إطلالة جديدة لشارع المعز التاريخي في مصر

يضم مساجد وأسبلة ومباني أثرية مميزة

TT

إطلالة جديدة لشارع المعز التاريخي في مصر

تستعد السلطات المصرية لإبراز جماليات فنون وعمارة البنايات الأثرية بشارع المعز التاريخي بالقاهرة الفاطمية، وإبهار رواده بإطلالة جديدة عبر تنفيذ مشروع تحديث وتطوير أنظمة الإضاءة الليلية به، تحت إشراف إدارة القاهرة التاريخية بوزارة السياحة والآثار المصرية.
ويجري تنفيذ المشروع على مرحلتين، الأولى تركيب وتحديث أنظمة الإضاءة الخاصة بالشارع التاريخي نفسه، فيما تتضمن المرحلة الثانية تركيب مصابيح نوعية لواجهات وساحات البنايات الأثرية لإبراز جمالياتها وأبعادها الفنية، بحسب محمود عبد الباسط، مدير عام القاهرة التاريخية، الذي يضيف لـ«الشرق الأوسط»: «سوف يتم استئناف الأنشطة الفنية والثقافية والمهرجانات المتنوعة بالشارع خلال الفترة المقبلة، ولأن بعض هذه المهرجانات له طابع دولي ويتضمن مشاركة من دول عدة، يتم حالياً دراسة تداعيات جائحة (كورونا) على هذه الأنشطة».
ويُعد شارع المُعز واحداً من أشهر المناطق الأثرية بالقاهرة، مما جعله أكبر المتاحف المفتوحة للفن الإسلامي في مصر، إذ يضم عدداً كبيراً من البنايات الأثرية الفريدة التي تحول بعضها إلى مراكز للإبداع الفني والثقافي، منها بيت السحيمي ومجموعة السلطان قلاوون التي تضم مسجداً ومدرسة وقبة على الطراز الإسلامي المملوكي، ومتحف النسيج المصري، وباب الفتوح أشهر بوابات القاهرة التاريخية، ومجموعة كبيرة من المساجد التاريخية، من بينها مسجد الحاكم بأمر الله، وجامع السلطان المؤيد، وجامع الأقمر.
ويجتذب الشارع الزوار المصريين والأجانب، للاستمتاع بالأجواء التراثية التي يتمتع بها، كما يشهد استضافة العديد من المهرجانات والفعاليات الثقافية والفنية على مدار العام ومن أبرزها مهرجان سماع الدولي للإنشاد والموسيقى الروحية.
إضاءة واجهات البنايات الأثرية بالشارع التاريخي تتطلب مواصفات خاصة، حددتها لجنة مختصة ضمت مختصين بالآثار ومهندسين، إذ تم تحديد اللون الأبيض بدرجاته المختلفة، وخصوصاً «الأبيض الدافئ» باعتباره أكثر الألوان التي تتناسب مع أحجار البنايات وتبرز تفاصيل جمالياتها، وفقاً للمهندس إيهاب طلخان، المشرف على مشروع إضاءة شارع المُعز، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «المشروع بدأ بتحديث ورفع كفاءة شبكة الكهرباء الخاصة بالشارع، ثم إضاءة الشارع نفسه، حيث اخترنا فوانيس (كلاسيك) تعطي درجة إضاءة صفراء لتتناسب مع طبيعته التراثية، إذ إن إضاءة المعالم الأثرية بشكل عام تتطلب مواصفات خاصة، ونعمل في الوقت الراهن على إنارة واجهات البنايات الأثرية بالشارع بحسب طبيعة كل مبنى، حيث تم اعتماد نظام الكشافات الغاطسة في الأرض، وتوضع أمام جدران واجهة البناية وتضيئها بدرجة من درجات اللون الأبيض الدافئ، وقد تجنبنا وضع الكشافات على الواجهات حتى نحافظ على انسيابية شكلها التراثي».
ويتضمن المشروع أيضاً إضاءة المعالم الأثرية من الداخل بمواصفات خاصة تراعي المساحة وطبيعة البناية ومُقتنياتها، وفق المهندس طلخان الذي يشير إلى أن «إضاءة البنايات الأثرية من الداخل يجب أن يتناسب مع طبيعة المبنى ومقتنياته ومساحته، فالقاعة أو الساحة الكبيرة تحتاج إلى درجة ضوء أعلى من الممرات، كما يوجد بعض المقتنيات تحتاج إلى إبراز تفاصيلها بواسطة المصابيح الحديثة».
ويشير طلخان: يقوم توزيع الكشافات وأماكنها بدور كبير في تنفيذ الرؤية الفنية لنظام إضاءة يتناسب مع طبيعة المكان ويبرز تفاصيله، كما نراعي عدم تسبب المصابيح داخل أو خارج تلك البنايات في ارتفاع درجات الحرارة خلال تشغيلها حتى لا تؤثر على الأثر، وخصوصاً عند تركيبها في الأجزاء الخشبية.
وتتطلب إنارة المساجد ومآذنها مواصفات وتقنيات مختلفة تتناسب مع طبيعتها ومحتوياتها، بهدف إبراز جماليات عمارتها، والحفاظ على طابعها التراثي وأجوائها الروحانية، وفق طلخان الذي يشير إلى أنه تم «وضع تصور خاص لإضاءة المساجد من الداخل يتناسب مع طبيعتها الخاصة، حيث استخدمنا (المشكاة) الزجاجية والفوانيس الكلاسيكية لإضاءة البهو، ومجموعة كشافات بمواصفات خاصة ودرجة إضاءة محددة في الأسقف لإبراز جمال عمارتها والألوان والنقوش على الأجزاء الزجاجية المزخرفة، واستخدمنا توزيع أدوات الإنارة المختلفة وفق حسابات هندسية دقيقة لإبراز والتركيز على بعض التفاصيل الفنية الخاصة بفنون العمارة، كما تطلب إنارة المآذن تصوراً خاصاً بها بحكم ارتفاعها واختلاف شكل عمارتها، حيث تم وضع الكشافات الغاطسة أسفل المآذن بدرجات ميل محسوبة لتعطي إضاءة مميزة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)