«مدينة النحاس» تستلهم التراث العربي في «القاهرة التجريبي»

المسرحية تعتمد على الأداء الحركي
المسرحية تعتمد على الأداء الحركي
TT

«مدينة النحاس» تستلهم التراث العربي في «القاهرة التجريبي»

المسرحية تعتمد على الأداء الحركي
المسرحية تعتمد على الأداء الحركي

ظلت قصة «ألف ليلة وليلة»، بأجوائها الغرائبية وحكاياتها المشوقة وإغراقها في الخيال المحض، نبعاً تستلهم منه الآداب العالمية أفكاراً لروايات وقصص ومسرحيات وأفلام سينمائية، فضلاً عن النحت والرسم، منذ العصور الوسطى حتى الآن. وتعد مسرحية «مدينة النحاس» الأحدث في هذا السياق، فهي تستلهم إحدى أشهر قصص «الليالي»، وهي قصة «مدينة النحاس» التي أتاها «الأمير موسى» مستكشفاً، فوجدها تخلو من البشر، رغم أنهارها الجارية وحدائقها الجميلة، ولا أثر للحياة فيها سوى تحليق البوم والغربان.
العمل من إخراج مصممة الحركات النمساوية إديتا براون، وهو إنتاج نمساوي - مصري مشترك، بين فرقة «إديتا براون» وفرقة «المسرح البديل» بمكتبة الإسكندرية، وقد عُرض أخيراً ضمن فعاليات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي في دورته السابعة والعشرين التي تستمر حتى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الحالي.
في مقابل الحكاية الشعبية الواردة في «ألف ليلة وليلة» عن «مدينة النحاس»، هناك رواية أخرى وردت على لسان بعض من المؤرخين، تتحدث عن خطاب بعث به الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان إلى الوالي موسى بن نصير، يكلفه فيه بالذهاب إلى «فيافي الأندلس، بالمغرب الأقصى، ليستقصي أمر مدينة عجيبة، وبالفعل ينفذ الوالي الأمر، ويكتشف أنها تحفة معمارية عظيمة ذات أسوار مشيدة لا مثيل لها، لكنها بلا أبواب، ويفشل الوالي في الولوج إليها، فيعود بحملته العسكرية من حيث جاء».
الدكتور محمود أبو دومة، مؤلف المسرحية، يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «العرض يستلهم القصة الشهيرة في الفلكلور العربي، لكنه لا يلتزم بها حرفياً، فإذا كانت أسباب تحول المدينة إلى نحاس في النص التراثي يكتنفها الغموض، فإنها تعود على خشبة المسرح إلى انعدام الضمير والصمت في مواجهة الفساد والقبح على كل المستويات»، مشيراً إلى أن العمل «يتناول ثيمة نهاية العالم وانهيار الحضارة وتردي البشر في مهاوي البؤس».
يبدأ العرض بإظلام شامل إلا من بقعة ضوء تظهر عبرها سيدة في الثلاثين من العمر يبدو لون شعرها وثوبها الطويل السابغ مزيجاً بين البني والأحمر اللامع، تكلمنا بلغة الإشارة بينما تعبيراتها الجسدية تنم عن الحيرة والتساؤل، ويتصاعد صوت نسائي هادئ من الواضح أنه لراوية نمساوية تتحدث فيه شهرزاد بالإنجليزية عن نفسها، وعن قصة المسرحية لمدة تتجاوز الدقيقتين بقليل، ثم يظهر صوت راوية تعيد ما قيل، ولكن باللهجة المصرية، إنها شهرزاد في الحالتين تعترف أن كل ما روته من حكايات لشهريار كان محض خيال، باستثناء مدينة النحاس التي ما إن روت قصتها مساء حتى تحولت الحكاية إلى حقيقة في الصباح، مدينة كاملة بسكانها وأنهارها وأشجارها وبيوتها وقصورها تحولت إلى نحاس بسبب سلبية أهلها وعدم إيجابيتهم في مقاومة الظلم العام، إنها «نهاية العالم» فيما يبدو، ولكن على طريقة «ألف ليلة وليلة».
وعلى إيقاع موسيقى جنائزية حزينة، تتوالى الرقصات التعبيرية بلا حوار من جانب الممثلين والممثلات آنا ماريا تومازسيتاموفيك، باربرا موتشينوك، سارة أحمد؛ إنه التعبير بالجسد والموسيقى عبر إظلام شبه كامل، مع ملابس قاتمة طويلة تعبر عن محنة نهاية العالم، إلا من بصيص ضوء يتبدى في النهاية عبر موسيقى مرحة وعودة الحب بين البشر.
وعن مدى تسبب تراجع الحوار خلال العرض، والاكتفاء بالتعبير الجسدي، في ضعف التواصل مع الجمهور، ينفي المؤلف هذا الافتراض، مؤكداً أن الأمر يشبه الأوبريت الدرامي الراقص «ليدي ماكبث»، فرغم انعدام الحوار، فإن حركة الجسد المحملة بأنواع الانفعالات كافة تظل لغة جيدة لإيصال المعنى.
وأشار أبو دومة إلى أن قصص الليالي العربية مليئة بالصور والمشاهد والانفعالات الملهمة لكل الفنون عبر الزمان، وليس غريباً أن يسميها البعض «كتاب العرب».
ويعترف المؤلف بصعوبة الإنتاج العربي - الأوروبي المشترك في المسرح، فنحن نكون بإزاء هويتين متناقضتين، وأفكار متباينة لدى صناع العمل، ولكن هذا لا يمنع من وجود حد أدنى من التفاهم الذي يؤدي لتمرير العمل، وبالتالي تبرز قيمة مزج الثقافات، على غرار ما حدث في «مدينة النحاس».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)