«كاراج سوق»... عودة نبض الحياة إلى جارة مرفأ بيروت

صاحبته ترفع الصوت وتطالب بدعم المبادرة

يوفر «كاراج سوق» فرص عمل مفتوحة أمام نحو 120 عائلة لبنانية
يوفر «كاراج سوق» فرص عمل مفتوحة أمام نحو 120 عائلة لبنانية
TT

«كاراج سوق»... عودة نبض الحياة إلى جارة مرفأ بيروت

يوفر «كاراج سوق» فرص عمل مفتوحة أمام نحو 120 عائلة لبنانية
يوفر «كاراج سوق» فرص عمل مفتوحة أمام نحو 120 عائلة لبنانية

لم يثن انفجار بيروت، جيهان زهاوي صاحبة مبادرة «كاراج سوق» البيروتية، من إقامة النسخة الثانية من هذه السوق الشعبية في منطقة مار مخايل، الأكثر تضرراً من الكارثة.
فانطلاقاً من تشبثها بإرادة العيش، وبفتح باب أمل أمام اللبنانيين من مختلف الشرائح الاجتماعية، قررت تقديم هذه المبادرة على نفقتها الخاصة. ففي هذه السوق الشبيهة إلى حد كبير بـ«كاربوت» اللندني، استطاعت زهاوي استقطاب نحو 120 عائلة لبنانية لتسهم في تأمين لقمة عيشها.
وتقول جيهان زهاوي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، «لقد أصبح (كاراج سوق) تقليداً سنوياً ينتظره اللبنانيون من مختلف المناطق اللبنانية. ووقوفنا اليوم في منطقة مار مخايل هو للدلالة على أننا شعب لا يموت، يتشبث بالحياة، وبأرضه، مهما بلغت به المصاعب».
وإذا ما تنقلت في هذه السوق، لا بد أن تسترعي انتباهك أنواع السلع والمنتجات من يدوية وحرفية ومستعملة وغيرها. فهنا يسمح ببيع وشراء كل ما يخطر على بالك، وبأسعار مقبولة، وأحياناً زهيدة، تبدأ بمبلغ ثلاثة آلاف ليرة. ومن خلال حركة البيع والشراء هذه، تستطيع أن تشارك في دعم هذه العائلات، وتوفير الحد الأدنى لها من مصاريف تحتاجها.
عادة ما تقيم جيهان زهاوي هذه السوق، عارضة تأجير الخيم والبسطات على الراغبين في المشاركة، بعد أن تتكفل بدفع كلفة استثمار الأرض المقام عليها. ولكن هذه السنة، ونظراً للأوضاع المعيشية المتأزمة التي يعاني منها اللبنانيون، قررت زهاوي أن تفتح باب السوق مجاناً أمام الجميع. «لقد تلقيت آلاف طلبات المشاركة، فالناس في غالبيتهم، وفي زمن (كورونا)، زاولوا أعمالاً يدوية كثيرة في بيوتهم. وجاءت هذه السوق بمثابة مساحة أمل يعرضون فيها منتجاتهم، ويعرّفون عنها، كما توفر لهم باب رزق».
تفتح السوق أبوابها في عطلة نهاية الأسبوع، يومي السبت والأحد. وتصطف البسطات والخيم المتراصة، ليعرض فيها أصحابها منتجات مونة لبنانية ورسوم ولوحات وكتب وأثاث وأزياء وإكسسوارات جديدة أو مستعملة. كما يلقي الضوء على مهارات حرفية لبنانية، فيكتشفها الزائر لأول مرة كعصير تفاح من بلدة مشغرة وعلب الضيافة المصنوعة من الورق، ومنتجات مقطرة تصلح للتداوي والتجميل. وخلال جولتنا في «كاراج سوق»، التقينا فاهيه بائع كتب مستعملة التي قالت «الحجر المنزلي أسهم في تعزيز هواية القراءة، ولدي نحو 5000 كتاب، أعرض بعضاً منها في (كاراج سوق) بأسعار مقبولة جداً، وهي تستقطب الشباب والكبار في السن معاً».
أما المحامية باميلا رحال، فقد حملت منتجات صنعتها وأفراد عائلتها من بساتين التفاح في بلدتها مشغرة. وتقول في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «نحن هنا لتأكيد تعلقنا بأرضنا، وبأننا لن ولم نتركها مهما جار علينا الزمن. ومن أشجار التفاح والعنب في أرضنا أحمل العصائر ومنتجات مونة لبنانية أخرى ليتعرف إليها الناس، ويشجعون صناعاتنا المحلية».
من ناحيتها، تقول نور عريضي التي تؤلف مع والدتها فريقاً يصنع منتجات مقطّرة تحت عنوان «حديقة كاميليا»: «السوق فتحت أمامنا فسحة أمل ومصدر رزق نروج من خلالها منتجاتنا الخالية من أي عنصر صناعي». وتتابع لـ«الشرق الأوسط»: «ومع ماء الورد والزهر والقصعين وأكثر من 35 عشبة من أرضنا، نقدم منتجاتنا المخصصة للاستعمال الخارجي والداخلي. ولكن عتبنا كبير على مؤسسات وجمعيات خيرية لا تشاركنا همومنا فتمد يد المساعدة لتشجيعنا».
نور قطايا، المتخصصة في علم الحاسوب، أخذت على عاتقها بيع أدوات ديكور وزينة مصنوعة من الورق. «هي أعمال حرفية يقوم بها جدي محمد منذ سنين طويلة بواسطة ورق المجلات. فيصنع منها صناديق الفوط الورقية والصواني والأواني بطريقته الإبداعية الموقعة بأنامله. وبعض الزوار يقفون مندهشين أمام هذه الصناعة الفنية الجديدة». وتختم جيهان زهاوي: «إنه شغف اللبناني للإبداع، ولتأمين لقمة العيش من دون مذلة. فنحن لسنا بحاجة لمن يعطينا طبق طعام، بل لمن يزودنا بواحة أمل، فيشرق معها غد أفضل، بحيث لا نضطر إلى مدّ يدنا للغير لنحصل على السمكة، بل نصطادها بكل طيب خاطر».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».