مقدمة جورج أورويل غير المطبوعة لـ«مزرعة الحيوانات»

75 سنة على صدور روايته الأشهر «1984»

جورج أورويل أثناء عمله في هيئة الإذاعة البريطانية
جورج أورويل أثناء عمله في هيئة الإذاعة البريطانية
TT

مقدمة جورج أورويل غير المطبوعة لـ«مزرعة الحيوانات»

جورج أورويل أثناء عمله في هيئة الإذاعة البريطانية
جورج أورويل أثناء عمله في هيئة الإذاعة البريطانية

كتب المؤلف الشهير جورج أورويل في عام 1945 مقدمة غير منشورة لرواية «مزرعة الحيوانات» وظلت مجهولة حتى عثرت عليها نيويورك تايمز ونشرتها 1972 للمرة الأولى. وفيها يكشف أورويل عن رفض عدة دور نشر طبع الرواية، ويشكو من الرقابة الممثلة بوزارة الإعلام، التي حذرت أحد الناشرين بشكل غير مباشر من الإقدام على نشر الكتاب. وهنا ترجمة لهذه المقدمة:
جرى التفكير في هذا الكتاب – فيما يتصل بفكرته الرئيسية – منذ عام 1937. ولكن لم يصل لمرحلة التدوين الفعلي حتى أواخر عام 1943 تقريبا. وفي الوقت الذي بدأت فيه الكتابة، كان الوصول إلى دار نشره لطباعته من الصعوبات الواضحة (رغم النقص الواضح في الكتب والمؤلفات، الأمر الذي يضمن بيع كل ما يمكن وصفه بأنه كتاب)، سيما مع حقيقة رفض نشره من قبل أربعة ناشرين في السابق. وكان واحد فقط منهم يملك دوافع آيديولوجية تبرر رفضه لنشر الكتاب. وكان اثنان آخران يعملان على نشر الكتب المناوئة لروسيا منذ سنوات، أما الناشر الرابع فلم يكن يملك ما يمكن وصفه باللون السياسي المحدد. وشرع أحد الناشرين بالفعل في قبول الكتاب، بيد أنه بعد اتخاذ الترتيبات الأولية اللازمة قرر الناشر مشاورة وزارة الإعلام، التي يبدو أنها حذرته من الإقدام على نشر الكتاب، أو ربما قدمت له نوعا من النصائح شديدة اللهجة بصورة من الصور للحيلولة دون نشر الكتاب. وفيما يلي جانب مقتبس من الرسالة:
«لقد أتيت على ذكر رد الفعل الذي بلغني من مسؤول مهم في وزارة الإعلام فيما يتصل بكتاب «مزرعة الحيوانات». ولا بد لي من الإقرار بأن ذلك الإعراب عن الرأي قد دفعني وبجدية إلى التفكير مليا في الأمر. أستطيع الآن القول بأنه من غير المستحسن نشر ذلك الكتاب في الآونة الراهنة. فإذا كان محتوى الكتاب يتعلق بالحكام المستبدين والأنظمة المستبدة بصفة عامة، فإن قرار النشر لن يحمل أي قدر من الغبار يُذكر، غير أن السرد القصصي في الرواية يتعقب – من وجهة نظري – مجريات المسار الروسي السوفياتي عبر تناول اثنين من الحكام المستبدين هناك، بحيث لا يمكن سحب السرد القصصي إلا على روسيا بصفة خاصة، مع استبعاد تام للأنظمة المستبدة الأخرى من حول العالم. وهناك نقطة أخرى ذات أهمية: من شأن السرد القصصي أن تنعدم عنه الصفة الهجومية الواضحة إن لم تكن الطائفة السائدة في مجريات الرواية تتعلق بالخنازير (**). وإنني أعتقد أن اختيار الخنازير على اعتبارها الطائفة الحاكمة ضمن السرد القصصي يوحي بالكثير من الإساءة لدى العديد من القراء، لا سيما طائفة من الشعوب ذات الحساسية المفرطة مثل الشعب الروسي دون أدنى شك».
إن هذا النوع من تقديرات الأمور ليس من الأعراض الجيدة على أي حال. فمن غير المرغوب فيه بكل صراحة أن تحظى إحدى الوزارات الحكومية بأي سلطة رقابية من أي درجة تُذكر (باستثناء الرقابة الأمنية التي لا تلقى أي اعتراض من أي جهة في زمن الحرب) على الكتب التي لا تخضع بالأساس للرقابة الحكومية الرسمية. بيد أن الخطر الرئيسي على حرية الفكر وحرية التعبير في اللحظة الراهنة ليس هو التدخل الرقابي المباشر من قبل وزارة الإعلام أو من قبل أي جهة رسمية معنية أخرى. فإذا ما بذل الناشرون والمحررون جهدهم لاستبعاد تيمات بعينها عن خط النشر والطباعة، فلا يرجع ذلك لخوفهم من الملاحقات القضائية التي تعقب ذلك، وإنما لخشيتهم الكبيرة من ردود فعل الرأي العام على قراراتهم. وفي هذه البلاد، تُعد الخشية الفكرية – أو ربما الرهاب الفكري – هو أسوأ ما يمكن أن يواجه الكاتب أو الصحافي من أعداء، ولا يبدو لي أن هذه الحقيقة قد نالت ما تستحقه من التناول أو المناقشة الجادة.
ومن شأن أي شخصية راشدة ذات بعد ثقافي جيد وخبرة صحافية معقولة أن يُقر بأنه خلال مجريات الحرب الراهنة لم تكن الرقابة الرسمية على النشر والمطبوعات مثيرة للإزعاج على نحو خاص. فنحن لم نتعرض لنفس النوع من الرقابة الشمولية التي كنا نتوقعها بصورة معقولة برغم أن الصحافة في بلادنا لديها قدرها المعتبر من المظالم المبررة، لكن الحكومة – وبصورة عامة – قد سلكت مسلكا يتسم بالتسامح إلى حد مدهش مع آراء الأقليات. بيد أن الحقيقة المزعجة للغاية بشأن الرقابة الأدبية في المملكة المتحدة هي أنها رقابة طوعية إلى درجة كبيرة. إذ يمكن إسكات الأفكار والأطروحات غير المستساغة شعبيا، كما تحتفظ الحقائق المثيرة للغط والإزعاج بمكانها في الخفاء، من دون الحاجة إلى فرض أي حظر رسمي على التفوه بها أو نشرها.
وبالنسبة إلى أي شخص عاش لفترة طويلة في الخارج، فإنه سوف يدرك على الفور الحالات التي تظهر فيها الأنباء المثيرة على سطح الأحداث – أي تلك الأنباء التي سرعان ما تجد سبيلها إلى صدارة عناوين الصحف والمجلات – والتي يجري استبعادها على نحو واضح من الصحافة البريطانية، ولا يرجع ذلك إلى التدخل الحكومي، وإنما بسبب ذلك الاتفاق الضمني غير المعلن بأنه لا جدوى تُذكر من عناء نشر أو ذكر تلك الحقائق بصفة محددة. وبقدر ما تُعنى الصحف اليومية بالأمر، فإن هذا مما يسهل فهمه وإدراكه. إن الصحافة البريطانية ذات طبيعة مركزية للغاية، وأغلبها مملوك لزمرة من الأثرياء الذين يملكون كل الدوافع المسوغة لأن يتسموا بعدم الأمانة إزاء الموضوعات ذات الأهمية. بيد أن نفس النوع من الرقابة المخفية لها أصابعها التي طالت المطبوعات والكتب والدوريات، تماما كما كان الحال في المسرحيات، والأفلام، والمحتويات الإذاعية. وفي أي لحظة معينة، هناك تلك الكتلة المعتبرة من المعتقدات التقليدية، وهي مجموعة الأفكار التي من المفترض بالشخصيات ذات التفكير السليم القبول بها من دون تشكيك. وليس من المحظور على نحو خالص التفوه بهذا، أو ذاك، ولكن ليس من المقبول إطلاقا التفوه بذلك، تماما كما كان من غير المقبول تماما ذكر «السراويل» في حضرة النساء إبان منتصف العصر الفيكتوري.
وكان أي شخص يناوئ المعتقدات التقليدية السائدة يجد نفسه «قيد الإصمات» المطبق بفعالية تثير الذهول. ولم تكن وجهات النظر غير الملائمة بصورة أصيلة للعصر الراهن تجد آذانا صاغية، سواء في المطبوعات الصحافية ذات الشعبية أو لدى المطبوعات راقية المستوى.
وما تتطلبه المعتقدات التقليدية السائدة، في اللحظات الراهنة، يتعلق بالإعجاب غير النقدي بروسيا السوفياتية. وكان الجميع يدرك ذلك، بل وربما يتصرف الجميع بناء عليه بصورة نسبية. وكان أي انتقاد جدي للنظام السوفياتي، وأي إفصاح عن الحقائق التي كانت الحكومة السوفياتية تفضل إخفاءها، هو من الأمور غير القابلة للطباعة. وتدور مجريات هذه المؤامرة على الصعيد الوطني تملقا لحليفنا على خلفية من التسامح الفكري الحقيقي وبصورة مثيرة للفضول. ورغم أنه غير مسموح لك بتوجيه الانتقادات إلى الحكومة السوفياتية، فأنت على أدنى تقدير تحظى بالحرية الكافية في انتقاد حكومتنا. ولا يكاد أحد يُقدم على طباعة منشور يتعرض بالهجوم لشخصية ستالين، ولكنه من الآمن تماما شن الهجوم على ونستون تشرشل، وبأي درجة من الدرجات في الكتب والدوريات المختلفة. وعلى مدار خمس سنوات من الحرب، وعلى وجه التحديد خلال عامين أو ثلاثة منها التي كنا نقاتل فيها من أجل البقاء على قيد الحياة قوميا، جرى نشر عدد لا يُحصى من الكتب والنشرات والمقالات التي تدعو إلى التسوية السلمية من دون تدخل رقابي أو حكومي يُذكر. وعلاوة على ذلك، كانت تلك المطبوعات في مجملها تجد طريقها للنشر من دون ذلك الرفض المثير للجدل. وطالما أن الجميع ينأى بنفسه عن المساس بهيبة الاتحاد السوفياتي، فإن مبدأ حرية التعبير مؤيد ومدعوم بصورة معقولة. وهناك جملة من التيمات التي تخضع للحظر، وسوف أذكر بعضا منها راهنا، بيد أن الاتجاه السائد إزاء الاتحاد السوفياتي هو من الأعراض الأكثر جدية للملاحظة. وهي الآن، كما كانت من قبل، من الأعراض التلقائية وليست الناجمة عن ممارسات أي جماعة بعينها من جماعات الضغط المعتبرة.
إن حالة الخنوع الفكري التي خيمت ظلالها القاتمة على المجال الأكبر من المثقفين الإنجليز والذين ابتلعوا ثم كرروا من خلالها الدعاية الروسية منذ عام 1941 وما بعده هي حالة مثيرة للذهول بكل المقاييس سيما إن لم يكونوا قد سلكوا مسلكا مماثلا في مناسبات عديدة سابقة. وعبر قضية مثيرة للجدل تلو الأخرى، كانت وجهات النظر الروسية تُقبل من دون تمحيص معقول مع تغافل واضح وكامل عن الحقائق التاريخية أو اللياقة الفكرية المعتبرة. ونذكر مثالا واحدا فقط، فقد احتفلت هيئة الإذاعة البريطانية بالذكرى الخامسة والعشرين للجيش الأحمر السوفياتي من دون العطف على ذكر الثوري الروسي ليون تروتسكي. ويماثل ذلك تماما الاحتفاء بإحياء ذكرى معركة الطرف الأغر من دون ذكر القائد نيلسون، غير أن ذلك لم يثر أي قدر من المعارضة يُذكر لدى الزمرة الثقافية الإنجليزية.
وكانت الصحف البريطانية، في الصراعات الداخلية في مختلف البلدان المحتلة، تتخذ في تحيز واضح - وفي أغلب الحالات المعروفة تقريبا – موقف الفصيل المفضل لدى الطرف الروسي، وتتخذ موقف التشهير بالفصيل المعارض في الأثناء ذاتها. وتتعمد في بعض الأحيان إخماد الأدلة والوقائع المادية من أجل الاستمرار في ذلك. ومن القضايا الصارخة بصورة خاصة كانت قضية العقيد ميخائيلوفيتش – وهو قائد مفارز تشيتنيك بالجيش اليوغوسلافي السابق. وكان الروس – من خلال وسيطهم اليوغوسلافي المعروف داخل دوائر المارشال جوزيف تيتو – قد وجهوا الاتهامات ضد العقيد ميخائيلوفيتش بالتعاون مع القوات الألمانية. ولقد التقطت الصحف البريطانية تلك الاتهامات، ومن ثم لم تسنح الفرصة أبدا لدى أنصار العقيد ميخائيلوفيتش للرد عليها، كما ألقيت الظلال الثقيلة على الحقائق الدامغة التي تتعارض مع الاتهامات الروسية.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.