سيد قرطاج الجديد

الباجي قائد السبسي يعيد تونس لحظيرة بورقيبة

سيد قرطاج الجديد
TT

سيد قرطاج الجديد

سيد قرطاج الجديد

أكدت نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية استطلاعات الرأي التي رجحت منذ مدة فوز السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي برئاسة الجمهورية على منافسيه الـ26 ثم على الرئيس المؤقت والمعارض السابق لحكم زين العابدين بن علي المنصف المرزوقي. فمن هو «السيد الجديد» لقصر قرطاج؟
لماذا اختار غالبية الناخبين التونسيين زعيما يعيدهم إلى حضن زعيمهم الأسبق الحبيب بورقيبة بعد أكثر من ربع قرن من إزاحته عن الحكم من قبل رئيس حكومته زين العابدين بن علي، في أجواء رحبت فيها كل الأطراف السياسية وقتها بالتغيير وبإحالة «الأب الكبير» إلى التقاعد السياسي.
بصرف النظر عن تباين التقييمات للمسيرة السياسية للباجي قائد السبسي لا يختلف اثنان حول «الشبه الكبير» بين صورة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وصورة الرئيس الجديد لتونس في مخيال الكهول والشباب. بل إن إدارة الحملة الانتخابية لسيد قرطاج الجديد روجت صورا للزعيمين جنبا إلى جنب لتأكيد الشبه الطبيعي بينهما خاصة عندما يرتدي قائد السبسي نظارات شمسية تشبه نظارات بورقيبة. كما يعتبر غالبية الكهول والشيوخ في تونس قائد السبسي «الأقرب إلى بورقيبة» بفضل نجاحه في كاريزميته ومخاطبته التونسيين مباشرة - دون نصوص مكتوبة - وبلهجة شعبية يجمع فيها بين النكتة وتحريك المشاعر في اتجاهات مختلفة في وقت قياسي مع استحضار بعض الحكم والآيات القرآنية وأبيات الشعر.

* الخطاب.. والحجة

* لكن قوة الباجي قائد السبسي ليست مرتبطة فقط بفصاحته التي تذكر الناس بخطب بورقيبة «النارية»، بل بكونه حاول أن يملأ الفراغ السياسي الذي أحدثه انهيار رأس الدولة فجأة في تونس مطلع 14 يناير (كانون الثاني) 2011.
وقد حاول قائد السبسي البروز بمظهر رجل الدولة الذي انخرط في مسار الثورة وتبنى مطالب الشباب المهمش والمحبط بعد أن عجز خليفتا بن علي رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع ورئيس الحكومة محمد الغنوشي عن شد الشعب الهائج إليهما، وهما اللذان كانا حتى سقوط حكم بن علي في بيت الطاعة ومن أبرز مسؤولي الحزب الحاكم والدولة.
وقائد السبسي من مسؤولي الدولة في تونس منذ منتصف خمسينات القرن الماضي؛ حيث كان مستشارا لبورقيبة، ثم تولى كثيرا من المناصب، بينها وزارات: الداخلية، والدفاع، والخارجية، وأيضا في عهد بن علي؛ حيث كان رئيس البرلمان في سنتي 1990 و1991، وعضو اللجنة المركزية للحزب الحاكم حتى 2003، وغاب لفترة عن واجهة الأحداث ليعود بعد هروب بن علي ويتولى رئاسة الحكومة في فبراير (شباط) 2011.

* ديمقراطي انشق عن بورقيبة وبن علي

* ولعل من بين نقاط القوة عند الباجي قائد السبسي بالنسبة لكثير من صناع القرار السياسي والاقتصادي في تونس أن مسيرته تراوحت بين «رجل الدولة» الذي تحمل مسؤوليات كبيرة في الحكم في عهدي بورقيبة وبن علي والديمقراطي المعتدل الذي انشق على بورقيبة عام 1971 مع ثلة من الوزراء الذين طالبوه بالديمقراطية بزعامة أحمد المستيري وحسيب بن عمار.
كما يحسب الديمقراطيون لقائد السبسي أنه كان من بين أوائل السياسيين الليبراليين الذين انسحبوا من الصدارة في عهد بن علي منذ توفي 1991 أي في المرحلة التي شهدت فيها تونس منعرجا أمنيا شمل مواجهات مع المعارضين الإسلاميين والحقوقيين وبينهم المنصف المرزوقي رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
هذا الرصيد وظفه أنصار الباجي قائد السبسي لصالح زعيمهم لإظهاره في مظهر رجل التوافق بين الموالين للزعيم بورقيبة ورموز الدولة من جهة والديمقراطيين من جهة ثانية.
وإن أطنب المؤرخون المعارضون لقائد السبسي - مثل الجامعي محمد ضيف الله - في إبراز تحمله مسؤوليات على رأس حقائب الداخلية والدفاع والخارجية في مراحل قمع بورقيبة لمعارضيه الزيتونيين واليساريين والقوميين والإسلاميين، فإن أنصاره ينفون تورطه في القمع مباشرة ويشيرون إلى أنه كان الأقرب إلى وسيلة بن عمار حرم بورقيبة التي كانت تعتبر مناصرة للانفتاح والتعددية بخلاف زوجها. كما يستدلون بعودة الباجي قائد السبسي إلى الحكومة وحزب بورقيبة ما بين 1980 و1981 بعد تعيين الليبرالي محمد مزالي رئيسا على رأس الوزارة الأولى وموافقة بورقيبة على التعددية الحزبية والانفتاح السياسي.. وكانت وسيلة وقتها تدعم بورقيبة في توجهه الانفتاحي تحت تأثير عواصم صديقة حسب شهادات بعض وزراء بورقيبة وقتها مثل الطاهر بلخوجة.
لكن قائد السبسي نشر مذكراته مع بورقيبة وحرمه وسيلة في كتاب من الحجم الكبير عام 2009 تحت عنوان «البذرة الصالحة والزؤام» نفى فيه ما سبق أن نسب إليه بكونه كان المقرب دوما إلى وسيلة وأطنب في تفسير علاقاته المباشرة بالزعيم الحبيب بورقيبة شخصيا.
وفي كل الحالات يعتبر الكاتب والإعلامي نور الدين بالطيب في هذا السياق أنه يمكن وصف الباجي قائد السبسي ببورقيبة ديمقراطي إذا سلمنا جدلا بكون العقود الأولى من حكم بورقيبة تميزت بالاستبداد إلى جانب نجاح تونس خلالها في بناء دولة حديثة خصصت ثلث موازنتها للتعليم والثقافة مثلما ورد في دراسة أعدها الباحث الجامعي والمؤرخ سعيد بحيرة عن «الهوية والدولة الوطنية في تونس».

* تلميذ بورقيبة

* ويعتبر الباحث الجامعي والمؤرخ عبد الجليل التميمي - الذي يرأس مركز دراسات جامعية أعد كتبا عن مسيرة بورقيبة الإنسان والسياسي وعن غالبية المقربين منه ووزرائه - أن من بين نقاط القوة عند الباجي قائد السبسي أنه كان تلميذا لبورقيبة منذ أن بلغ الـ16 من عمره.. أي منذ عام 1941 وقبل أن يسافر إلى جامعة السوربون في فرنسا ليدرس العلوم القانونية والحقوقية مثل بورقيبة وعدد من زعامات الحركة الوطنية التونسية وبينهم الأمين العام للحزب صالح بن يوسف ويعود من باريس محاميا مثلهم.
ويسجل الجامعي والقيادي في حزب نداء تونس المنصف عاشور - وهو من رموز اليسار التونسي سابقا - أن انتخاب قائد السبسي أعاد التونسيين إلى حضن الزعيم بورقيبة لن «سي الباجي» انتمى منذ عام 1941 إلى حركة التحرر الوطني مثل شباب جيله وتحديدا إلى «الحزب الحر الدستوري» الذي تزعم نضالات التونسيين ضد الاحتلال الأجنبي.

* البذرة الصالحة والزؤام

* لكن بعض معارضي قائد السبسي وخصومه - مثل المحامي والحقوقي العياشي الهمامي والمحامية سامية عبو - يعتبرون أن «رصيد قائد السبسي مع بورقيبة وبن علي ورقة تستخدم ضده وتؤكد تورطه في منظومة الاستبداد والفساد». ويعتبر هؤلاء أن إشراف قائد السبسي على الإدارة العامة للأمن الوطني ثم على وزارتي الداخلية والحكومة أثناء قمع بورقيبة معارضيه «ورقة إدانة ضد السبسي لأنه ينبغي التمييز بين بورقيبة الزعيم الوطني ضد المحتل وصاحب المواقف التقدمية في مجال تحرير المرأة وبورقيبة الديكتاتور».
إلا أن قياديين في حزب نداء تونس - مثل الكاتب والمفكر خالد شوكات - يعترضون على الإساءة إلى زعيمهم حاضرا وماضيا بما في ذلك فيما يتعلق بمواقفه من التعددية والديمقراطية في عهد بورقيبة ويستدلون بكونه من بين مؤسسي أولى صحف المعارضة في السبعينات مثل « الرأي» و«الديمقراطية» وكان ضمن الفريق الذي أسس نواة أول حزب معارض لبورقيبة - حزب الديمقراطيين الاشتراكيين - رغم انسحابه المبكر منه بسبب خلافات مع بعض رفاقه المؤسسين.

* العلاقات الخارجية

* في سياق متصل يعتبر الباجي قائد السبسي أن أبرز نجاحاته كانت مسيرته الدبلوماسية، لا سيما عندما تولى حقيبة الخارجية ما بين 1980 و1986 وترأس تحركات الدبلوماسية التونسية في مجلس الأمن الدولي في أكتوبر (تشرين الأول) 1985 بعد الغارة الإسرائيلية على مقر القيادة الفلسطينية بتونس. وقد اعتبر امتناع واشنطن وقتها عن استخدام حق النقض « انتصارا للدبلوماسية التونسية وللباجي قائد السبسي شخصيا»، خصوصا أن بورقيبة هدد وقتها بإغلاق السفارة الأميركية بتونس في صورة استخدام الإدارة الأميركية حق النقض.
وحاليا تعلق قيادات سياسية وشخصيات مستقلة كثيرة آمالا واسعة على شبكة العلاقات الدولية لقائد السبسي خلال رئاسته للحكومة الانتقالية من مارس (آذار) إلى ديسمبر (كانون الأول) 2011.
وكان قائد السبسي خلال تلك المرحلة شارك بصفة مراقب في قمة الدول العظمى في فرنسا والتقى بالمناسبة الرئيس الأميركي أوباما وكبار قادة العالم ودافع عن مقولة «تطابق الإسلام والفكر العربي مع التعددية والديمقراطية»، وعن «توظيف الدبلوماسية الاقتصادية في خدمة مصالح دول الجنوب وبينها تونس».
ولئن توترت علاقات تونس بالجزائر والقاهرة وبعض العواصم العربية نسبيا خلال حكم الترويكا فإن الرهان الأكبر اليوم بالنسبة لتونس في عهد قائد السبسي والحكومة الجديدة إصلاح الأخطاء القديمة وتفعيل الشراكة العربية العربية، على حد تعبير محمود بن رمضان القيادي في حزب نداء تونس، الذي أعلن أن الرئيس الجديد يراهن على توظيف الدبلوماسية التونسية في ترفيع الشراكة والاقتصادية مع الدول الخليجية والأوروبية دعما للاقتصاد التونسي الذي يواجه صعوبات حقيقية.

* الخوف من عودة الاستبداد

* في الأثناء تبدو تونس مقسمة في تقييمها بين مرحبين بعودة البلاد إلى حضن «الزعيم بورقيبة» عن طريق «الأب الكبير قائد السبسي» - مثلما أورد الإعلامي والكاتب صالح الحاجة - ومتخوفين من عودة رموز الفساد والاستبداد من مسؤولي النظام السابق الذين انخرط أغلبهم في حزب نداء تونس «ردا على تغول الإسلاميين وحلفائهم من اليساريين الراديكاليين».
لكن زعامات تيارات إسلامية كثيرة وبينها قيادات في حزب حركة النهضة - مثل رئيسه راشد الغنوشي - تعارض منذ مدة التخوفات من عودة الاستبداد مع قائد السبسي. وقد أدلى الغنوشي قبل الاقتراع العام وبعده بتصريحات مساندة سياسيا لقائد السبسي حاولت طمأنة التونسيين باستحالة العودة إلى الاستبداد في بلد مثل تونس انتخب برلمانا تعدديا وصادق على دستور توافقي وانتخب شخصية ديمقراطية توافقية مثل قائد السبسي على رأس الدولة. في هذا المناخ العام من التفاؤل يتطلع غالبية التونسيين إلى أن ينجح قائد السبسي في تحقيق وعوده ووعود حزبه الانتخابية وبينها تشكيل حكومة لا تقصي أي طرف سياسي ومعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة في البلاد منذ أعوام.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.