قطع حجرية في القاهرة ترجّح وجود نشاط بشري من مليوني سنة

الدكتورة دعاء سيد إبراهيم أثناء فحصها بعض القطع الحجرية (الشرق الأوسط)
الدكتورة دعاء سيد إبراهيم أثناء فحصها بعض القطع الحجرية (الشرق الأوسط)
TT

قطع حجرية في القاهرة ترجّح وجود نشاط بشري من مليوني سنة

الدكتورة دعاء سيد إبراهيم أثناء فحصها بعض القطع الحجرية (الشرق الأوسط)
الدكتورة دعاء سيد إبراهيم أثناء فحصها بعض القطع الحجرية (الشرق الأوسط)

في محاولة لتتبع واستكشاف شكل الحياة في عصور ما قبل التاريخ، وخصائص تعامل الإنسان البدائي مع الطبيعة، قام فريق علمي مصري بإعادة فحص مجموعة من القطع الحجرية المحفوظة بالمتحف المصري منذ أوائل القرن الماضي، ودراسة تاريخها وخصائصها الجيولوجية التي أثبتت أنها تعود إلى أكثر من مليوني سنة، وتشكل أقدم نشاط بشري في التاريخ، بما يرجح وجود إنسان «الهومو» في عدد من المناطق المصرية التي تم اكتشاف القطع فيها، ومنها منطقة العباسية «شرق القاهرة».
بلغ عدد القطع التي تم فحصها من مُقْتنيات المتحف المصري بالتحرير «وسط القاهرة» 20 قطعة حجرية، ووفق السجل المتحفي الرسمي يعود تاريخ اكتشافها إلى عشرينات القرن الماضي، في أماكن حفريات عديدة منها منطقة العباسية «شرق القاهرة»، والفيوم «جنوب غربي القاهرة»، وسوهاج والأقصر «جنوب مصر»، وضم الفريق العلمي المصري كلاً من الدكتور أبو الحسن بكري، أستاذ ما قبل التاريخ بكلية الآثار جامعة القاهرة، والدكتور أحمد سعيد أستاذ آثار وتاريخ الشرق الأدنى القديم بقسم التاريخ والآثار بكلية الآداب بجامعة الكويت، والدكتورة دعاء سيد إبراهيم الباحثة المتخصصة في علوم ما قبل التاريخ بوزارة السياحة والآثار المصرية، كما قام الفريق العلمي بفحص قطع حجرية مكتشَفة حديثاً من حفريات بمناطق مصرية مختلفة، وقاموا بتسجيل البيانات العلمية ونتائج الفحص في دراسة تحت عنوان «الصناعة الأولدفائية في وادي النيل بمصر» نُشرت أخيراً باللغة الإنجليزية في مجلة «علوم الآثار الأفريقية»، وهي مجلة علمية دولية متخصصة في أبحاث الآثار الأفريقية.
الأدوات الحجرية هي واحدة من أقدم الصناعات البشرية التي تؤرِّخ لوجود الإنسان البدائي في عصور ما قبل التاريخ، حيث كانت تُصْنع من تكسير الأحجار وتهذيبها لاستخدامها كأدوات للتقطيع وجمع النباتات والثمار والصيد، ويطلق عليها الصناعة «الأولدوفائية» وتعد ثاني أقدم صناعة عرفتها البشرية، وفقاً للدكتور أبو الحسن بكري، أستاذ ما قبل التاريخ بكلية الآثار جامعة القاهرة، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «الصناعة الأولدفائية تُنسب لإنسان الهومو الذي يطلق عليه (الإنسان الحاذق) أو (Homo habilis)، وتم العثور على أقدم نماذج لها بعدة مواقع بشرق أفريقيا، وتؤرخ الأدوات المكتشفة هناك بنحو مليوني وستمائة ألف سنة، وأُطلق عليها هذا الاسم نسبةً إلى ممر (أولدوفاي) بتنزانيا، وتتميز أدوات هذه الصناعة بأنها بسيطة وتتكون غالباً من نوى كروية الشكل وبعض الشظايا، وهي أدوات قاطعة تسمى أحياناً «الكرات القاطعة» ويتم تصنيعها عن طريق إزالة بعض الشظايا من أحد جوانب الحصى لينتج عنها حافة قاطعة، وكانت تستخدم في القطع والسلخ والسحق وغيرها من المهام.
خلال عمليات الفحص استخدم الفريق العلمي نماذج قياس معتمدة للشكل الخارجي للأداة الحجرية ومواصفاتها، التي أكدت أنها تعود إلى أكثر من مليوني سنة، ويشير بكري إلى أن «التصنيف العلمي للشكل الخارجي للأداة الحجرية أكد انتماءها إلى الفترة التي نتحدث عنها، كما قمنا بفحص خصائصها الفنية والجيولوجية، وإجراء دراسات تحليلية لتأكيد النتائج، وكان من اللافت أن 15 قطعة من القطع الحجرية التي قمنا بفحصها تم اكتشافها بمنطقة العباسية (شرق القاهرة) عام 1926 ميلادية حسب السجل الرسمي بالمتحف المصري».
وشهدت السنوات الأخيرة اكتشاف العديد من الأدوات الحجرية الخاصة بالصناعة الأولدفائية بدول شمال أفريقيا والمغرب والجزائر، وهو ما شكّل دافعاً جديداً للعلماء المصريين لاستكمال دراساتهم في هذا المجال، ويضيف بكري أن «أحدث كشف كان سنة 2018 عندما تم العثور على أدوات حجرية بموقع (عين بوشريط) بالجزائر تؤرخ بنحو 2.4 مليون سنة، فقلنا إنه من المنطقي أن الإنسان الحاذق (هومو هابيليس) عندما انتقل من شرق أفريقيا إلى شمالها فلا بد أنه عبَر عن طريق مصر خصوصاً صحراء مصر الغربية للوصول إلى الجزائر والمغرب، ولا بد أنه ترك لنا آثاره، وفي نفس العام تم تأريخ أدوات عُثر عليها بالصين بموقع (شانغ شين) تعود إلى 2.1 مليون سنة، وهو ما رجح أن الإنسان الحاذق هو أول من هاجر من أفريقيا عن طريق مصر».
وترجح الدراسة التي استغرقت إجازتها للنشر نحو عام ونصف العام، أن الأراضي المصرية كانت معبراً ومحطة رئيسية في طريق الهجرة المبكرة لإنسان الهومو من قلب أفريقيا نحو باقي أجزاء العالم القديم سواء إلى باقي الشمال الأفريقي، أو إلى بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية والصين.
وتقول الدكتورة دعاء سيد إبراهيم، الباحثة المتخصصة في علوم ما قبل التاريخ بوزارة السياحة والآثار المصرية لـ«الشرق الأوسط» إن «القطع التي يعود مكان اكتشافها إلى منطقة العباسية شكّلت أحد الأدلة العلمية القوية، حيث عُثر عليها مدفونة في طبقات عميقة تحت الأرض، وفوقها أدوات حجرية أحدث تنتمي إلى عصور لاحقة، وهو ما يسمى (التتابع الطبقي) حيث تتراكم الأدوات والقطع بعضها فوق بعض في طبقات مختلفة يكون الأقدم منها في أسفل طبقة، وهو ما يعد دليلاً قوياً يدعم نتائج الدراسة».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».