«الفراشة» لهنري شاريير بالعربية

«الفراشة» لهنري شاريير بالعربية
TT

«الفراشة» لهنري شاريير بالعربية

«الفراشة» لهنري شاريير بالعربية

يصدر قريباً عن دار «المدى» العراقية، كتاب «الفراشة» لهنري شاريير بترجمة حسين عمر. وكان الكتاب قد حول منذ سنوات طويلة إلى فيلم شهير.
يروي شاريير الذي عرف باسم «بابيون» قصة الحكم عليه بالسجن المؤبد عن جريمة لم يرتكبها. وقد ولد بابيون في فرنسا، لكنه بعد هروبه من السجن، أصبح فنزويلياً لأن «الشعب الفنزويلي فضل أسلوبه في حب الحياة على سجله الجنائي، ولأن ثلاثة عشر عاماً من الفرار والكفاح من أجل النجاة من جحيم سجن الأشغال الشاقة كفيلة بأن ترسم مستقبلاً لا ماضياً»، كما جاء في تقديم جان بيير كاستيلو، الذي عمل على نشر الكتاب، من دون أن يضيف إليه شيئاً كما يقول، سوى بعض التعديلات الفنية.
هنا مقتطف من الكتاب - الرواية:
«بلغت الساعة العاشرة صباحاً، وأصبحنا جاهزين للمداولات. كان يقف أمامي ستّة قضاة، من بينهم نائب عامّ عدواني سوف يضع كلّ سلطته الميكافيلية وكلّ ذكائه في خدمة إقناع المحلّفين الاثني عشر المساكين، أوّلاً، بأنني مذنب، وأنّ وحده السجن المؤبّد أو الإعدام باستخدام المقصلة هو الحكم الذي أستحقّه.
سوف يحكمون علي بتهمة قتل قوّادٍ وواشٍ من الوسط الإجرامي في مونتمانتر. ليس هناك أي دليلٍ يُثبتُ علي التهمة، ولكن رجال الشرطة - الذين يتولّون زمام الأمور كلّما اكتشفوا مرتكب جناية - سوف يدعمون الحكم القاضي بأنني أنا المذنب في هذه الجريمة.
ولانعدام الأدلّة على ذلك، سوف يزعمون أنّ هناك معلومات «سرّية» بحوزتهم لا تدع مجالاً للشكّ، وسوف يكونون قد أعدوا بأنفسهم شاهداً، يُدعى بولان، وهو عبارة عن أسطوانة حقيقية مسجّلة في مقر الشرطة القضائية في «36 كي دي أورفيفر» وسوف يكون ذلك بمثابة التمثيلية الأجدى لتثبيت التهمة عليّ. ولأنني ألححتُ على أنني لا أعرف هذا الشاهد، سألني رئيس المحكمة في لحظّة محدّدة بمنتهى التجرّد: «أنت تقول أنّ هذا الشاهد يكذب، حسناً، ولكن لماذا سيكذب؟»
- سيّدي الرئيس، إذا كنتُ أمضي ليالي مؤرقة منذ توقيفي، فهذا ليس بسبب الإحساس بالندم لمقتل لو بوتي، إذ لستُ أنا قاتله. وهذا السؤال هو بالضبط ما أسعى إلى معرفة جوابه، أي ما هو الدافع الذي يدفع هذا الشاهد إلى أن يتحامل علي إلى هذه الدرجة، ويسوق، في كلّ مرّة يضعف اتهامي بالجريمة، عناصر جديدة لكي يعزّزها ضدّي من جديد. وقد توصّلت، سيّدي الرئيس، إلى الاستنتاج بأنّ رجال الشرطة قد ضبطوا هذا الشاهد وهو يرتكب جناية خطيرة، وأنّهم قد عقدوا معه صفقة ضدّي، بحيث يغضّون الطرف عن جريمته تلك، شريطة أن يشهد ضدّي ويوقع بي.
ولم يخب تخميني، فالشاهد بولان، الذي جرى تقديمه في جلسات المحاكمة على أنّه رجل شريف وليست لديه سوابق، اعتُقِل بعد ذلك ببضع سنوات وحُكِمَ عليه بتهمة الاتجار بالكوكايين.
حاول المحامي هوبير أن يدافع عنّي، ولكنّه لم يكن بمقدوره أن يجاري النائب العام. وحده المحامي بوفاي نجح بغضبه وحنقه العارم أن يضع، للحظاتٍ، النائب العام في موقفٍ حرج.
ولكن للأسف، لم يستمرّ ذلك طويلاً، وسرعان ما تغلّبت عليه مهارة براديل في هذه المبارزة. وعلاوة على ذلك، أطرى على المحلّفين، الذين تنافخوا غروراً لمعاملتهم على قدم المساواة مع هذه الشخصية المؤثّرة واعتبارهم معاونين لها.
في تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً، انتهت لعبة الشطرنج، بعد أن قيل للمحامين المدافعين عنّي: كش ملك ومات! وتمّ الحكم علي وأنا بريء من التهمة.
وقد أقصى المجتمع الفرنسي، المتمثّل بالنائب العامّ براديل، من الحياة شابّاً في الخامسة والعشرين من عمره. هكذا قدّم لي رئيس المحكمة هذا الطبق الدسم بصوتٍ لا طابع مميّز له.
وليس أصعب من هذا سوى التخلّي عن السلاسل التي يجرّها المرء منذ ثلاثة عشر عاماً. «أنتما حرّان منذ هذه اللحظة». يُديرون لك ظهورهم، متخلّين بذلك عن مراقبتك. وهذا كلّ ما في الأمر.
تسلّقنا سريعاً الطريق المفروش بالحصى الصاعد من النهر. لم يكن معنا سوى حقيبة صغيرة جدّاً فيها ثلاثة قمصان وسروال احتياطي. كنتُ أرتدي البذلة الزرقاء البحرية، وقميصاً أبيض اللون وربطة عنق زرقاء متناسبة مع البذلة.
ولكننا كنا نعرف أنّ إعادة بناء حياة ليست بسهولة إعادة تركيب زرّ مقطوع. وإذا كنتُ اليوم، بعد مرور خمس وعشرين سنة، متزوّجاً بفتاة وسعيداً في كاراكاس ومواطناً فنزويلياً، فقد حدث كلّ هذا من خلال الكثير من المغامرات الأخرى، من نجاحات وإخفاقات، ولكن كرجل حرّ ومواطنٍ شريف. ربّما سوف أروي هذه المغامرات يوماً ما، وكذلك الكثير من الحكايات الأقلّ أهمية التي لم أجد لها مكاناً هنا.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!