ابدأ بكتابة الرسائل في مستعمرات الحجر الصحي

يمكن أن تتحول إلى ما يشبه التمرين على كسر الرتابة والروتين اليومي

ابدأ بكتابة الرسائل في مستعمرات الحجر الصحي
TT

ابدأ بكتابة الرسائل في مستعمرات الحجر الصحي

ابدأ بكتابة الرسائل في مستعمرات الحجر الصحي

وصلت الرسالة الأولى بتاريخ 31 مارس (آذار) من العام الحالي. وكانت مرسلة من أحد أقرب أصدقاء الطفولة الذي صار في وقت لاحق زميلاً في السكن الجامعي، والذي أحافظ على صلة منتظمة معه من خلال التراسل النصي الفوري، أو عن طريق تطبيق «فيس تايم»، أو بالاتصال الهاتفي من وقت إلى آخر، تماماً كما يفعل أغلب الشباب ممن يبلغون العقد الثاني أو نحوه من أعمارهم.
كتب صديق طفولتي يقول في رسالته وما يزال الخدش القديم باقياً منذ أيامنا الأولى في المدرسة الابتدائية: «لقد غربت الشمس لتوها عن يومنا الخامس عشر قيد الحجر الصحي - التباعد الاجتماعي. ألا تلحظ معي جنون السرعة التي تحولت إلى الوضع الطبيعي المقبول في أيامنا هذه؟».
ولقد لفت نظري أن الرسالة كانت نصية، بعد مرور عدة أيام من التواصل عبر تطبيق «زووم» للدردشة المرئية من دون توقف من أجل العمل، وكان آخر شيء يرغب في القيام به هو التحديق في شاشات الأجهزة الإلكترونية من أجل مواكبة العصر الحاضر. بالإضافة إلى ذلك -كما قال في رسالته- فإن كتابة الخطاب يمكن أن يتحول إلى ما يشبه التمرين على كسر الرتابة والروتين اليومي المثير للضجر.
ومن ثم، قررت الكتابة رداً عليه، ثم شرعت في كتابة خطاب جديد إلى صديق، ثم صديق آخر. وفي الآونة الأخيرة، لم يكد يمر أسبوع من أسابيع هذا الشهر لم تكن فيه رسالة أخطها بنفسي ابتداء، أو أرد بها على رسالة صديق من أصدقائي. وبدا واضحاً -في أغلب تلك التبادلات النصية بين جماعة الأصدقاء- أن هناك شفرة ضمنية مفهومة وغير معلن عنها ذات صلة باللغة شبه الرسمية والأسلوب الأدائي البديع الذي كان يرمي بدرجة من الدرجات إلى استحضار ذكريات الماضي. كانت الرسالة الأولى التي وصلتني من صديق الطفولة -على سبيل المثال- تحمل بين طياتها تحليلاً منمقاً للعزلة البحرية التي عانى منها الشاعر الرومانتيكي الإنجليزي «جون كيتس» قبالة سواحل نابولي الإيطالية التي اجتاحها وباء التيفوس في عام 1820.
كتب صديقي يقول في رسالته: «هناك أمر ما يتعلق بأجواء الغرفة، ونيران المدفأة اللطيفة، والنسمات البحرية الهادئة. وحقيقة، إنني أسجل إليك ملاحظاتي تلك لأنها تجعلني أشعر وكأنني مثل القبطان الذي شرع لتوه في رحلة استكشاف بديعة إلى أرض أجنبية غريبة، وأبعث برسائلي إلى أحبتي في الوطن».
إنها تجربة متفردة تضيف زخماً لازماً إلى مشاعر متعاطفة تدعو إلى النأي بالنفس، واستشعار الفرار من الواقع، غير أنها لا تنتقص أبداً من المقدرة الصريحة على الكتابة بكل وضوح عن سلسلة واسعة من التجارب الذاتية الراهنة. لقد كتبت بنفسي عن عشاق إطعام الطيور، وعن الأفلام السينمائية الجيدة، وكذلك عن العائلة. وكنت أواصل متابعة رسائل الأصدقاء التي تأتيني، ويتحدثون فيها عن الصيد، والشوق إلى الوطن، ومنمنات مستقاة من رواية «الحب في زمن الكوليرا» للبارع أبداً غابرييل غارسيا ماركيز، إذ يخط الشاب فلورنتينو أريزا آلافاً من رسائل الحب والشوق والغرام حال تفشي الوباء الفتاك في كولومبيا.
إن المراسلات المتواترة عن طريق البريد هي من التجارب الجديدة إلى درجة ما بالنسبة لي. عندما كنت تلميذاً في الصف الخامس، كان هناك برنامج لأصدقاء المراسلة مع أحد الفصول الدراسية المناظرة في أستراليا. ولكن مع انتهاء العام الدراسي، انقطعت أواصر التواصل بيني وبين صديقي بالمراسلة هناك. وفي كل مرة أحاول فيها السفر إلى الخارج، أحاول كتابة الخطابات إلى أسرتي، وبطريقة أو بأخرى دائماً ما أميل إلى الرجوع إلى منزلي كي أتسلم الرسائل التي كنت قد أرسلتها بنفسي!
ولكن، على غرار كثير من الأمور والأشياء الأخرى التي نمر بها أو تمر بنا في خضم مستعمرات الحجر الصحي الهائلة المتناثرة، بل المرعبة، في العالم من حولنا، اكتشفت أن كتابة الرسائل والخطابات من أبسط الأمور وأروعها في آن واحد. ولكل خطاب أشرع في كتابته، فإنني أجلس في احترام بالغ على الطاولة في غرفة الطعام، لمدة لا تقل عن ساعة بأي حال، نائياً بنفسي تماماً عن كل ما هو إلكتروني من هاتف ذكي أو حاسوب قوي، واضعاً ورقة أو ورقتين من أوراق الطباعة ناصعة البياض أمامي. لكني كنت بالكاد أحافظ على دفتر ملاحظات يومي، من دون أن يهاجمني شعور بأن هذا عمل رتيب روتيني يثير الملل والضجر بأكثر مما يبعث على الارتياح. بيد أن كتابة الخطابات إلى شخص آخر أعرفه هو بمثابة فتح بوابة جديدة فريدة على العالم، من دون أن أكلف نفسي عناء إلقاء نظرة ثانية خاطفة إليه بعد ذلك.
ومن ناحية أخرى، فإن تلك التجربة الرائعة تترك في مكامن ذاتي شعوراً مثيراً للاهتمام أكثر من السرد الاعتيادي المجرد لمجريات أيام الوباء المقيت، فضلاً عن مزيج من الوريقات التي أتلقاها من الآخرين، وكل صفحة منها تبعث روحاً جديدة عن التي تليها.
وكان من بواعث الراحة في نفسي اعتقادي أن ما أخطه بيدي سوف يجد طريقه في آونة قريبة إلى أيدي شخص آخر، خاصة في مثل تلك الظروف الراهنة التي تتسم بكثير من التباعد الجسدي بين الأشخاص. لقد أرسلت خطابات عدة إلى أماكن بعيدة، مثل الأرجنتين أو كوريا الجنوبية، وغير ذلك من الخطابات التي وصلت لمسافة لا تتجاوز بضعة شوارع من باب منزلي. وكانت بعض الرسائل اليدوية التي أتلقاها يتعذر أو ربما يصعب تماماً قراءتها -تماما كما هو الحالي عندي- في حين أن بعض الرسائل الأخرى لا يمكنني وصفها إلا بما توصف به الأعمال الفنية ذات اللمسات الجمالية الرائعة. وكان أحد أصدقائي -وهو طالب دولي يقطن سكن الحرم الجامعي الذي جرى إفراغه تماماً من الطلاب في ولاية نيوجيرسي- قد أرفق في خطابه زهرة من شجرة كرز مثمرة في حديقة الجامعة. ولقد قرأت بين سطور خطابه ابتسامات لم تسعفني عيناي لمشاهدتها في الواقع.
لست بمفردي في تلمس سبل الراحة عبر كتابة وقراءة الرسائل خلال هذه الأيام. فلقد ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»، في مقالة أخيرة، أن هناك ارتفاعاً ملحوظاً في حركة البريد العادي والخطابات المكتوبة بخط اليد، إذ يبدو أن هذه الممارسة الجميلة قد لفتت انتباه كثير من الناس، مع محاولاتهم المستمرة التأقلم مع حالة الحزن العامة التي تواكب الوباء. ومن الأمور الباعثة على السخرية والحزن شروعي راهناً في كتابة الرسائل والخطابات، وذلك بسبب الأوضاع المزرية التي تعاني منها أيضاً خدمات البريد الوطني الأميركية، إذ ربما يسفر الانهيار الاقتصادي الناجم عن الوباء الفتاك عن الصدمة الأخيرة التي تعصف بواحدة من أقدم المؤسسات والخدمات الوطنية والأكثر اعتزازاً في الولايات المتحدة الأميركية. وفي حين أن الزيادة المطردة في حجم الطرود البريدية خلال الشهور القليلة الأولى من عمر الوباء الراهن توفر قدراً معتبراً من الراحة المؤقتة، فإنه ليس بإمكان أي قدر من الخطابات التي نقوم بإرسالها أن يعوض أبداً مليارات الدولارات من التمويل الإغاثي الفيدرالي المطلوب لإنقاذ هذه المؤسسة الأميركية العريقة.
ومع ذلك، وكما هو الحال لدى كثير من الأمور الأخرى في هذه الأوقات، فإنني لا أتخلى أبداً عن الأمل والتفاؤل، إذ تشير دراسة استقصائية معنية بخدمات البريد الأميركية، نُشرت في شهر مايو (أيار) من العام الحالي، إلى أن فئة الشباب على وجه الخصوص كانوا أكثر ميلاً إلى إرسال البطاقات أو الخطابات خلال الآونة الأخيرة. ورغم أن هذا لا يعني أن كثيرين منا يهتمون بفعل ذلك في واقع الأمر، فإن جزءاً خاصاً مني يميل إلى الاعتقاد بوجود شباب من شاكلة الشاب فلورنتينو أريزا، يواصلون كتابة الرسائل الغرامية إلى الفتيات اللاتي لا يتمكنون من مقابلتهن حالياً بسبب الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد.
وعلى أرجح الأقوال، فإن مرجع ذلك إلى أننا نفتقد فعلاً أصدقائنا وزملائنا في الفصول الدراسية القديمة، وتنتابنا آلام قوية لازمة بسبب الأواصر المادية البسيطة للغاية التي أتت عليها ودمرتها جائحة الفيروس الراهن، من دون وعود صريحة بعودتها الوشيكة إلى سابق عهدها. وربما يرجع ذلك في أصله إلى أن الخطاب هو من الوسائل غير المعوقة للعمل، من خلال تراكم الأفكار والتوترات والقلق والعواطف خلال فترة المعلومات التي لا تتوقف، لا سيما مع أجواء الحزن الشديدة الغالبة. وربما لا يعدو الأمر أن يكون مجرد استراحة إجبارية من الحملقة في الشاشات الإلكترونية طيلة الوقت، أو هي مجرد وسيلة أخرى من وسائل الاحتفاء بمرور الوقت عندما يكون العالم من حولنا وكأنه في محطة زمنية مؤقتة انتظاراً لفترة غير محددة المعالم.
ووفقاً لهذا المعنى، فهناك جملة من الأسباب الكثيرة التي تسوغ لكثيرين منا الشروع في كتابة الخطابات والرسائل، وليس أدناها أن هناك فعلاً ما يمكن قوله عما نعانيه من بطء شديد في المجريات من حولنا.
كتب لي صديق آخر من أصدقاء الطفولة رسالة جاء فيها: «عندما وصلتني رسالتك الأولى، كان أول ما بدر إلى ذهني من أفعال أن أبعث إليك بصورة عبر الهاتف، ثم توقفت برهة من الزمن لأراجع نفسي، وظننت أنها بمثابة إهانة مبتذلة لمجهودك في كتابة خطاب كامل بيديك أن أرد عليها بصورة إلكترونية جامدة لا حياة فيها»؛ وجدتني أبتسم وأنا أخرج ورقة بيضاء جديدة من حافظة أوراقي لكي أكتب الرد على خطابه. وأفضل الاعتقاد بأنني قادر على مواصلة تلك الممارسة البديعة لأطول فترة ممكنة من حياتي، أو على أدنى تقدير، ما بقي هناك من هو قادر على المبادلة والاستجابة والكتابة.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

آسيا أحد أفراد الطاقم الطبي يعتني بمريض مصاب بفيروس كورونا المستجد في قسم كوفيد-19 في مستشفى في بيرغامو في 3 أبريل 2020 (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

قالت منظمة الصحة العالمية إن زيادة حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي الشائعة في الصين وأماكن أخرى متوقعة

«الشرق الأوسط» (لندن )
صحتك جائحة «كورونا» لن تكون الأخيرة (رويترز)

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

تساءلت صحيفة «غارديان» البريطانية عن جاهزية دول العالم للتصدي لجائحة جديدة بعد التعرض لجائحة «كوفيد» منذ سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.