارتر، وتكاد تتخذ موقفاً ضمنياً سلبياً من دور سارتر في العلاقة، وتجعل منه محتاجاً إلى دي بوفوار أكثر من حاجتها له، وترسمه أقرب إلى عشيق للروح والفكر دون أن يكون وحيداً أو دائماً في حياتها، فهي أحبت من قبله، وارتبطت بعلاقات لاحقة متعددة من بعده ربما كان أكثرها نضوجاً مع لانزمان؛ الذي كان في نهاية العشرينات من عمره عندما التقاها وهي في منتصف الأربعينات.
المؤلفة البريطانية - التي تعرف الفكر السارتري بدقّة وأصدرت سابقاً (2017) دراسة مهمة عن «سارتر والألوهيّات» - نجحت أيضاً حيث أخفق آخرون في مهمّة الفصل وتمييز المواقف الفلسفيّة بين طرفي الثنائي، وتتبع تطوّر بعض من أفكارها ذات الأصالة التي ضاعت في أجواء هالة العلاقة الشهيرة.
«صيرورة بوفوار: سيرة حياة»، قراءة لا بدّ منها لوضع الأمور أخيراً في نصابها بشأن واحدة من أهم النساء اللاتي شكلن جزءاً من ذاكرة القرن الماضي، حتى هتفت الحشود في جنازتها: «أيتها النساء، أنتن مدينات لها بكل شيء».



قصة كلب فيلسوف وحيد

كافكا
كافكا
TT

قصة كلب فيلسوف وحيد

كافكا
كافكا

بحلول الوقت الذي توفي فيه الروائي التشيكي فرانز كافكا في عام 1924 عن عمر يناهز الـ40 عاماً، كان صاغ ثلاث روايات (المحاكمة، والقلعة، وأمريكا) لكنه لم ينته أو ينشر أياً منها في حياته، باستثناء بعض المقتطفات. وقبلها كان نشر رواية وجيزة وعدداً من القصص القصيرة قبل أن يعهد بكل كتاباته التي لم يتخلّص منها إلى صديقه وناشره ماكس برود كي يتولى حرقها في حال وفاته. على أن برود لم ينفّذ الوصيّة، وبعد بعض التدخلات التحريريّة نشر الروايات الثلاث التي أسست لاحقاً - لا سيّما بداية من فترة الستينيات - لسمعة كافكا واحداً من أهم روائيي القرن العشرين على الإطلاق، وأيقونة ثقافيّة عابرة للغات لدرجة أن أكثر القراء التهموا حتى كتاباته الشخصيّة كاليوميات والرسائل والملاحظات غير منشورة، وتناقلوا عنه مقاطع غامضة وزلات لسان، بل ونشر أحدهم مجموعة مختارة من المستندات التي كان يملؤها كافكا في إطار وظيفته اليومية ككاتب لدى هيئة التأمين ضد حوادث العمال.

غلبت على الأعمال التي تركها كافكا ثيمة النقد اللاذع للمؤسسات القانونيّة والبيروقراطيّة التي أنتجتها مرحلة الحداثة، والتنديد بأهوال الأنظمة الإدارية التي تأخذ حياة مستقلة عابرة للأشخاص وتصبح عصيّة على الاختراق بشكل غريب، لكن ثمة مساحة أخرى عُني بها، وإن لم تحظ بالانتشار، تعلّقت بنقد إنتاج المعرفة في الأكاديميا المعاصرة والتي لا تقل «كافكاويّة» في تصنيفاتها ونظم تقييماتها وترقياتها وتراتبياتها وأولوياتها التي يحرّكها السوق عن أي منظومة حداثيّة أخرى.

مقاربة كافكا لعالم إنتاج المعرفة جاءت في نص «أبحاث كلب»، أحد أقل أعماله شهرة، وأكثرها غموضاً، كان كتبه في خريف عام 1922، لكنّه تركه بلا عنوان، ولم ينشر إلا بعد وفاته، بتحرير صديقه برود، الذي جمع عدة كتابات قصيرة ونشرها في مجلد عام 1931 مضيفاً هذا العنوان لذلك النص ليربطه بـ«الأبحاث» الأكاديميّة.

«أبحاث» هي قصة ساخرة فلسفية عميقة لكلب وحيد غير قادر على التكيف مع محيطه ويتحدى العقيدة العلمية السائدة، فينطلق في رحلة بحث سعياً لفهم أفضل لذاته وللعالم من حوله، تأخذه إلى سلسلة من المغامرات النظرّية، تبدأ من استقراء لفضوله وغرائزه الاستقصائية قبل أن ينتقل إلى اللغز الرئيس للوجود معبراً عنه بسؤال «من أين يأتي الطعام؟».

ويبتكر الكلب المتفلسف في سياق بحثه عن إجابات عدداً من التجارب، ويطرح سيلاً لا يتوقف من الأسئلة دون أن يتلق أي إجابات، ثم يصف العقبة التي يصطدم بها عند محاولته استمالة زملاء للانضمام إليه في أبحاثه: الصمت والتخلّي، فكأن لا أحد يرغب بمعرفة الحقيقة. وفي وقت لاحق يطلق مبادرة جذريّة من أجل كشف أسرار التغذية، فيصوم، لكن ذلك كاد يقضي عليه، إذ شارف على الموت جوعاً. وتختتم القصة بتلخيص الاكتشافات الفلسفية للكلب، والتي يمكن تسميتها، «نظام العلوم»، وهو هيكل ذروته علم الحرية - التي ستكون الكلمة الأخيرة في القصة. أثار «أبحاث كلب» اهتمام آرون شوستر، أحد أهم الباحثين المعاصرين في الأنثروبولوجيا الثقافيّة والفلسفيّة القاريّة (الأوروبيّة) الذي رأى فيه تفكيراً رائداً سبق نقد المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان لما أسماه «الخطاب الجامعي» الذي لم يتعلق بسوء إدارة الجامعة الحديثة بقدر ما يتعلق بتسليط الضوء على التحول الواسع في هيكلة السلطة بالمجتمعات المعاصرة، حيث تتحد المعرفة والسلطة لإنشاء أنظمة إدارية تكرّس أوضاعاً معينة تعمل باسم العقل والتقدم التقني. وهنا دور كافكا الرؤيوي، مشككاً في هذا النظام الجديد، ومنقباً عن الجانب الخفيّ من حياده (العلميّ) المفترض، مع اقتراح طرائق أخرى بديلة للتفكير، وربما مخارج.

شوستر قدّم قراءته لـ«أبحاث كلب» في كتاب صدر بالإنجليزيّة حديثاً عن مطبعة «معهد ماساشوستس للتكنولوجيا» بعنوان «كيف تبحث ككلب: علم كافكا الجديد»، معتبراً هذا النصّ القصير لم يحظ بالاهتمام الذي يستحق، وأنّه لا يزال أكثرها غموضاً، ويتعيّن العمل على إعادة استكشافه وتفكيك ألغازه.

ويرى شوستر أن مفتاح النّص قد يكمن في كمّ السخريّة الهائل الذي تحمله «أبحاث كلب» مقارنة بمجمل تراث كافكا الأدبيّ كلّه، ما يجعلها في القراءة الأولى أشبه بنكتة متفلسفة طويلة غايتها الترفيه الفكري المحض. لكن معرفتنا بكافكا، كناقد عميق لمؤسسات الحداثة، تدفع للتساؤل عمّا إذا كانت قصته بمثابة هجاء لحماقات الفلسفة والمتفلسفين في أبراج عاجيّة، وشتيمة لفذلكات التكهنات الميتافيزيقية.

يأخذ شوستر القراءة تالياً إلى ما يشبه الصدمة: حيث لا نرى البشر في عالم الكلب الفيلسوف، لكنّهم أسياد الكون غير المرئيين، وهذه الفجوة الهائلة في الإدراك بين الظاهر ومن يقود العالم هي ما يفسّر للقارئ جميع أنواع المآزق المضحكة والمشاكل الزائفة التي يغرق فيها بطل القصة وراويها، الذي يقول «لقد عمدت مؤخراً أكثر فأكثر إلى النظر في حياتي بحثاً عن الخطأ الحاسم والأساسي الذي يجب أن أكون قد ارتكبته في وقت ما بالتأكيد، ولا يمكنني العثور عليه». إن هذا العمى عن القوة المهيمنة في العالم هو الخلل الأساسي الذي تتحرّاه «الأبحاث».

يقول شوستر إن الهيمنة تبدو في قصّة الكلب المتفلسف أكثر تعقيداً وغير مرئيّة، إذ بعكس «المحاكمة» و«القلعة» تنسحب السلطة المركزيّة إلى درجة تلاشيها من الرؤية تماماً لكن دورها مستمر على مستوى آخر من خلال عملية صناعة المعرفة التي تنتج العقائد والأفكار، لكّن ذلك يجعل السعي إلى الحرية أكثر إلحاحاً، وهو أمر يجعل من الحياة أقرب إلى حالة انتحار فاشلة مستمرة، فيما هذا الفشل تحديداً هو أدق تعبير عن الإيجابية والحياة.

إن «أبحاث كلب» التي كتبت في وقت متأخر من حياة مؤلفها، قد تكون وفق ما يذهب إليه شوستر في قراءته أفضل مدخل لفهم أعمال كافكا الأخرى كلها، ومفتاحاً لكسر مغاليق شخصياته شديدة التعقيد، بل ربما لمقدمة لا بدّ منها لفهم عقل كافكا نفسه.