«متحف سرسق» تحفة فنية سرقها الانفجار في بيروت

الخسائر الثقافية والمعمارية أكبر من أن تحصى

آثار الدمار في بهو متحف سرسق (أ.ف.ب)
آثار الدمار في بهو متحف سرسق (أ.ف.ب)
TT

«متحف سرسق» تحفة فنية سرقها الانفجار في بيروت

آثار الدمار في بهو متحف سرسق (أ.ف.ب)
آثار الدمار في بهو متحف سرسق (أ.ف.ب)

لا تزال خسائر «الانفجار الكبير» الذي هز بيروت، يوم الرابع من أغسطس (آب) عند الساعة السادسة وسبع دقائق مساء، عصية على الإحصاء. فالوقت هو لدفن الموتى، والبحث عن المفقودين تحت الركام، وإيواء مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم، وإزالة الركام. وأحدٌ حتى اللحظة لا يستطيع أن يتكهن بالكم الكبير للخسائر الثقافية والفنية والتراثية المعمارية.
وزارة الثقافة تقدر عدد البيوت التراثية التي تضررت، وبعضها أصبح آيلاً للسقوط، بين 150 و200 مبنى، وهو عدد هائل. وكانت المنازل المصنفة تحت هذه الخانة قبل الحدث الجلل عبئاً يصعب على الوزارة تحمله، فما بالك وقد ارتفع العدد بشكل هائل، وتضاءلت الميزانيات. بمقدورك أن تضيف إلى كل هذا، ما تضرر من مكتبات عامة وخاصة وغاليريات، وما تلف من لوحات ومنحوتات، وما فقد كلياً من آثار، وما أصاب المسارح والمعدات. وهذا كله يحتاج جردة كبرى، ووقتاً، وقد لا نصل أبداً إلى إحصاء نهائي واضح، نظراً إلى أن كثيراً مما نتحدث عنه هو أملاك خاصة، وكل سيعض على الجرح، ويتدبر أمره بنفسه.
وقد تكون المتاحف أول ما يخطر على البال، نظراً لأنها مفتوحة لعدد كبير من الزوار. فالمتحف الوطني نجا نسبياً، وبقيت موجوداته ومحفوظاته شبه آمنة، لكن المبنى، لا سيما واجهته الجميلة الشامخة، تعرضت لأذى شديد من عصف الانفجار.
أما المتحف الذي تعرض للأذى الأكبر، فهو «متحف نقولا سرسق» الذي تحول منذ افتتاحه الجديد عام 2015، بعد إعادة ترميمه وتوسعته وزيادة طوابق وأجنحة إليه على يد المهندسين اللبناني جاك أبو خالد والفرنسي جان - ميشال فيلموت، إلى تحفة معمارية في جماليته، هذا عدا مقتنياته الثمينة التي تعرضت هي أيضاً لأضرار بالغة.
وبعد ترميم استغرق 7 سنوات، وكلفة وصلت إلى 14 مليون دولار، يجد القيمون على هذا المتحف الذي يعد من بين الأشهر في العاصمة اللبنانية، أنه يعود مرة أخرى إلى نقطة الصفر. فقد عصف الانفجار -بالمكان الذي يبعد ما يقارب ميلاً عن المرفأ- بالنوافذ والأبواب المشغولة بعناية فائقة، وبالزجاج الملون الذي كان يمنحه سحراً خاصاً في الليل. كما أن الصالون الشرقي المميز في هذا القصر القديم الذي يعود بناؤه إلى عام 1912 قد تحول إلى حطام، ونجا السقف من الكارثة.
وتتحدث مديرة المتحف، زينة عريضة، عن نحو 70 قطعة فنية على الأقل كانت معروضة عندما وقع الانفجار، تضرر ما يقارب 25 منها، وبعضها تلف إلى الأبد.
ولمتحف سرسق مجموعة فنية ثمينة في مستودعاته، ترصد حركة الفن اللبناني الحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين. ولحسن الحظ، فإن المقتنيات الموجودة في المستودعات لم تصب بأذى، وهي عبارة عن مئات اللوحات والمنحوتات والأدوات الفنية، إضافة إلى مقتنيات أثرية. وواحدة من اللوحات التي خسرها المتحف، ومزقت بالكامل، لصاحب القصر نقولا سرسق، وكانت معلقة في الغرفة التي تضم مكتبه ومقتنياته. وهذه البورتريه كان بريشة الفنان الهولندي الشهير كيس فاندانجن.
وتقول إلسا حكيم، معاونة مديرة المتحف: «إن أول ما فعلناه بعد الانفجار هو لملمة القطع الفنية، ونقل المجموعات، ووضعها في مكان آمن لحمايتها. فالمتحف بات مفتوحاً، بلا أبواب ولا نوافذ، ولا يمكن ترك قطع ثمينة في المكان».
وتحدثت عن «متطوعين شباب، بعضهم متخصص في الفنون والمتاحف، جاءوا من تلقاء أنفسهم بعد وقوع الكارثة للملمة الزجاج، والمساعدة في توضيب القطع». وتشرح حكيم كيف أن «المصاعد التي تعطلت بفعل الانفجار زادت من صعوبة النقل، وكان على الشبان أن يحملوا القطع على ظهورهم ويصعدوا أو ينزلون بها الأدراج».
وربما يكون واحداً من الأخبار الجيدة، بحسب ما تقول عريضة، أن «بنية المبنى، بحد ذاتها، لا تزال متينة، وهو غير مهدد بالسقوط، بحسب المهندسين. لكن قسماً من الحيطان تهاوى، وبات يحتاج إلى إعادة ترميم». وتضيف عريضة: «نحن لا نزال في مرحلة لملمة الركام، ونكتشف الأضرار تدريجياً».
وكان متحف سرسق قد أغلق أبوابه بسبب الحجر الذي عاشه لبنان تحت وطأة وباء كورونا، وأعاد فتح أبوابه بالإعلان عن معرض جديد للفنان اللبناني جورج داود قرم. وحين وقع الانفجار، كانت هذه اللوحات التي ترجع إلى القرن التاسع عشر معروضة، وغالبيتها مرسومة بألوان الباستيل، وبينها رسوم تخطيطية. وقد نجا غالبيتها، فيما تضرر بعض آخر يحتاج إلى ترميم وعمل فني دقيق لإنقاذها.
وكان نقولا سرسق قد وهب قصره لوقف بلدية بيروت، ليكون معرضاً لأعمال فنية. وعام 1961، تحول إلى متحف. وعند بدء الحرب الأهلية اللعينة، تباطأ عمل متحف، ولم يعد يقتني الأعمال الفنية كما سابق عهده، ولكنه بقي صامداً حتى رصد له تمويل سخي وأعيد ترميمه ليكتسب حلة جديدة جذابة، تجمع بين العصري والتراثي، وألحق به مقهى ودكان لبيع التذكارات. وجاء الانفجار الأخير وكأنه قضى على 7 سنوات من العمل الدقيق الشاق. لكن إلسا حكيم تؤكد أن المتحف سيعود إلى ما كان عليه، وأن الاتصالات منذ انتشر خبر الأضرار الجسيمة التي حلت به تتوالى من مختلف أنحاء العالم لعرض المساعدة، والمساهمة في التمويل «ومن بين المتصلين مدير مركز جوروج بومبيدو في باريس، وثمة من اتصل من أستراليا وبريطانيا وأميركا وغيرها، وهناك مغتربون أيضاً متحمسون للمساهمة في إعادة إعمار المتحف».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».