بروفايل: ناصيف حتّي ضحية جديدة لـ«الفشل اللبناني»

ودع الأكاديمي الدبلوماسي العربي ناصيف حتّي تجربة العمل الحكومي في لبنان سريعاً. أكاديميته وأفكاره ومبادئه لم تسمح له بالبقاء طويلاً في عمل حكومي يجر لبنان نحو «الدولة الفاشلة»، فاختار أن يغادر المركب، لتكون مغادرته جرس إنذار للطبقة السياسية الحاكمة من أن الوضع لا يمكن أن يستمر. أما على الصعيد الشخصي، فقد رفض حتّي أن يكون «شاهد ما شفش حاجة».
ترك حتّي الحكومة قبل أيام من تفجير مرفأ بيروت الذي وضع المسمار الأخير في نعش هذه الحكومة التي أتت تحت عنوان «إنقاذ البلاد»، فساهمت في تخبطها بتسريع الانهيار، مفوتة على نفسها «فرصة تاريخية» لأن تنجز مستندة إلى «رغبة اللبنانيين بالتغيير، وعدم قدرة الطبقة السياسية على المقاومة»، كما راهن حتّي.
رهان حتّي كان خاسراً في الحالتين، فالطبقة السياسية أثبتت قدرة كبيرة على التأقلم، وجشعاً كبيراً لا يضع في الحسبان أحوال البلاد والعباد. أما حكومة «التكنوقراط»، فقد مارست «الشيزوفرانية» (انفصام الشخصية) السياسية، كما يقول حتّي، حيث «كنا نأخذ قراراً بالإجماع، ثم ما نلبث أن نتصرف فرادى بما لا يتوافق معه».

قرار استقالة الدكتور ناصيف حتّي من منصبه، وزير الخارجية في لبنان، نضج قبل ثلاثة أسابيع من إعلانه. ففي حينه، توصل حتّي إلى «قناعة بعدم وجود إصلاح شامل حقيقي، بل مجرد مراهم». الأمثلة على التخبط الحكومي وسوء الأداء كانت كثيرة، فهناك التوظيفات والتعيينات التي لم تراعِ الكفاءة، بل المحسوبيات، وهناك التدخلات السياسية في كل مفاصل العمل الحكومي. يقول حتّي: «كنت أناقش بداية، ثم بدأت أجلس ساكناً، لأني أدركت أن الإنجاز مستحيل، ولم أرد أن أكون شاهد زور». وهو يرى أن «المشكلة في لبنان أن انقسامات اللبنانيين منذ عام 1958 لم تكن خلافات يمين ويسار، بل كانت خلافات هوياتية، وكان لا بد من أن نختار بين أن نكون سويسرا الشرق أو هانوي الشرق».
- الاستراتيجية الدفاعية
شيء آخر ساهم في قرار الاستقالة، وهو السؤال الكبير حول «الاستراتيجية الدفاعية» (الكلمة اللبنانية الملطفة لوصف مشكلة سلاح «حزب الله»)، ومَن يملك قرار الحرب والسلم في لبنان، ومَن يملك قرار الرد على أي عدوان. برأي حتّي «يجب أن يكون هذا في مجلس الوزراء، لكن للأسف لم يكن هذا هو الواقع، بل بقينا كما الحكومات السابقة».
ويرفض حتّي أن يحمل المسؤولية في قرار استقالته لطرف واحد. وكان قد قيل الكثير عن أنه انزعج من تدخلات جبران باسيل في وزارة الخارجية، وفرضه مواقف عليه، وتأنيبه على أخرى، لكنه يقول: «السبب الحقيقي والأول لاستقالتي أنني أُصبت بخيبة أمل؛ كنت أتمنى أن نمضي بشكل حازم في عملية الإصلاح، وهذا رأيي وقناعتي. ولكن بدل الإصلاحات التي كنت أبحث عنها، وجدت أننا عدنا إلى منطق المحاصصة. وبدل المواجهة والرغبة في الإسراع بها، وجدت غير ذلك: التركيبة السياسية لم تقبل السير بالإصلاحات. أما التفسيرات التي قرأتها أو سمعتها في بعض وسائل الإعلام، فلا أساس لها».
- بطاقة هوية
ولد ناصيف يوسف حتّي في بلدة بصرما بقضاء الكورة، عام 1952، لعائلة مسيحية مارونية ميسورة. والده كان طبيباً معروفاً محبوباً في المنطقة، وكان من الطبيعي لناصيف -الابن الوحيد بين بنات- أن يحذو حذو والده، ويتسلم أعمال العائلة.
وهكذا، درس في مدرسة الإخوة المريميين (الفرير) في مدينة طرابلس، حيث نال شهادة الثانوية العامة في الفرع العلمي، لكن شغف الابن الدائم كان العلوم السياسية. ورضخ الوالد لـ«حلم» الابن، لكنه اشترط عليه أن يكمل حتى الدكتوراه. انتقل للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث تخصص في العلوم السياسية، ونال درجة البكالوريوس عام 1975، وبعدها الماجستير عام 1977، ثم حاز الدكتوراه بالعلاقات الدولية عام 1988 من جامعة جنوب كاليفورنيا.
- المسيرة الدبلوماسية
في عام 1981، رشحته الدولة اللبنانية للالتحاق بجامعة الدول العربية، فعيّن في مكتب الأمين العام للجامعة الشاذلي القليبي، حيث لفت المسؤولين عنها بنشاطه وقدراته. ومن ثم، عين أواخر 1999 مستشاراً دبلوماسياً للأمين العام -يومذاك- الدكتور عصمت عبد المجيد. وبعدها، انتقل ليصبح رئيساً لبعثة الجامعة العربية في فرنسا، والمندوب الدائم لدى «اليونيسكو»، ولدى المنظمة الدولية للفرنكوفونية في مطلع عام 2000 حتى عام 2013.
وبعد 13 سنة في ذلك المنصب، عاد إلى القاهرة ليشغل منصب مستشار الأمين العام للجامعة العربية -آنذاك- الدكتور نبيل العربي. ولاحقاً، أصبح رئيساً لبعثة الجامعة العربية في إيطاليا والفاتيكان، ومندوباً دائماً لدى منظمات الأمم المتحدة في إيطاليا، بين عامي 2014 و2015.
- التقاعد والحياة الأكاديمية
لما بلغ حتّي الثالثة والستين (سن التقاعد الوظيفي)، عاد إلى بيروت «المدينة التي تسكنه، رغم أنه لم يسكنها طويلاً»، وانخرط في الحراك المدني والأكاديمي.
يقول: «كنت أتصور أنه لا يمكن إلا أن أعود إلى بيروت». وبالفعل، عاد وعين مديراً للمعهد العالي للدراسات والعلوم السياسية والإدارية في جامعة الروح القدس في الكسليك بين عامي 2016 و2019، وكان قد مارس التدريس بصفة أستاذ غير متفرغ في الجامعة الأميركية القاهرة إبان فترة عمله فيها. وهو يقول إنه يحب أن يحاور طلابه ويناقشهم، ويسعى إلى أن يكون قريباً منهم ليفهم ما يحملونه من أحلام وآمال، وما يعانونه من عقبات، وما أكثرها في لبنان «البلد الطارد لأبنائه»، كما يصفه. وكان قد كتب مقالة ذات مرة عنوانها «الانتظار في الطريق إلى المطار»... ولعله أكثر من يعرفها، فولداه يعملان في الخارج أيضاً، ولهذا يتوزع قلبه بين بيروت ونيويورك وباريس.
إلى جانب ذلك، كان الدكتور حتّي، كما تقول سيرته الذاتية الرسمية «أستاذاً زائراً في الأكاديمية المتوسطية للدراسات الدبلوماسية في مالطة، وهو يحاضر في عدة جامعات غربية ومراكز أبحاث. ولقد صدر له كتابان، هما: (نظرية العلاقات الدولية - 1985)، و(العالم العربي والقوى الخمس الكبرى: دراسة مستقبلية - 1987)، وله أيضاً عدد من الدراسات والأبحاث في الشؤون الدولية والعربية نشرت في دوريات متخصصة. وهو يساهم بمقالات سياسية في عدد من الصحف العربية، وقد شارك في كثير من الندوات والمؤتمرات حول قضايا الشرق الأوسط وقضايا المتوسط والسياسة الدولية، وهو عضو في مراكز أبحاث تعنى بالقضايا الدولية وقضايا الشرق الأوسط».
- مزايا وهوايات وعادات
يتصف حتّي بشكل واضح بمزايا الرجل الدبلوماسي، فمسيرة 35 سنة في العمل الدبلوماسي جعلته «أكثر مرونة» في التعاطي مع قضايا حياته. كذلك فهو يحرص على تربية ولديه على مفاهيم حب لبنان «الذي يتعلقان به، كأي لبناني مخلص، رغم أنهما نشأ وتربيا في الخارج»، واصفاً علاقته بهما بأنها «ممتازة؛ علاقة صداقة وحوار، وليس سلطة وتسلط». والمضحك أن كمية النقد الأكبر التي كان يتلقاها خلال عمله وزيراً أتت من أولاده.
أما عن هواياته، فأبرزها المشي «الذي كان فقده من أكبر الخسائر خلال الأشهر الستة من عمر الحكومة»، إذ اضطر أن يتخلى عنه لصالح المشي على الآلات في المنزل، من دون أن يعني ذلك أنه لم يسرق لحظات يمشي فيها في محمية إهدن التي تكون مسرح حراكه اليومي في الصيف خلال وجوده في لبنان. ثم إن حذاء المشي ضيف دائم في سيارته طوال عمله الدبلوماسي، حيث كان السائق غالباً ما يعود من اللقاءات الرسمية وحيداً، بعد أن يتركه حتّي ليعود ماشياً سعياً لتحقيق الـ15 كيلومتراً اليومية التي يحافظ عليها. وعندما عاد إلى بيروت، كان مساره اليومي من منزله في الأشرفية (شرق بيروت) إلى الحمام العسكري في أقصى غربها.
يبدأ حتّي صباحه في السابعة، مع فنجان من القهوة، وقراءة سريعة للصحف، يختار منها المقالات المهمة كي يقرأها في الليل. وهو ما يزال يحب رائحة الورق وملمسه، ويفضل أن يقرأها كذلك، مع أن علاقته بالتكنولوجيا العصرية جيدة، ويستعملها للتواصل مع الأصدقاء والأبناء بشكل دوري.
ومن الهويات الأخرى السباحة في البحر، والجلسات مع الأصدقاء «التي نقلتها خلال عملي الحكومي إلى المنازل للحصول على أجواء هادئة تسمح بحوار صاخب... وخاص. ويجري هذا كله في جو من الالتقاء والاختلاف الهادئ... من يعمل 35 سنة دبلوماسياً، فمن الطبيعي أن يكون لديه مرونة في المقاربات». ومن المقاربات التي تعلمها حتّي من عمله الدبلوماسي أن «وظيفة الدبلوماسي لم تعد اليوم أن ينقل الصور المتعلقة بمكان عمله إلى دولته، فهذا بات من الأمور السهلة في عصر المعلومات، بل غدا التواصل مع القوى الحية في المجتمع الذي يمثل بلاده فيه سعياً إلى فهم حقيقي لواقع هذا المجتمع، وتأثيره على الدولة (أو المجموعة التي يمثلها في حالة حتّي)».
المفاهيم هذه حملها إلى عمله في وزارة الخارجية اللبنانية، فـ«البلدان الصغيرة تحتاج إلى دبلوماسية كبيرة» من أن أجل أن تحمي نفسها، وتحافظ على حقوقها، فالدول مهما كبرت لا تستطيع أن تعيش وحدها. وهنا، يعترف الوزير حتّي بأنه لم يأتِ إلى الحكومة حاملاً «أحلاماً وردية»، لكنه رأى فيه فرصة للمساهمة في إحداث تغيير ضروري وإصلاح نوعي، وكان يأمل بأن تكون خبرته التي تتضمن 35 سنة في العمل الدبلوماسي، وعضويته في مجموعات التفكير الكثيرة، سنداً له في العمل السياسي، لا سيما أن خبرته يتكامل فيها الجانبان الأكاديمي والعملي.
أما لماذا قبل بالمنصب، فببساطة لأنه «كان يعتقد أن التركيبة السياسية اللبنانية لم تعد قادرة على الوقوف في وجه التغيير الذي أصبح حاجة، ولم يعد ترفاً، فالطبقة الوسطى تتآكل... ولم يعد ثمة مصعد اجتماعي يرفع الناس من طبقة لأخرى، بل هبوط مستمر».
لقد دخل حتّي الحكومة، وساهم في البيان الوزاري. وهنا يعلق: «الفريق الحكومي كان مثل أسرتي، وقلت أمامهم أكثر من مرة إنه يجب أن نمضي بالإصلاح بشكل سريع لأن الوقت لم يعد في مصلحتنا، وإن المؤسسة السياسية اللبنانية محتاجة بقوة إلى إصلاح هيكلي فعلي». ولأن «مأساة لبنان تكمن في غياب مأسسة الدولة... في قناعتي، كان يجب أن نمضي في مواجهة سريعة. فإذا نجحنا، تكون ثمة حالة شعبية تدعمنا في مواجهة الطبقة السياسية، لكننا لم نمضِ في هذا الأمر، بل دخلنا في وعاء السياسة التقليدية، فتكبل عمل الحكومة، وفقدنا الزخم».
وحقاً، سياسته في الخارجية لخصها في خطاب التسليم والتسلم في وزارته، حين قال إن «الأسرة العربية تأتي أولاً». وهذا -من وجهة نظر حتّي- يذهب ضد أن يكون لبنان منخرطاً في صراعات المحاور. وهو يوضح: «كان همي أن يكون لبنان أكثر توازناً، وأن يعيد نفسه أكثر نحو العائلة العربية. يجب أن تكون هناك قواعد واضحة لجهة عدم التدخل بشؤون الآخرين»، ليخلص إلى القول: «إذا لم تكن لدينا سياسة ناشطة لرأب الصدع مع الدول العربية، من دون الانخراط في محاور، فلا أمل».