فنان تشكيلي يشيد مجسماً لانفجار بيروت مصنوعاً من الركام

بيار عبوّد: العمل هو بمثابة تحية تكريمية لمدينتنا وللشهداء الذين سقطوا

TT

فنان تشكيلي يشيد مجسماً لانفجار بيروت مصنوعاً من الركام

نجح المهندس اللبناني بيار عبود في أكثر من مرة في استقطاب الاهتمام العالمي لأعماله الفنية التي ينجزها من نفايات ومواد قابلة للتدوير. ففي عام 2018 دخل عبود موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية بعد أن نفّذ أكبر لوحة مصنوعة من بقايا النفايات بلغت مساحتها 990 متراً مربعاً في منطقة ضبية اللبنانية. استخدم بيار يومها نحو 10 آلاف قطعة مصنوعة من الزجاج والبلاستيك وتحكي عن تاريخ لبنان التجاري. وفي بداية العام الحالي وتكريماً للمرأة اللبنانية في ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) قدّم مجسم عروس الثورة في ساحتي طرابلس الشمالية ومدينة بيروت. كما فاز في هذا العام أيضاً بجائزة غينيس للأرقام القياسية في أبوظبي. فقدّم لوحة فنية تحمل رسالة بيئية وتشجيعية لمواطني دولة الإمارات العربية المتحدة والمقيمين والزوار فيها. وتحثّهم على تحمل المزيد من المسؤولية حول تأثيرهم على البيئة عبر ممارسات مستدامة.
اليوم وإثر انفجار المرفأ في بيروت يستعد بيار عبود لتحقيق حلم جديد يراوده، ألا وهو رفع مجسم يرتبط ارتباطاً بالحادثة ويكون بمثابة تكريم لضحاياه وللعاصمة اللبنانية معاً. أما المواد التي سيستخدمها من أجل تنفيذها فتتألف من الركام والحطام الذي خلّفته الكارثة.
ويقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لطالما جذبني مرفأ بيروت بموقعه وأهميته التجارية في منطقة الشرق الأوسط. وفي عام 1996 وكنت حينها لا أزال طالباً جامعياً أرسل لي رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري. فاجأني يومها عندما طلب مني وصديقي عمر صادق تنفيذ أكبر لوحة رسم على طول مساحة إهراءات القمح في المرفأ. وفكرنا بتزيينها برسوم لمختلف الحضارات التي مرت على لبنان بدءا بالأشوريين مروراً بالفرنسيين ووصولاً إلى الزمن الحديث. وكان لبنان سيشهد نصب أكبر لوحة رسم على مساحة 23 ألف متر مربع». ويتابع: «لم يتحقق المشروع إثر الظروف السياسية التي شهدها لبنان وأدت إلى استقالة حكومة الحريري من ناحية واستشهاده من ناحية ثانية».
ويرى عبود في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن المرفأ عاد يشكّل واحداً من أفكاره الفنية الرئيسية إثر الانفجار الذي تعرّض له. «لقد تأثرت كثيراً بما جرى في مرفأ بيروت ولم أستطع استيعاب هول الكارثة التي ألمّت به. ورغبة منّي في تصوير بيروت تنبعث من تحت الرماد لأنها مدينة لا تموت كما يشير لنا تاريخها، قررت أن أنفذ مجسماً يتألف من إهراءات المرفأ المدمرة يكرّم في الوقت نفسه شهداء الانفجار من رجال دفاع مدني وعناصر إطفائية بيروت وغيرهم».
ويشير بيار عبود إلى أنه ينوي أن يحمل هذا المجسم ذكرى لا تنسى تقام على شكل منحوتة يبلغ ارتفاعها نحو 20 متراً على مساحة كبيرة من الكيلومترات. «ستكون شبيهة إلى حدّ كبير بتمثالي الحرية في أميركا وفرنسا. وستحمل في طياتها ذكرى لسحر وكريستين وفادي وجو وشربل وحمد وغيرهم من الضحايا الذين استشهدوا من جراء الانفجار».
مهندسو بناء وديكور إضافة إلى عدد من الرسامين والنحاتين وغيرهم من الفنانين التشكيليين يلبون دعوة بيار عبود التي نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ويعلّق: «الجميع متحمس لإقامة هذا النصب التذكاري ونقوم حالياً باتصالات مع جهات رسمية لبنانية لإطلاعهم على مشروعنا الفني هذا، ونأمل أن نحظى بموافقة المسؤولين لتنفيذه». ولكن وفي حال لم يتم الموافقة على إقامة هذا النصب على أرض مرفأ بيروت فما هي الخطة التالية التي ينوي بيار عبود اللجوء إليها؟ يرد في معرض حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «سنبذل جهدنا لتنفيذه في مكان الانفجار وفي حال صادفنا عقبات معينة فسنختار مساحة أخرى نسميها لاحقاً».
وتجدر الإشارة إلى أن المجسم المنوي إقامته على أرض مرفأ بيروت سيزينه العلم اللبناني. ويعلّق بيار عبود: «أعمل على فكرة جديدة ترتبط ارتباطاً مباشراً برايتنا الوطنية. وأرغب في أن يتصدر العلم رسم أرزة لبنان من غابة بلدة جاج مسقط رأسي. أعتز كثيراً بهذه الغابة في بلدتي، سيما وأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اختارها ليعرج عليها خلال زيارته إلى لبنان ليزرع فيها غرسة أرز جديدة باسم فرنسا».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».