صناعة الحافلات المدرسية تواجه أزمة وجودية بسبب كوفيد 19

تشكل شركات الحافلات المملوكة إلى القطاع الخاص في نيويورك، والتي تعمل على نقل ما لا يقل عن 10 ملايين طفل إلى المدارس سنويا، ما يقرب من نسبة 40 في المائة من صناعة الحافلات المدرسية (نيويورك تايمز)



 غلين إيفري صاحب أسطول من باصات المدارس بنيويورك قام بتعليق أعمال كافة موظفيه البالغ عددهم 32 موظفا، بما في ذلك نجله (نيويورك تايمز)
تشكل شركات الحافلات المملوكة إلى القطاع الخاص في نيويورك، والتي تعمل على نقل ما لا يقل عن 10 ملايين طفل إلى المدارس سنويا، ما يقرب من نسبة 40 في المائة من صناعة الحافلات المدرسية (نيويورك تايمز) غلين إيفري صاحب أسطول من باصات المدارس بنيويورك قام بتعليق أعمال كافة موظفيه البالغ عددهم 32 موظفا، بما في ذلك نجله (نيويورك تايمز)
TT

صناعة الحافلات المدرسية تواجه أزمة وجودية بسبب كوفيد 19

تشكل شركات الحافلات المملوكة إلى القطاع الخاص في نيويورك، والتي تعمل على نقل ما لا يقل عن 10 ملايين طفل إلى المدارس سنويا، ما يقرب من نسبة 40 في المائة من صناعة الحافلات المدرسية (نيويورك تايمز)



 غلين إيفري صاحب أسطول من باصات المدارس بنيويورك قام بتعليق أعمال كافة موظفيه البالغ عددهم 32 موظفا، بما في ذلك نجله (نيويورك تايمز)
تشكل شركات الحافلات المملوكة إلى القطاع الخاص في نيويورك، والتي تعمل على نقل ما لا يقل عن 10 ملايين طفل إلى المدارس سنويا، ما يقرب من نسبة 40 في المائة من صناعة الحافلات المدرسية (نيويورك تايمز) غلين إيفري صاحب أسطول من باصات المدارس بنيويورك قام بتعليق أعمال كافة موظفيه البالغ عددهم 32 موظفا، بما في ذلك نجله (نيويورك تايمز)

عندما تلقى «غلين إيفري» مذكرة في أول مارس (آذار) من العام الجاري بشأن إغلاق المدارس في وادي هدسون بمدينة نيويورك بسبب وباء كورونا المستجد، أوقف أسطول السيارات المكون من 20 حافلة مدرسية على ظن منه بأن الأمور سوف تعود إلى طبيعتها في غضون شهور قليلة.
غير أن الوباء ازداد تفاقمه وظلت المدارس على إغلاقها. وأبلغ مديرو المدرسة السيد غلين أنه مع بقاء الطلاب في منازلهم فلن تتمكن المدرسة من سداد فواتير الحافلات العاطلة عن العمل. واستمر السيد غلين متحملا لتكاليف الحافلات، وتلاشت كل فرصة من فرص تعويض الدخل المفقود عن خسارة الإيرادات من خلال تعاقدات ما بعد الدراسة أو في الصيف بسبب الوباء الفتاك الراهن.
ومن أجل مواصلة البقاء في دورة العمل، قام السيد غلين بتعليق أعمال كافة موظفيه البالغ عددهم 32 موظفا، بما في ذلك نجله. وأخيرا، خسرت شركته لتسيير الحافلات المدرسية مبلغا وقدره 750 ألف دولار خلال فترة الوباء، مما شكل صدمة قوية للغاية لأعمال شركته، التي يبلغ متوسط إيراداتها نحو مليوني دولار على أساس سنوي.
أما الآن، يساور السيد غلين القلق من أنه مع عودة المدارس إلى العمل بكامل طاقتها وافتتاح أبوابها من جديد ربما لا تكون شركته متواجدة بالأساس لنقل الطلاب من وإلى المدرسة. ويقول السيد غلين عن ذلك: «لقد مارسنا تلك الأعمال التجارية منذ أكثر من 60 عاما وحتى اليوم، ولكن ربما قد تكون هذه هي نهاية المطاف بالنسبة إلينا».
تشكل شركات الحافلات المملوكة إلى القطاع الخاص، والتي تعمل على نقل ما لا يقل عن 10 ملايين طفل إلى المدارس سنويا، ما يقرب من نسبة 40 في المائة من صناعة الحافلات المدرسية، تلك التي تواجه في الآونة الراهنة تهديدات غير مسبوقة لاستمرار بقائها قيد العمل.
في المناطق التعليمية التي تعتمد على نظام التعلم عن بُعد، يساور شركات الحافلات القلق بشأن الحصول على أي دخل على الإطلاق. وفي الأماكن التي ترجع بالكامل إلى نظام التعليم المباشر أو النموذج المختلط من التعليم، تتوقع شركات الحافلات ارتفاع تكاليف النظافة والنفقات التشغيلية الأخرى بصورة كبيرة بسبب الحاجة الماسة إلى تسيير المزيد من الحافلات لضمان تنفيذ معايير التباعد الاجتماعي بين الطلاب.
واستجابة لذلك، يدعو أصحاب شركات الحافلات وزعماء تلك الصناعة الكونغرس الأميركي إلى الموافقة على تمرير مبلغ 10 مليارات دولار من المساعدات المالية الطارئة دعما للحافلات المدرسية ومدربي قيادة الحافلات. ولقد أشاروا إلى أنه مع عجزهم عن التنبؤ بما سوف يجري في السنة الدراسية الجديدة، بالإضافة إلى ما يقرب من ستة أشهر كاملة من التوقف عن العمل، وبالتالي فهم لا يعرفون إلى أي مدى سوف يكونون قادرين على مواصلة العمل.
ومع عودة المدارس إلى العمل – وإذا ما شرعت شركات حافلات النقل المدرسية في الانهيار، كما هو متوقع – يقول قادة تلك الصناعة المهمة أن المعاناة سوف تلحق بأطفال المدارس وأولياء الأمور الذين سوف يتعين عليهم تغيير أنماط حياتهم بالكلية والبحث عن وسيلة أخرى تحل محل وسائل النقل المدرسية التي كانت من الأمور المسلم بها في السابق.
ومنذ أن ظهر الوباء، أصيبت أغلب وسائل النقل العام في الولايات المتحدة تقريبا بالشلل المالي إثر الانخفاض الرهيب في عدد الركاب مع انخفاض الإيرادات المصاحبة لها. وللحيلولة دون مزيد من الانهيار، خصص الكونغرس مبلغ 50 مليار دولار لصالح شركات الطيران، ومبلغ 25 مليار دولار لصالح وسائل النقل العام، فضلا عن تخصيص مليار دولار إلى شركة «أمتراك» لخدمات الترام.
غير أن خبراء الصناعة قالوا إن الحافلات المدارة بواسطة القطاع الخاص بقيت إلى حد كبير خارج نطاق الإغاثة الحكومية المشار إليها آنفا. وأن نسبة 60 في المائة الباقية من الحافلات المدرسية مملوكة ومدارة من قبل المناطق التعليمية.
وكان المشرعون الفيدراليون قد منحوا المناطق التعليمية مبلغا وقدره 13.5 مليار دولار للمساعدة في مواجهة أزمة الوباء، غير أنهم تركوا الأمر بيد مدراء المقاطعات في تقرير ما إذا كانوا سوف يدفعون الأموال للمقاولين من القطاع الخاص من عدمه، بما في ذلك تكاليف تسيير حافلات النقل المدرسية.
وحض الحكام في ولايات مثل كونيتيكيت ومينيسوتا مدراء المقاطعات على سداد مدفوعات مقاولي الحافلات المدرسية بالدرجة التي تكفي لتغطية التكاليف الثابتة التي تكبدوها حتى مع توقف الحافلات عن العمل خلال فترة الإغلاق الماضية. غير أن بعض المناطق التعليمية في ولايات مثل بنسلفانيا ونيويورك قد تخلت عن سداد مدفوعات شركات الحافلات المدرسية بالكلية، مما أسفر عن إفلاس بعض تلك الشركات أو تحولها إلى مقاضاة المناطق التعليمية من أجل الفواتير غير المدفوعة التي بلغت حوالي مليوني دولار في بعض الحالات.
يقول الخبراء المعنيون بالأمر إن تلك الصناعة يمكن أن تتأثر بتلك المجريات السلبية إلى الأبد. واستعانت شركات الحافلات الصغيرة بمدخراتها المالية في محاولة التغلب على فصل الصيف من دون إيرادات، الأمر الذي جعلها تستشرف حافة الانهيار المالي الوشيك. كما تحول سائقو الحافلات المسرحين من العمل إلى صناعات أخرى مثل النقل بالشاحنات وتوصيل الطرود، مما زاد من صعوبة الأوضاع على الشركات التي تحتاج إلى سائقين لحافلات الطلاب في الخريف من أجل اضطرارها إلى توظيف عمال وسائقين جدد.
يقول كايل دي فيفو، محامي شركات الحافلات ونائب رئيس شركة «داتكو» لتسيير الحافلات المدرسية في ولاية كونيتيكت: «بمجرد أن تنهار تلك الشركات لن يكون من اليسير إعادتها إلى مباشرة الأعمال مرة أخرى».
ولقد أدرك المشرعون الفيدراليون حاجة صناعة الحافلات المدرسية الماسة إلى مزيد من اهتمام الكونغرس. وفي أبريل (نيسان) من العام الجاري، أرسل نحو 100 عضو في الكونغرس رسالة مفتوحة إلى قيادة مجلسي الشيوخ والنواب يطالبون فيها بتصحيح الخطأ الرقابي المتمثل في إخراج صناعة الحافلات المدرسية الأميركية من حزمة المساعدات المالية المخصصة لمواجهة وباء فيروس كورونا والتي بلغت قيمتها تريليوني دولار وجرى تمريرها اعتبارا من شهر مارس (آذار) من العام الجاري.
تشكل حقائق إدارة شركة حافلات النقل المدرسية أثناء وباء كورونا المستجد حالة من التحديات غير المسبوقة.
تشترط العديد من الولايات الأميركية ألا يزيد عمر الحافلات عن 4 إلى 6 سنوات بحد أقصى، الأمر الذي يجبر العديد من الشركات على تحمل مدفوعات القروض الثابتة حيال أسطول الحافلات لديها. ويبلغ متوسط تكلفة شراء الحافلة المدرسية الواحدة ما بين 90 إلى 120 ألف دولار، وفقا لتقديرات خبراء الصناعة. ويمكن لأقساط التأمين الشهرية لتلك الحافلات أن تتراوح بين 2500 إلى 4 آلاف دولار لكل حافلة. وإذا ما بقيت الحافلات خارج دورة العمل، فمن المتوقع ارتفاع نسب الأعطال الميكانيكية في الحافلات مع مرور الوقت.
ومما يُضاف إلى ذلك، تعمل العديد من شركات الحافلات المدرسية في تسيير خدمات الحافلات الخاصة، ولقد اقترب الطلب على هذه الخدمات الخاصة من التلاشي تماما، مما يؤدي إلى مزيد من تدهور الأوضاع المالية لشركات الحافلات بصفة عامة.
يقول السيد غلين متهكما عن امتلاك شركة تعتمد على مزيج من إيرادات الحافلات المدرسية والحافلات الخاصة: «لقد كان مزيجا لطيفا للغاية، إنني أخرج إلى الشارع الآن وأقول للجميع: انظروا إلى كل هذه الحافلات المتوقفة بلا عمل».
ومن بين الضحايا الآخرين لتلك الأزمات كان تسريح سائقي الحافلات المدرسية على نطاق كبير. ويقدر اتحاد النقل المدمج – وهو أحد أكبر نقابات العمال التي تمثل سائقي حافلات المدارس في البلاد – أنه قد جرى تسريح ما يقرب من 13 ألف سائق خارج قوة العمل البالغ عددها نحو 20 ألف سائق، أو ما يساوي نسبة 65 في المائة منهم.
أما بالنسبة إلى سائقي الحافلات من شاكلة السيدة دينا دريك – 45 عاما – والتي جرى تسريحها من عملها في طريق الحافلات خارج مدينة شيكاغو، فليست لديها أي فكرة عن الميعاد المحتمل لعودتها إلى عملها مرة أخرى.
ولقد دخلت السيد دينا دريك – وهي العائل الرئيسي لأسرتها وسائقة الحافلات من الجيل الثالث – في تلك الوظيفة لأنها شعرت أنها من الوظائف المستمرة الثابتة التي لن تختفي أبدا من خارطة العمل. لكن إذا كانت شركة تسيير الحافلات المدرسية التي تعمل لديها لن تطلب سائقين للعمل حتى شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، فهي غير متأكدة ما إذا كانت سوف تستمر في العمل في هذه الصناعة من عدمه. وهي تقول عن ذلك: «أشعر بأننا منسيون تماما. بمجرد إغلاق المدرسة لأبوابها لن نستطيع العثور على المال الذي نعيل به أنفسنا».
يحذر خبراء الصناعة من أنه بمجرد إغلاق شركة من شركات الحافلات المدرسية لن يكون من السهل على المسؤولين استبدالها بشركة أخرى على الفور. كانت العديد من شركات الحافلات المدرسية الخاصة تواصل العمل منذ أجيال ولقد اكتسبت خبرات كبيرة في ذلك المجال من توظيف، وتدريب السائقين في تلك الصناعة التي تتسم بالتنظيم الشديد.
وتتطلب الإرشادات الجديدة الصادرة عن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في البلاد من شركات الحافلات تعديل عمليات التشغيل من أجل السماح بالتنظيف اليومي للحافلات واحترام معايير التباعد الاجتماعي لضمان سلامة الأطفال والسائقين على حد سواء.
يقول مايك كانين – أحد أنصار حقوق سائقي الحافلات المدرسية، والذي يعمل لدى شركة «لورينز باص سيرفيس» في مدينة مينيابوليس: «لا يمكننا تعيين أي شخص ونستأمنه على سلامة وأرواح أطفالنا في الحافلات المدرسية، إن الموظفين لدينا محترفون للغاية ومدربون تدريبا فائقا، ويحظون باحترام الجميع».
* خدمة نيويورك تايمز



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)