«الأمل يتجسد بالفن»... غرافيتي تغطي أضرار فندق وسط بيروت

«الأمل يتجسد بالفن» مبادرة فنية تكريماً لبيروت
«الأمل يتجسد بالفن» مبادرة فنية تكريماً لبيروت
TT

«الأمل يتجسد بالفن»... غرافيتي تغطي أضرار فندق وسط بيروت

«الأمل يتجسد بالفن» مبادرة فنية تكريماً لبيروت
«الأمل يتجسد بالفن» مبادرة فنية تكريماً لبيروت

يعدّ فندق «لو غراي» وسط بيروت أحد أكثر معالم العاصمة شهرة؛ نظراً لموقعه ولنشاطاته الثقافية والفنية المتعددة. هذا المعلم الذي افتتح أبوابه في عام 2009 شكّل وجهة معروفة للسياح العرب والأجانب. كما استضاف شخصيات بارزة في عالم الفن والرياضة أمثال بطل كرة القدم العالمي محمد صلاح، والممثلة الفرنسية المعروفة كاترين دونوف.
منذ اندلاع الثورة اللبنانية في 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الفائت لم يسلم فندق «لو غراي» من أعمال الشغب التي كانت تجري في محيطه. فساحة الشهداء الواقعة بموازاته كانت محطة يومية للمتظاهرين. وإثر انفجار مرفأ بيروت أصيب بأضرار جسيمة أدت إلى إقفاله حتى إشعار آخر. ومن مرّ قرب الفندق بعيد الكارثة التي شهدتها بيروت لا بد أن يكون لفته إقفاله بواجهة حديدية سوداء ضخمة كتب عليها «نعود قريباً».
اليوم تغيرت تماماً هذه المشهدية القاتمة ليحل مكانها أخرى تنبض بالحياة تكريماً لبيروت. فبمبادرة من أصحاب الفندق جرى رسم لوحة غرافيتي على طول الواجهة الحديدية تحت عنوان «الأمل يتجسد بالفن» من توقيع ثلاثة رسامين، وهم: ألفرد بدر الملقب بـ«أي بي إس» وكل من زميليه «اكزيست» و«سباز».
اللوحة تزينها بالأحمر كلمة «الأمل» بالإنجليزية (HOPE) مرسومة على خلفية زرقاء ويتقدمها رسم لطيرَي حمام أبيضين كعلامة السلام.
تماشياً مع حبّه للفن وملهماً بقوة الصمود التي تتميز بها بيروت وشعبها أراد «لو غراي» استحداث رسمة تكون بمثابة رسالة أمل تنبع من قلب بيروت المفجوع. وتقول ريتا سعد، المسؤولة الإعلامية في الفندق «منذ أن فتح الفندق أبوابه لم يتوقف عن العمل رغم الأحداث الصعبة التي عصفت بالبلاد. ولأن هذا المعلم عرف بنشاطاته الثقافية سيما وأنه يحتوي على 550 لوحة فنية، قررنا أن نقوم بمبادرة تشبهنا. فاتصلنا بالرسامين الثلاثة الذين لينجزوا لوحة غرافيتي تشكل مساحة ملونة بالحياة بعيداً عن الدمار الذي سبّبه الانفجار والذي أتى على طوابق الفندق وأثاثه وأبوابه ونوافذه ومداخله». وتضيف ريتا سعد في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»، «لطالما صمد هذا الفندق في وجه أحداث كثيرة وبقيت غرفه الـ103 مشغولة بنسبة 94 في المائة إلى حين اندلاع الثورة. وبقي العمال أثناءها يكنسون وينظفون ما خلّفته المظاهرات الشعبية المطالبة بحقوق المواطن اللبناني. ظروفنا بعيد الانفجار تبدّلت، نحن في حالة إعادة تأهيل وترميم وسنعود قريباً إلى العمل. ومع مبادرة (الأمل يتجسد بالفن) نؤكد على صمودنا وعلى تمسكنا بالحياة».
وتأتي هذه المبادرة بالتعاون مع شركة «ميروس» ضمن مشروعها «إحياء بيروت بالفن والثقافة» الهادف إلى دعم وتنشيط هذين المجالين إثر انفجار بيروت.
وبارتفاع يصل إلى نحو 6 أمتار وعرض 15 متراً تنتصب لوحة «الأمل يتجسد بالفن» التي تم تنفيذها ببخاخ وطلاء خاصين بفن الغرافيتي. وضمن ألوان فرحة تتراوح ما بين الأحمر والأزرق والأخضر والأبيض تنتصب هذه اللوحة التي تمحو خلفية سوداء وراءها. ويقول الفنان ألفرد بدر (أي بي إس)، إن الألوان الزاهية التي استخدمها مع زملائه كانت بحد ذاتها رسالة صمود بعيدة كل البعد عن الألم والقسوة اللذين أنتجهما الانفجار. ويتابع في حديث لـ«الشرق الأوسط»، «صعوبة هذه التجربة كانت تكمن في إرساء الفرح مع أن مشهد المرفأ المدمّر قبالتنا يشير إلى العكس تماماً. فما حدث في بيروت لم يكن متوقعاً وهو كارثة على الحجر والبشر. فكنا نحفر الأمل على اللوحة رغم كل إشارات الإحباط المحيطة بنا».
وماذا بعد إنجاز اللوحة، هل تغيرت نظرتكم للمشهد عامة؟ يرد «عندما ننتهي من إنجاز عمل فني معين ننفصل عنه تماماً ليأخذ طريقه الخاص نحو المارة والناس. فهدفنا كان استحداث مساحة أمل يسافر معها مشاهدها إلى أحلامه وتطلعاته المستقبلية وأعتقد أننا استطعنا تحقيق ذلك».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)