«مطبخ البلد»... لمسة حنان في أحياء بيروت المدمرة

يوزع أطباق الطعام مجاناً على مئات المتضررين من الانفجار

نحو 600 طبق يومي يوزعها «مطبخ البلد» على المحتاجين
نحو 600 طبق يومي يوزعها «مطبخ البلد» على المحتاجين
TT

«مطبخ البلد»... لمسة حنان في أحياء بيروت المدمرة

نحو 600 طبق يومي يوزعها «مطبخ البلد» على المحتاجين
نحو 600 طبق يومي يوزعها «مطبخ البلد» على المحتاجين

لم يتوقف فريق «مطبخ البلد» منذ شهر أكتوبر (تشرين الأول) الفائت حتى اليوم عن القيام بمهمة إنسانية تحدثت عنها وسائل إعلام عالمية ومحلية. فهو منذ بداية ثورة 17 أكتوبر أخذ على عاتقه تأمين أطباق الطعام مجاناً للمتظاهرين. واستحدث خيمة في شارع مار مخايل ونقاط أخرى موزعة في وسط بيروت، لتوزيع الطعام مجاناً لكل محتاج.
اليوم وبعيد حصول انفجار مرفأ بيروت عمل «مطبخ البلد» إلى إعادة انتشاره في بيروت على نقاط رئيسية في منطقة مار مخايل والجعيتاوي وشارع آراكس. وانطلاقاً من هذه المحطات يمارس مهمته الإنسانية بحيث يقوم يومياً بتوزيع نحو 500 طبق ساخن وبارد على الناس. فكما المتطوعون لتنظيف شوارع الجميزة ومار مخايل هناك أيضاً سكان هذه الأحياء الذين يستفيدون مباشرة من هذه المبادرة القائمة على أسس إنسانية.
«الفكرة انطلقنا فيها بشكل تلقائي عندما وجدنا في مساعدة المتظاهرين ومساندتهم ضرورة كي يستطيعوا استكمال مسيرتهم مع التغيير الذي يطالبون فيه». تقول كرمى سويد صاحبة الفكرة والمتعاونة مع أصدقاء لها في تطبيقها على الأرض.
فهي وبمساعدة ثلاثة من أصدقائها أصحاب 3 مطاعم تقع في منطقة مار مخايل تطوعوا للقيام بهذه المهمة طالما هناك من يحتاجها.
وتتابع كرمى سويد في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «بداية انطلقنا من خيمة نصبناها وسط العاصمة ورحنا نوزع ساندويشات على أنواعها. بعدها ارتأينا تغيير نوعية الطعام كي يستطيع المتظاهرون الوقوف ومقاومة التعب لمدة طويلة. فاشترينا أوعية ضخمة ورحنا نحضر فيها أكلات لبنانية كاليخاني والمغربية والصيادية، وما إلى هناك من أطباق طعام مغذية يحبها اللبنانيون». وتروي كرمى سويد أن الناس من مقيمين وأجانب راحوا يتبرعون للخيمة بالمال كي يستطيعوا توسيع دائرة نشاطاتهم. «نحن فريق متعاون لا ميول سياسية عنده وهمّه التشبث بالأرض والوطن والحفاظ على أبنائه. هذه التبرعات التي وصلتنا أخذت تزداد يوماً بعد يوم إلى حدّ سمح لنا بتكبير دائرة التوزيع لتشمل أكثر من منطقة. وبعدها جاءت الجائحة لنتوقف كلياً عن تقديم هذه الخدمات. اليوم ومع تداعيات انفجار بيروت وعودة المتظاهرين إلى الساحة عدنا من جديد. وتطور عملنا ليشمل صناديق منتجات غذائية نوزعها على المحتاجين. وضعنا في هذه الصناديق الحبوب والمعكرونة والطحينة والزيوت وغيرها. ولكن مع سوء أحوال الناس وتدمير منازلهم من جراء الانفجار وفقدان قدرتهم على تخزين هذه المنتجات في غياب سقف يأويهم فضّلنا العودة إلى تأمين الطعام المجاني».
شرائح اجتماعية مختلفة تأكل من «مطبخ البلد» فكما الطلاب المتطوعون لتنظيف الشوارع والبيوت المتضررة، كذلك أفراد العائلات المهجرة من منازلها وسكان الحي الواحد. وتعلق كرمى سويد: «نوزع يومياً ما بين 500 إلى 600 طبق طعام ونطال أيضاً شريحة المسنين والمعاقين الذين نوصل إليهم الأطباق ساخنة إلى مراكز إقامتهم. كما هناك مؤسسة «ليبانيز فود بانك» التي تقوم بعملية الطبخ وتوصله إلينا لنوزعه بدورنا على المحتاجين مرات كثيرة». وتشير سويد إلى أن ذروة عملية التوزيع للأطباق شهدها «مطبخ البلد» في الأسبوع الأول من الانفجار. «حالياً بدأ الطلب على الأطباق يخف بعدما لملم ورمم عدداً من سكان المنطقة بيوتهم وصار في إمكانهم تأمين طعامهم بأنفسهم. اعتدنا العمل بجهد في بداية كل أزمة لتبدأ وتيرته بالتراجع مع الوقت. هي مشهدية تشبه تماماً واجب العزاء الذي يستمر لأيام قليلة ومن ثم كل منا يذهب إلى بيته». مبادرات فردية يتلقاها «مطبخ البلد» من قبل مزارعين وجزارين وغيرهم. «مؤخراً صرنا نتلقى صناديق فاكهة من خوخ وأجاص وتفاح، يقدمها مزارعون من البقاع. كذلك هناك «مؤسسة موسى» الخيرية التي لا تبخل علينا بتقديماتها التي تساعدنا على توسيع مساعداتنا لتطال أكبر شرائح اجتماعية ممكنة».
مواعيد توزيع الطعام تجري على دوامين، أحدهما يحصل في الثانية بعد الظهر فيما الثاني يجري في الرابعة عصراً. «كانت أحياء مار مخايل والجميزة مثال المناطق اللبنانية التي تعج بالساهرين والسياح الذين يحبون استكشاف معالمها التراثية. اليوم وصل فراغ منازلها إلى نسبة 70 في المائة من جراء الانفجار. وهو أمر يؤلمنا خاصة أننا نعيش في هذا الشارع منذ مدة طويلة ويحمل لنا معاني وطنية كثيرة». تقول كرمى سويد في ختام حديثها لـ«الشرق الأوسط».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».