«فيتو» أميركي يجهض مشروعاً أممياً لمحاكمة الإرهابيين الأجانب

مؤشر جديد على عمق الشقاق عبر ضفّتي الأطلسي

مقاتلون أجانب من «داعش»... (إ.ب.أ)
مقاتلون أجانب من «داعش»... (إ.ب.أ)
TT

«فيتو» أميركي يجهض مشروعاً أممياً لمحاكمة الإرهابيين الأجانب

مقاتلون أجانب من «داعش»... (إ.ب.أ)
مقاتلون أجانب من «داعش»... (إ.ب.أ)

استخدمت الولايات المتحدة «حق النقض (فيتو)» في مجلس الأمن ضد مشروع قرار أعدته إندونيسيا بغية محاكمة المتورطين في نشاطات إرهابية وإعادة تأهيلهم وإعادة دمجهم، مبررة ذلك بأن النص لا يطالب بإعادة المقاتلين الإرهابيين الأجانب، لا سيما من سوريا والعراق، إلى بلدانهم. غير أن دبلوماسيين في نيويورك عدّوا هذا الإخفاق دليلاً إضافياً على ازدياد الخلافات بين واشنطن وبقية عواصم العالم حتى على القضايا التي تشكل خطراً واضحاً على الأمن والسلم الدوليين.
ونال مشروع القرار تأييد بقية الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن، وبينها روسيا التي «كانت مترددة بعض الشيء حتى الساعات الأخيرة قبل التصويت»، وفقاً لما كشف عنه دبلوماسي شارك في المفاوضات لـ«الشرق الأوسط»، موضحاً أنه «جرى تذليل بعض التباينات مع الجانب الروسي».
وأسف لأن «الولايات المتحدة لم تنضم إلى الإجماع على مشروع القرار»، مشيراً إلى أن «غالبية الدول الأعضاء، ومنها إندونيسيا، رفضت الاقتراح الأميركي بشأن إعادة المقاتلين الإرهابيين إلى بلدانهم».
ورأى دبلوماسي آخر أن «الولايات المتحدة انتقمت من إندونيسيا (التي تولت رئاسة مجلس الأمن في أغسطس (آب) الماضي) بسبب الخلاف حول ملف إيران النووي، ورفضها الاعتراف بالطلب الأميركي لتفعيل آلية تفعيل العقوبات بصورة تلقائية ضد طهران».
وصوت أعضاء مجلس الأمن على مشروع القرار هذا من بعد بواسطة مذكرات شفهية أرسلت إلى رئيس مجلس الأمن المندوب الإندونيسي الدائم لدى الأمم المتحدة ديان تراينساه دجاني بالبريد الإلكتروني، وهي الطريقة المعتمدة للتصويت حالياً بسبب جائحة «كوفيد19». وأعلن دجاني أن النتيجة جاءت 14 دولة مؤيدة، ودولة واحدة معارضة، هي الولايات المتحدة. ويسقط أي مشروع قرار إذا لم يحصل على غالبية 9 أصوات أو إذا جرى استخدام «حق النقض (فيتو)» ضده من واحدة أو أكثر من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن؛ أي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين.
وأعرب دجاني عن أسفه لعدم اعتماد القرار، موضحاً أنه يتناول قضايا مهمة تتعلق بمحاكمة الإرهابيين المزعومين وإعادة تأهيلهم وإعادة دمجهم. وقال إنه «يرسل إشارة إلى أن المجلس غير موحد في الحرب ضد الإرهاب، وأنا بالتأكيد آسف لحدوث ذلك». وأوضح أن إندونيسيا سعت لتحقيق إجماع تمسكاً منها بـ«رؤية أكبر تقضي بأن نكون موحدين في كفاحنا ضد الإرهاب». في المقابل، حملت المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت بشدة على المشروع الإندونيسي، قائلة إن القرار «الذي يُفترض أنه يهدف إلى تعزيز العمل الدولي بشأن مكافحة الإرهاب، كان أسوأ من عدم التوصل إلى قرار على الإطلاق»، واصفة الأمر بأنه «مهزلة ساخرة وغافلة عن عمد».
وشددت على أن إعادة المقاتلين الإرهابيين الأجانب وذويهم إلى بلدانهم ومحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها أمر ضروري «لكيلا يصبحوا نواة لنسخة ثانية من (داعش)، عادّةً أنه «من غير المفهوم أن أعضاء آخرين في هذا المجلس كانوا راضين عن قرار يتجاهل التداعيات الأمنية لترك المقاتلين الإرهابيين الأجانب يخططون لهروبهم من مراكز الاحتجاز المحدودة والتخلي عن أفراد عائلاتهم في المعسكرات دون ملجأ أو فرص أو أمل». ونقلت عن وزير الخارجية مايك بومبيو أن واشنطن «تريد أن تستعيد كل دولة مواطنيها. هذه هي الخطوة الأولى. من الضروري أن يفعلوا ذلك».
ولاحظ دبلوماسي أن «الفيتو الأميركي يظهر للأسف أن واشنطن تسعى إلى أمر جيد بالنسبة إلى العالم، لكن الواقع خلاف ذلك».
وكانت كرافت أفادت الأسبوع الماضي بأن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب «أصيبت بخيبة أمل» لأن الجهود الإندونيسية لصوغ «قرار ذي مغزى تعثرت بسبب رفض أعضاء المجلس إدراج مسألة الإعادة إلى الوطن»، في إشارة خصوصاً إلى «نظرائها الأوروبيين الغربيين، بمن فيهم بريطانيا وفرنسا، الذين عارضوا إعادة مقاتلي (داعش) وذويهم، باستثناء حالة الأيتام وبعض الأطفال. ويعكس ذلك اتساع هوة الخلافات عبر ضفتي المحيط الأطلسي بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية؛ حتى بريطانيا».


مقالات ذات صلة

الشرطة الباكستانية: اختطاف 17 موظفاً على يد عناصر إرهابية شمال غربي البلاد

آسيا يقف مسؤولون أمنيون باكستانيون حراساً عند نقطة تفتيش في كويتا عاصمة إقليم بلوشستان بباكستان يوم 6 يناير 2025 حيث تشهد باكستان موجة من عنف المتمردين خصوصاً في المقاطعات الغربية في إقليم خيبر بختونخوا (إ.ب.أ)

الشرطة الباكستانية: اختطاف 17 موظفاً على يد عناصر إرهابية شمال غربي البلاد

أعلنت الشرطة الباكستانية أن مسلحين من العناصر الإرهابية اختطفوا 17 موظفاً مدنياً في منطقة قبول خيل، الواقعة على الحدود بين إقليم البنجاب وإقليم خيبر بختونخوا.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
المشرق العربي عناصر من الفصائل الموالية لتركية تشارك في الاشتباكات مع «قسد» بشرق حلب (أ.ف.ب)

تركيا متمسكة بالتحرك ضد «قسد»... ومحاولات أميركية لمنعها

اتهمت تركيا «قسد» باستخدام المدنيين دروعاً بشرية في «قسد» وأكدت تمسكها بعملية عسكرية في شمال سوريا وسط مساعٍ أميركية لمنعها.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية إردوغان ملوحاً بالتحية لمواطنين في أثناء استقبال بهشلي له أمام منزله في أنقرة الخميس (الرئاسة التركية)

تركيا: لقاء بين إردوغان وبهشلي وسط جدل حول الحوار مع أوجلان

تشهد تركيا حراكاً مكثفاً حول عملية لحل المشكلة الكردية عبر الحوار مع زعيم حزب «العمال الكردستاني» السجين عبد الله أوجلان، وانقساماً حول مسألة العفو عنه.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا محمد ديبي ورث حكم تشاد من والده وتمت ترقيته مؤخراً إلى رتبة ماريشال (صحافة محلية)

تحت تأثير الكحول والمخدرات... 24 شخصاً هاجموا القصر الرئاسي في تشاد

استبعدت تشاد أن يكون الهجوم على القصر الرئاسي ليل الأربعاء/الخميس، له أي طابع «إرهابي»، مشيرة إلى أن من نفذوه كانوا مجموعة من الأشخاص في حالة سكر ومسلحين.

الشيخ محمد (نواكشوط )
أوروبا جنود بريطانيون عائدون من أفغانستان خلال احتفال في اسكوتلندا عام 2013 (غيتي)

تحقيقات: القوات الخاصة البريطانية سُمح لها بـ«التملص من القتل» في أفغانستان

الأدلة التي نشرتها لجنة تحقيق رسمية في جرائم الحرب المزعومة ترسم صورة مزعجة لقوة قتالية نخبوية اعتادت ثقافة الإفلات من العقاب في أفغانستان.

«الشرق الأوسط» (لندن - واشنطن ) «الشرق الأوسط» (لندن - واشنطن )

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟