تانيا قسيس: الأغاني التي أقدمها هي بمثابة صلاة من أجل وطني

تشارك في حفل افتراضي تضامناً مع لبنان

الفنانة اللبنانية تانيا قسيس
الفنانة اللبنانية تانيا قسيس
TT

تانيا قسيس: الأغاني التي أقدمها هي بمثابة صلاة من أجل وطني

الفنانة اللبنانية تانيا قسيس
الفنانة اللبنانية تانيا قسيس

لم تتردد الفنانة اللبنانية تانيا قسيس في تلبية دعوة مكتب الأمم المتحدة في لبنان للغناء في حفل موسيقي افتراضي تضامناً مع لبنان. ففي 16 أغسطس (آب) الحالي ستطل قسيس في السابعة مساء بتوقيت بيروت للمشاركة في هذا الحفل لدعم جهود الإغاثة المستمرة في لبنان بُعيد انفجار بيروت.
تانيا التي عيّنتها الأمم المتحدة سفيرةً فخرية للكتيبة الكورية العاملة ضمن قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوب لبنان، كان قد سبق وتعاونت مع الأمم المتحدة. فهي غنّت منذ نحو سنتين «الأرض للجميع» التي أُطلقت تزامناً مع بدء الأمم المُتحدة العَمَل على تنفيذ أهداف التنمية المُستدامة الـ17 التي أقرّتها الجمعيّة العامّة لها. كَتَبَ الأغنية يومها فادي الراعي وتولّى ميشال فاضل تلحينها وتوزيعها. كما قدمتها قسّيس عالميّاً في المركز الرئيسي للأمم المُتحدة في جنيف.
ويأتي حفل التضامن مع لبنان إثر انفجار المرفأ في بيروت كلفتة إنسانية لحث كل من يحضره للتبرع لمنظمة الصليب الأحمر ولصالح الشعب اللبناني، عبر «رابط» يظهر على شاشة مشاهد الحفل في أي بلد كان. وكانت قسيس قد تلقت اتصالاً من سفيرة لبنان في الأمم المتحدة أمل مدللي، لتشارك في هذا الحفل.
ويرافق تانيا قسيس في الحفل الذي يستغرق نحو 30 دقيقة أوركسترا الموسيقى للأمم المتحدة من مركزها في أميركا. وتقول قسيس في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لقد وقفت على أحد أسطح عمارات بيروت المتضررة من الانفجار وقدمت أغنيتي (أفي ماريا) و(وطني) اللتين أعدّهما بمثابة صلاة أتضرع فيهما إلى رب العالمين ليرأف بلبنان وأهله بعد هذه الكارثة». وتتابع: «أخذت على عاتقي أن تشمل المشهدية كل ما يدور اليوم في بيروت من أنشطة إغاثة تتعلق بمدينة بيروت يقوم بها عدد من الشباب المتطوع في لبنان».
وتضيف تانيا قسيس في معرض حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «إننا كلبنانيين نمر بمرحلة دقيقة وقاسية نشعر فيها بالكثير من الحزن والإحباط لفقداننا أكثر من 150 شخصاً من جراء هذا الانفجار. كما أن مشهدية بيروت المدمرة تلمسنا عن قرب وتولّد عندنا الشعور بالأسف لما تتحمله هذه المدينة عبر الزمن».
وإضافة إلى أغنيتي تانيا قسيس ستعزف الأوركسترا مقطعين موسيقيين كلاسيكيين يعزفهما أفرادها كلٌّ من منزله في زمن التباعد الاجتماعي الذي تفرضه الجائحة.
وتوضح قسيس: «وقوفي على أحد أسطح منطقة الجميزة المدمرة يأتي للإشارة إلى الخسارة التي تكبّدتها مدينتنا على جميع الأصعدة من جراء هذا الانفجار. فهذا الحفل انتهينا من تسجيله مؤخراً ليكون جاهزاً للعرض مساء الأحد 16 الجاري».
وتجدر الإشارة إلى أن أغنية «آفي ماريا» يشاركها فيها معن زكريا وفارس مسعد. وتتضمن مقاطع غناء تمزج ما بين الترانيم المسيحية وأذان المسجد.
وحصدت تانيا عنها على جائزة الـ«موركس دور» كأفضل أغنية وطنية. أما أغنيتها الثانية في الحفل «وطني» فهي من تأليف وتلحين مروان خوري وتوزيع ميشال فاضل.
وتروي تانيا قسيس عن تجربتها الشخصية مع الانفجار وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «كنت بصدد تمرين بعض الأولاد في أكاديمية الفنون التي أملكها وأديرها في بيروت لحظة الانفجار. وكان الأمر قاسياً جداً سيما أن الأطفال لا يستطيعون تلقف واستيعاب ما يجري. وعندما عدت إلى منزلي في منطقة الأشرفية ناحية شارع السراسقة وجدته قد انقلب رأساً على عقب وقد تدمّر بعض أقسامه وتحطم زجاج نوافذه».
وعما إذا كانت تفكر في إقامة حفل موسيقي مع عدد من زملائها الفنانين اللبنانيين تضامناً مع بيروت تردّ في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «في الحقيقة جميعنا نشعر بحزن كبير وغالبيتنا لا نملك القدرة على الغناء. فما حدث كان قوياً جداً ولم يسبق أن شهدناه طيلة أيام الحرب. فأنا شخصياً أشعر كأني منفصلة عن الأرض وأعيش على غيمة خيالية أشاهد منها دمار بيروت كمن هو في كابوس بشع. فمعنوياتنا محبطة وإلى حين مرور وقت الحداد على ضحايانا وعلى مفقودينا قد نبدأ بالتفكير في إقامة حفل افتراضي فني تضامناً مع لبنان وأهله».
يُذكر أن تانيا قسيس سبق ووقفت على مسارح عالمية كثيرة مثل «الأولمبيا» في باريس و«دار أوبرا سيدني» في أستراليا وساحة دومو في مدينة ميلانو الإيطالية. كما تعدّ أول فنانة لبنانية تغني أمام رئيس جمهورية أميركا دونالد ترمب في عام 2017 ضمن حفل أقيم في السفارة الكويتية في أميركا.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)