من الصعب على اللبناني اليوم، أن يكتب عن عاصمته المنكوبة. إنه ليس وقت الكتابة، بل هو زمن للصمت والحزن والحداد، ولا يزال أهالي المفقودين يبحثون عن أشلاء أولادهم تحت الحطام. بعض الكتّاب باتوا بلا منازل بعد أن تحطم كل شيء، منهم من يلملون أجزاء بيوتهم التي تهاوت، منهم من فقدوا حبيباً أو صديقاً أو قريباً. بيوت بيروت في غالبيتها فقدت نوافذها وأصبح الناس معرضين للعراء. في هذه الأجواء، تصبح الكتابة فعل مقاومة أو فعل غضب. أو هي مجرد تأمل في سوريالية باتت تتجاوز الجميع. في لحظة واحدة طارت بيروت «ست الدنيا» ثم عادت واصطدمت بالأرض، وحلّ الخراب. الكتابة عن بيروت، من بيروت ليست سهلة، وهذه المساهمات التي تنشر اليوم، هي خارجة من قلب الصدمة.
أمين ألبرت الريحاني: أكتب
ولا أدري ماذا أقول
بقلب حزين وعين دامعة وغضبٍ «ساطع»، وبعد أيام على فاجعة تفجير بيروت وتدميرها، أجدني مختلياً بنفسي أكتب ولا أدري ماذا أقول. أحاول الابتعاد عن كل انفعال وكل ميل وهوى لأتساءل: هل أصرخ مع الصارخين بوجه أهل السلطة؟ هل أُذَكِّرُهم بأن الناس ما عادوا يتحملون كلامهم على الشاشات الصغيرة، هنا يُعلَن «الحداد الرسمي»، وكأن المسألة تتوقّف عند الحداد على الضحايا، ضاربين عرض الحائط كرامات الناس وحقوقهم ومطالبهم وعدالتهم ومستقبلهم ومستقبل أولادهم، أو أن المسألة رهن بصفة هذا الحِداد ما إذا كان «رسميّاً أم غير رسمي». ما قيمة كل هذه التفاصيل الشكلية حين تكون الدولة مستهترة، إلى هذه الدرجة، بحقوق الناس وكراماتهم؟ ما قيمة الشكليات حين تضرب الدولة عرض الحائط العدالة المنتظَرة وحماية المواطن من كلّ أذى لَحِقَ، أو قد يلحق به؟ هذا الاستخفاف بالمواطنين يطرح العديد من الأسئلة الجوهرية في معنى الحكم ودوره ومنافعه وحقيقة وجوده.
الدولة إمّا أن تكون في خدمة المواطن أو لا تكون، إمّا أن تسهم في عمليّة النمو الاجتماعي والاقتصادي والتربوي أو لا تكون. أي إمّا أن تكون دولة أو تصبح مغارة للصوص. وأهل الدولة، أهل السلطة، إمّا أن يتسابقوا على تعزيز الشأن العام، كما هو حاصل في البلدان المتقدّمة، أو يجدوا أنفسهم في «تناتش» السلطة ومكاسبها، وفي «كباش»، واحدهم مع الآخر، لكسب الصفقات وتوزيع المغانم... لذا تجدهم في تَذاكٍ دائم، وفي مزايدات لا تنتهي، والنتيجة تراجع مؤسسات الدولة وتقهقرها. واللافت أنّ أهل السلطة، في مزايداتهم وتذاكيهم، يرُدّون الفساد إلى ثلاثين سنة خلَت ظنّاً منهم أنّهم بذلك يرفعون المسؤولية عن كاهلِهِم ليلقوها على الآخرين، والآخرين الأبعدين. في حين أنّ الفساد المستشري قد نشط بشكل مباشر ووقِح منذ عشر سنوات وبدأ الانهيار الاقتصادي منذ نحو خمس سنوات. فميزان المدفوعات حتى عام 2010 كان يحمل مؤشرات إيجابية، ونسبة الصادرات بالمقارنة مع الاستيرادات كانت شبه متوازية ومتوازنة. ويجب أن نُذَكِّر بأننا في عام 1963، في عصرنا الذهبي، صُنِّفَ لبنان الرابع عالميّاً في النمو الاقتصادي بعد الولايات المتحدة الأميركيّة، وفرنسا، وسويسرا. إذن ما الذي كنّا قادرين عليه منذ ستين سنة تقريباً، ولم نعد قادرين عليه اليوم؟ صحيح أننا مررنا بحروب إقليمية وحروب الآخرين على أرضنا ولكن كلّ ذلك لا ينفي قدرة معيّنة كُنّا نتمتع بها جماعيّاً ووطنيّاً وافتقدناها اليوم. ما هو سحرُ ذلك العصر الذهبي الذي نجحنا في تنفيذه عهدذاك وأخفقنا في تنفيذه في هذا العهد؟
الدولة في بلاد الناس، هي التي تتكّل على أخلاقها قبل الاتكال على دستورها وقوانينها وأنظمتها. الدولة في بلاد الناس، دستورها الأخلاق، وقانونها الأخلاق، ونظامها الأخلاق.
الدولة عندنا في تخبّط وضياع لأننا عاجزون عن اتخاذ قرارات حاسمة حول أي مشكلة تواجهنا. والسبب في ذلك سببان: الأول: أنّ منطق التراضي والاسترضاء ما زال يغلب على كلّ اعتبار آخر. والثاني: أنّ منطق تغليب المصلحة الوطنية ما زال ضعيفاً أو غائباً كلّ الغياب.
والدولة في بلاد الناس، تحزم أمرها من البداية، فبعد تقديم الملفات المكشوفة والأهداف المكشوفة والأرقام المكشوفة، حول أي قضيّة من القضايا أو حول أي مشروع من المشاريع، تكون مستعدة للحسم في أمر قراراتها بلا تردد وبلا هوادة فالقرار يصدر بسرعة (من دون تسرّع)، والاستقالة عند الضرورة فورية، والفعل دائماً يسبق القول. لذا فالفعل في المواقف الوطنية لا يعرف صيغة المستقبل (سنفعل وسنُنشِئ وسوف نُنَفِّذ) بل يباشر دائما بصيغة الماضي (فعلنا وأنشأنا ونفّذنا) والقول يأتي دائماً بعد الفعل وليس العكس، لأنه لا قيمة للقول الذي يسبق الفعل.
إيمان حميدان: لا نريد سوى أن نؤلف الشعر والموسيقى
أنا في المترو للقاء ابنتي، حين شعرت بهاتفي الصامت يهتز. رأيت اسم صديقة لم أسمع منها منذ أشهر. لم أردّ. ترَكَت رسالة «كوني بخير مع عائلتك في بيروت. إنها فاجعة. طمّنيني»... رسائل متتالية من أصدقاء وصديقات، فيما بدأتُ أبحثُ عمّا حدث في بيروت وأتلقى الصور والأفلام... إنها أكثر من فاجعة، بيروت تحت الأنقاض، ضربة أبوكاليبتيكية. حدث جلل يتجاوز خيالي أنا التي عشت الحروب الأهلية والعنف لسنوات. إلا أن ما حدث في مدينتي مساء 4 أغسطس (آب) لا يشبه ما عشناه سابقا بشيء. إنها 11 أيلول بيروت، هيروشيما بيروت.
أقضي الليل مع ابنتي نتصل بأفراد العائلة ونطمئن على الأصدقاء. ليلة بيضاء تتخللها كوابيس قصيرة أخاف أن أرويها.
بيروت، لماذا يكرهونك إلى هذا الحد؟ لماذا عليكِ، أنت التي على صورتنا، أن تُدمّري مرّات ومرّات؟ متى سيشبعون؟ متى سيحوّلون كرههم وأمراضهم عنك ويتركوننا بسلام؟ لماذا كتب على أطفالنا أن يولدوا في الحرب ويكبروا في الحرب ويهاجروا، هذا إن لم يموتوا، في الحرب؟ لماذا كُتب على لبنان أن يبقى في عين العاصفة الدولية والإقليمية؟
كفى! نريد أن نحيا بسلام، أن ننتج بحرية ونبدع ونكتب ما نفكّر به. أن نرسم ونغني ونؤلف الشعر والموسيقى.
اتركوا لنا لبناننا الذي نريد، وخذوا حقدكم وكرهكم وارحلوا!
اتركوا لنا بيروتنا الغارقة في دمها ودمارها. اتركوها!
نحن، فقط نحن، سنبنيها من جديد.
جنى الحسن: أخجل من الاعتراف
بيروت... أحبك ولكن لا ضوء في آخر هذا النفق. مرّ انفجار بيروت وأنا على بعد مئات آلاف الأميال عن المدينة. بعيدة جداً بالمسافة. بعيدة بقرارٍ شخصي اتخذته منذ خمسة أعوام لأنّ هذه المدينة أرهقتني. أن ترهقنا أوطاننا لا يعني أنّنا توقفنا عن حبّها، بل إن الألم الذي تسببت لنا به كان أقوى من أن نستمر بالعيش فيها
أنا الهاربة من الانفجارات وقطع الكهرباء المستمر والجدالات السياسية العقيمة والطائفية والنفايات والتضخم الاقتصادي والبطالة وغياب العدالة ولائحة لا تنتهي من المشاكل التي تثقل كاهل اللبنانيين. أراقب الانفجار عن بعد وأجد نفسي عالقة بين إحساسين، الأوّل يتمثّل بالغضب والحزن، يتماشى معه شعورٌ رهيب بالعجز، والثاني والذي يؤرقني فعلياً ويشعرني بالخزي بشكلٍ أو بآخر، ولكن سأعترف به لأنّه موجود، وهو شعوري بالخلاص وبأنّني ناجية من «جحيم» الوطن.
الشعور الثاني هو فعلياً ما أخجل بالاعتراف به حتّى لنفسي، فكيف سأقول إنّ جزءاً منّي، يشعر بأنّي محظوظة لأنّي حظيت بفرصة الرحيل. ثمّ أتذكر أنّني لست المهاجرة الوحيدة. الذين هربوا من هذه البلاد هم فعلاً أكثر من الذين بقوا فيها. وربما معظم من بقوا هناك إمّا ندموا أو لم تأتهم فرصة الرحيل.
أنا لا أتباهى بالرحيل، فهو مؤلمٌ كثيراً. ألمه على قدر الخيبة. والخيبة شعورٌ قاتم، كعنكبوتٍ ينسج خيوطه حول القلب، فيجد الأخير نفسه يعتصر كلّ الوقت بحرقة، ويبقى نزفه داخلياً، عاجزا حتى عن الصراخ. لا يمكنني أن أشاهد كلّ صور الموتى التي أتت من بيروت، لا أريد ذلك. لا أريد أن أرى غضب الناس الذي لا يستجيب له أحد، لأنّي محبطة. وأعرف أن الإحباط ليس الحل، لكن هذا ما أشعر به.
حكايات الموت في هذا البلد لا تنتهي. والصراعات تصبح أحياناً نمط حياة، نألفها بشدة لدرجة أنّنا لا نعود قادرين على إدراك مدى كونها غير طبيعية وكم يمكن أن تكون تأثيراتها سلبية.
وها هو جرحٌ جديد وعميق وآخر. وليس هذا أسوأ ما في الأمر، الأسوأ هو أنّه على الأغلب لن يكون الأخير. لا ضوء في آخر هذا النفق. لقد اعتقدنا أننا رأيناه العام الماضي، حين نزل اللبنانيون إلى الشوارع في مظاهرات سلمية كان وجهها الأبرز الحب وهتافات الحرية والمطالبة بالعيش الكريم. كان ذلك الضوء الذي رأيناه، طرابلس التي رقصت على موسيقى التكنو لتصرخ أنّها ليست مدينة اشتباكات وبيروت التي تخلّت عن أي صبغة طائفية والنبطية، وخلعت عباءة الزعيم ومشاهد أخرى أضاءت لنا شعوراً بأنّه قد يصبح لنا يوماً وطن.
ولكن تلك المشاهد زالت وحلّ مكانها العنف والتكسير، وتلا ذلك شعور بالانهزام في داخل الكثيرين، كأنّه محكوم على هذا البلد الصغير بأن يبقى رهينة من يعبثون به.
الانفجار ليس وحده المأساة. قد يكون ربما دويّها الأشدّ، ولكنّ يوميات الحياة في لبنان هي انفجار صامت تحرق نيرانه السكّان.
من على بعد آلاف الأميال... أرى بلداً يحترق، حكاما يقتلون شعبهم، وشعبا يتمسّك جزء منه بهؤلاء الحكام. بلدٌ يحترق، يحرق معه أبناءه الذين يحبونه بشدّة ولكنّ بعضهم تعبوا من هذا الحب، لا يريدون أن يتصدّروا نشرات الأخبار ولا أن يلملموا الجراح ويستمروا بالصمود. الصمود يجب ألا يتحوّل إلى أسلوب حياة. يريدون فقط أن يعيشوا ببساطة وبأمان، فهل هذا ممكن؟
بيروت، أنا أحبّك وأدين لك بالكثير. أنت وأنا، كلانا نعرف أنّنا تشاركنا لحظات كثيرة حميمة معاً، ضحكنا وتألمنا وفرحنا وبكينا. وأنتِ تؤلمينني كثيراً وأنا أراكِ هكذا ولا يمكنني أن أفعل لكِ شيئا. وأنت تعرفين أنّي أحاول أن أخرجكِ من تفكيري لأنّكِ منهكة. وأنا أبحث لكِ عن الخلاص، ولا أجده، وأحياناً أحسبكِ وهماً وأحياناً أخرى مارداً قادرا على النهوض من بين الركام.
بيروت أنا أحبّك وأحاول من على بعد آلاف الأميال، أن أجدكِ وأمدّ جسراً إليكِ ولكنّي لا أرى هذا الضوء في آخر النفق. وربما كل ما تحتاجين إليه الآن ليس الحل، بل أن أضيء شمعة لأجلك. هذا ما سأفعله لكِ وأعدك يوماً أنّي سأجد لك طريقة لأعبّر لك بها عن هذا الحب. حتّى ذلك الوقت، كوني بخير ولا تحزني.
سليمان بختي: بيروت 2020 و2750 طنا من الياسمين
هذه بيروت. مدينة ولدت فيها ونشأت وتعلمت وعملت وحلمت. ومشيت فوق ترابها مع جدي وأبي وابني وأمني النفس أن أمشي فيها مع أحفادي وأموت فيها
هي مدينة الأفق والأمل إذا سكنتها مرة سكنتك إلى الأبد. وإذا غبت عنها أو تأخرت قليلاً تركت لك الباب مفتوحاً للعود الأبدي. اليوم، ينام معنا السؤال كيف ننقذ بيروت. كيف؟ ونحن لا نعيش بل ننجو. وبيروت لا تعتم تعطيك من روحها وتوسع لك مطرحاً فكيف ترد. في الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 افتدى صنوبر بيروت أرز لبنان. وفي انفجار بيروت عام 2020 افتدى أهل بيروت المدينة بأرواحهم. كم صعبة ومعبرة صورة الأم التي ولدت الطفل في غرفة مدمرة في مستشفى مدمر. هكذا تولد الحكاية. يولد الأمل. تولد بيروت.
كم صعبة ومؤثرة صورة اليمامة الميتة النائمة على أوتوستراد المرفأ، وكان لها حصة من فنجان قهوتنا كل صباح في البلد.
وبيروت لا ترمى بوردة وليس بـ2750 طنا من المواد المتفجرة وعنابر الزيت وهي التي اعتادت أن تغدق أطنان الياسمين وينتشر العبير في ضفاف المتوسط. ولم يبق من وهم المدن المشرقية المتوسطية المهمة (الإسكندرية، إزمير، بيروت) سواها ولم تلبث تقاتل ببسالة لأجل النور. تحرقها نار القربى، ونار الصراع العربي الإسرائيلي، ونار صراعات المنطقة والقوى الصاعدة والقوى النازلة، ولا تستسلم. وما أحرقت ألف حرب هويتها بل بلورتها وحققتها.
تنهض في كل مرة لتشهد للحداثة والحرية وقبول الآخر المختلف وقيمة الإنسان وكرامته وتعزيز سبل التلاقي بين الجميع. مدينة المواطن والمقيم والعابر. مدينة أنت تملكها وتكون فيها ما تريد من الزهو والانكسار وتساعدك على إنجاز مشروعك وعلى الحلم، وشغف الحياة.
كتب الشاعر محمود درويش غير مرة: أدهشتني بيروت حين لم أستطع الحصول على تذكرة لحضور فيلم لبيرغمان في بعد ظهر يوم عادي. وشرح العلاقة مع بيروت: «نادراً ما تحتاج إلى التأكيد من أنك في بيروت لأنك موجود فيها بلا دليل وهي موجودة فيك بلا برهان».
بيروت حنونة على المهاجرين وكانوا يهبطون من القرى للهجرة من مرفئها ومعهم الأهل يودعون فلذاتهم. وكانوا يحملون معهم درفات المرايا في خزائنهم وكلما أبحرت السفينة صعدوا إلى تلال المرفأ لكي تنعكس الشمس في المرايا باتجاه عيونهم. «هكذا تبقى شمس بلادهم في عيونهم، ويعودون. يا بحر هدي الموج فيك حبابنا». هكذا يروي فؤاد سليمان قصة الذين هاجروا من مرفأ بيروت بداية القرن الماضي.
«لماذا تطير بيروت بأجنحة قاتلة؟» هل ثمة من يرسم مصيرا آخر لها؟ كيف يعود الزمن الذي تحبه بيروت؟ تقول الأغنية الفيروزية: «ارجعي يا بيروت بترجع الأيام».