عندما يسير تبدو قامته المتوسطة النحيفة أشبه بظل لجسم آخر لا تدري أين هو، وجهه بسيط الملامح مغمور بعتمة لاصقة به حتى حين يكون الجو بصحو نادر، وشمس دافئة بعض الشيء.
يمشي ببطء كأنه يعاني من عرج خفيف. تجاوز الأربعين لكنه يبدو أقل عمراً حتى إنه يضحك مع أصدقائه حين يقولون له: «المصائب والفقر والتشرد جعلتنا أكبر من أعمارنا، إلا أنت جعلتك تبدو صبياً!». عرفته منذ الأيام الأولى لوجوده في هذه المدينة، صادفته في أحد المتاجر، سألني عن نوع من التوابل! أجبته ضجراً: «تجده في محل الشرقيات!»، وعندما أراد مواصلة الحديث، أشحت عنه لمللي من تطفل الكثيرين في أحاديث تافهة أجدها مُضيّعة للوقت والجهد! لكنه ظل يلقي عليّ التحية كلما التقاني ويحاول التقرب منّي فصرت أبادله بعض الحديث، وعرفت أنه شاب طيب مسالم وإن كان كثير الكلام، ويسميه أصدقاؤه «الثرثار»! وأنه عاش في وطنه العربي مصائب كبرى: مقتل أخويه ووالده، واختطاف شقيقته، وموت أمه.
عندما جاءني خبر اعتقاله هنا بتهمة شروعه بعمل إرهابي أو تخريبي، لم أصدق! ولما عرفت ما بدر منه ازددت اقتناعاً ببراءته، لكن هنا مَن تُلصق به تهمة الإرهاب يصعب عليه إزالتها! يمكث في اعتقال وتحقيق ومراقبة فترة طويلة ثم يحال لقضاء لا تدري إن كان متأنياً أو لا مبالياً! اعتُقل إثر حادثة تافهة، بل مضحكة ولا تخطر على بال! كان يسير في شارع فرعي وكعادته في تلمس وجهه وشعره دائماً، وتعديل قيافة ملابسه القديمة حائلة اللون، راح يتلمس شعر رأسه القليل غير المرتب ويمرر يده على وجهه، واجهته مرآة بحجم كبير بعض الشيء مستطيلة بارزة من ذراع فضي من مقدمة سيارة «باص» بيضاء من تلك التي تستعملها شركات التوزيع في إيصال بضائعها إلى البيوت والمحلات؛ فتوقف دون تفكير أمامها وأخذ يتأمل وجهه، ويحدق بملامحه.
ربما فكر إن كان وجهه يقتضي حلاقة، أو شعر رأسه يحتاج لإعادة تمشيط أو ترتيب، نسي نفسه، حسب أنه في بيته القديم حيث ثمة مرآة، أو مرايا، فمد يده يفتش في جيوبه عن مشط كان يحمله، جاء سائق السيارة أو صاحبها الطويل الضخم راكضاً، ظنه يحاول فتح باب قمرة القيادة أو يحاول أن يضع شيئاً فيها؛ فأمسك به! في تلك اللحظة كانت مفرزة شرطة تمر قربهما بسيارتها فسلمه لهم مدّعياً أنه حاول وضع قنبلة أو شيئا ما في سيارته! في هذا البلد الأوروبي، كانت قد حدثت أعمال إرهابية كثيرة راح ضحيتها كثيرون والإخباريات الإرهابية تتوالى كل يوم وكل ساعة، ومرشحو اليمين المتطرف يفوزون ومن أولوياتهم التشدد مع اللاجئين بل حتى طردهم! اعتُقل الرجل ومضى معهم مستسلماً خصوصاً أن معاملة قبوله لاجئاً ما زالت معلّقة. كان يقول بلغته غير المفهومة لهم: «إنني كنت فقط أريد أن أرى وجهي! ولا نية لي لا لسرقة ولا لعمل شيء»، ولكنهم يجب أن يمضوا به إلى مركزهم. بالطبع سيستدعون له مترجماً وسيكرر أقواله، ولكنهم سيكررون عدم تصديقه، وها قد مر عامان، فقد أمله أن يُقبل لاجئاً، كما فقد أمله أن يُخلى سبيله، وحتى الآن لا المحكمة ولا موظفون في دائرة الهجرة ولا صحيفة المدينة يقتنعون بأن هذا الشاب قد مد رقبته إلى مرآة السيارة فقط لكي يرى وجهه كأنه لم يره مذ خرج من بلاده!
فقط أراد أن يرى وجهه!
فقط أراد أن يرى وجهه!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة