في كل عام يشهد يوم الاستقلال الوطني الهندي تحليق المئات وربما الآلاف الطائرات الورقية في سماء البلاد احتفالاً بالمناسبة، وهو تقليد له قصة تاريخية.
يقول القدامى من أبناء الأجيال السابقة إن هذا التقليد يرجع إلى عام 1927 عندما تحولت الطائرات الورقية إلى رمز شعبي يعبر عن الحرية عندما قام ملايين المواطنين الهنود بتحليق الطائرات الورقية الملونة التي تحمل شعار «ارجع يا سايمون»، في إشارة إلى مقاطعة لجنة سايمون البريطانية في تلك الأثناء.
ومنذ تلك الأثناء، كانت الطائرة الورقية التي يتم قطع حبلها وإسقاطها على الأرض ترمز إلى التحرر الخالص من الاستعمار البريطاني، وتحول التحليق الجماعي للطائرات الورقية الملونة من طقوس الاحتفال الشعبية في طول البلاد وعرضها، لا سيما في العاصمة دلهي التي كانت مقر الإمبراطورية القديمة.
التاريخ
يمكننا تتبع البوادر الأولى لظهور الطائرات الورقية في الأجواء المحلية الهندية إلى التصاوير المصغرة التي ترجع إلى زمان الحكم المغولي للبلاد في القرن السادس عشر الميلادي. وتعكس تلك اللوحات في أغلب الأحيان مشاهد لفتية وفتيات يلعبون بطائرات ورقية ملونة ويستعينون بها - أحياناً - في البعث برسائل المحبة والغرام إلى أحبائهم.
استقدم الحكام المغول لعبة الطائرات الورقية إلى الهند كوسيلة من وسائل كبح جماح مشاعر الغضب وتهدئة التوتر، ثم تحولت إلى رياضة مفضلة لدى طبقة النبلاء في بادئ الأمر. ومع تزايد شعبية اللعبة اللطيفة، تم إدخال العديد من التحسينات على تصاميم الطائرات الورقية من أجل تحسين قدرتها على الطيران في الهواء. ومن الملك أكبر وحتى الملك بهادور شاه ظفر - اعتاد العديد من ملوك وأباطرة المغول في البلاد تحليق الطائرات الورقية على ضفاف نهر يامونا في كل مرة يشعرون بالغضب أو الانفعال أو ربما عندما يكونون في حاجة إلى صفاء الذهن وجلاء العقل من أجل التفكير في شؤون ذات أهمية.
يعتبر المواطن الهندي ميان علي - الذي يتجاوز عمره الآن 90 عاماً بقليل - من أفضل من طيّروا الطائرات الورقية سابقاً في دلهي، وهو يقول عن سابق خبرته في هذه الهواية الجميلة إن الملك أكبر شاه، حفيد الملك بهادور شاه ظفر، وهو آخر أباطرة سلالة المغول التي حكمت الهند قديماً، كان أفضل من طيّر الطائرات الورقية في زمانه.
وأضاف ميان علي متذكراً: «لقد أولى المغول القدامى عناية بالغة إلى الطائرات الورقية في السنوات الأخيرة من عمر إمبراطوريتهم المتدهورة. وكان للملك المغولي بهادور شاه ظفر ابن أخ يُدعى مير صاحب، قد عاش حتى ناهز التسعين عاماً من عمره، وكان من أبرع من طيّروا الطائرات الورقية في الهند بأسرها. وبصرف النظر تماماً عن الممتلكات القليلة للغاية التي منحها له المستعمر البريطاني الذي احتل البلاد، فلقد بيعت قطعة وراء الأخرى من أجل شراء الطائرات الورقية والتحليق بها في مختلف المسابقات التي كانت تُعقد لهذه الهواية الجميلة في كل من دلهي، ولوكناو، وباريللي، وأغرا. وتدهورت أحوال مير صاحب - كما كان معروفاً وقتذاك، إذ لم يكن أحد على معرفة حقيقية باسمه الأصلي - وصار فقيراً بسبب بيعه ممتلكاته كافة حتى اضطر الناس إلى جمع الأموال لمعاونته في افتتاح متجر يسترزق منه في آخر أيامه. وبطبيعة الحال، كان يستغل المتجر في بيع الطائرات الورقية، وفي أغلب الأحيان كان يمنحها مجاناً إلى الأطفال الصغار الذين يزورون متجره الصغير بين الحين والآخر، وتشجيعاً منه لهم على الاهتمام بتلك الرياضة التي ملكت عليه فؤاده وحياته بأسرها».
تقول المؤلفة الهندية نيكيتا ديساي - وهي صاحبة كتاب يحمل عنوان: «حرية مختلفة: الطائرات الورقية في غرب الهند، التقاليد والأصول الثقافية» - في مقالة مطولة عن تحليق الطائرات الورقية على اعتباره أحد الأنشطة الترفيهية بين أفراد السلالة الملكية الحاكمة قديماً: «حتى يومنا هذا، لا يزال سكان مدينة لوكناو يتذكرون كيف كان آصف الدولة (حاكم منطقة عوده في شمال الهند قديماً) يحب تطيير الطائرات الورقية المزخرفة والمزدانة بشرائط الذهب والفضة».
الطائرات الورقية وفيروس كورونا المستجد
على الرغم من التأثير الظاهر لانتشار فيروس كورونا المستجد على تحليق الطائرات الورقية في أجواء البلاد، فإن حماس المواطنين لهذه الهواية الجميلة والرياضة القديمة لم يخبُ حتى يومنا هذا برغم الظروف العامة القاسية.
وخلال العام الجاري، وفي خضم جائحة فيروس كورونا المستجد، يعمل صناع الطائرات الورقية في مدينة دلهي على صناعة الطائرات التي تحمل احتياطات التعامل مع الفيروس القاتل المطبوعة عليها.
يقول محمد تقي - وهو أحد صناع الطائرات الورقية في مدينة دلهي: «كما طردنا المستعمر البريطاني خارج البلاد وحصلنا على استقلالنا الوطني، أود أن أبعث برسالة إلى الناس أقول لهم إننا ينبغي علينا أن نتوخى الحذر ونحترم الاحتياطات الصحية حتى نتمكن من طرد فيروس كورونا الدخيل خارج الهند تماماً». وتعتبر طائرات المواطن محمد تقي فريدة من نوعها من حيث إنها تحمل طباعة لبعض الرسائل والشعارات المفيدة من شاكلة: «اغسل يديك لمدة 20 ثانية بالماء والصابون»، أو «من فضلك حافظ على مسافة 6 أقدام»، أو «رجاء الحفاظ على مسافة 6 أقدام للأمان»، أو «من فضلك استخدم الكمامات الواقية»، أو «من فضلك استعمل مطهرات الأيادي»، وغير ذلك الكثير.
يقول رسول، وهو أحد بائعي الطائرات الورقية في مدينة دلهي: «بما أننا ملزمون بالبقاء داخل منازلهم في الآونة الراهنة بسبب حالة الإغلاق العامة، فإنهم يواصلون تحليق الطائرات الورقية من شرفات المنازل حتى يجدوا ما يشغلون به أنفسهم في تلك الأوقات العصيبة. وهؤلاء الناس أنفسهم، كانوا حتى وقت قريب مشغولين بكتابة عبارات مثل (ابقوا في منازلكم) أو (اغسلوا أيديكم) على الطائرات الورقية بخطوط كبيرة وواضحة. أما الآن، فصارت الطائرات الورقية الجاهزة المطبوعة عليها عبارات مثل (لا لفيروس كورونا) متوافرة في الأسواق ومتاحة لدى الجميع».
يقول محمد أسلم - يبلغ من العمر 40 عاماً - إن يوم الاستقلال من أهم المهرجانات الوطنية السنوية في مدينة دلهي القديمة، وترى الناس متجمعين في شرفة كل منزل من منازل البلاد للاحتفال بالمناسبة السعيدة، ويستطرد قائلاً: «لقد ورثت هذا التقليد العائلي من والدي وجدي. والأمر المميز في تحليق الطائرات الورقية في مناسبة يوم الاستقلال هو أن الطائرات الورقية دائماً تأتي في ثلاثة ألوان تمثل علمنا الوطني. ونقوم بغناء الأناشيد الوطنية التي نحفظها عن ظهر قلب أثناء تحليق الطائرات الورقية. وفي الأمسيات، تضاء سماء البلاد بالألعاب النارية احتفالاً بالمناسبة العزيزة، ولسوف نتابع تحليق الطائرات الورقية في احتفالات العام الجاري لكن مع اتخاذ الاحتياطات المعروفة».
تعدّ الغرفة العلوية من المنزل للشقيقين مانيش وسونيل عبارة عن متحف مصغر لمختلف أشكال وأنواع الطائرات الورقية. إذ تضم الغرفة ما لا يقل عن 8 آلاف طائرة ورقية تلك التي يزيد عمر بعض منها على 50 عاماً أو أكثر، وكانت من أعمال بعض أشهر صانعي الطائرات الورقية في الهند بأسرها. وتوجد هناك عشرات من الطائرات الورقية المرتبة بعضها فوق البعض أعلى الصناديق المتراصة على أرضية الغرفة التي تضم كثيراً من الطائرات الورقية الأخرى.
ولقد تم إنشاء نادي الطائرات الورقية الخاص بالأخوين مانيش وسونيل في عام 1956 على يد والدهما، الذي يعدّ من أشهر من طيّروا الطائرات الورقية في الهند، ويعتبر ذلك النادي من أقدم أندية الطائرات الورقية في المدينة التي تضم عدداً يتراوح بين 250 و300 نادٍ من هذه الأندية.