معرض «اضطرابات» منحوتات مصنوعة بالفن والمعاناة

TT

معرض «اضطرابات» منحوتات مصنوعة بالفن والمعاناة

عُمق مفهوم الاضطراب يجعله شعوراً إنسانياً معقداً، وما من طريقة فنية للتعبير عنه سوى الغوص في أعماقه، والاستسلام لمفرداته التي اقتحم من خلالها النحات العراقي علي نوري عالماً «موحشاً» خلال محاولته المزج بين الاضطراب الإنساني للفرد ومعاناته، واضطراب العالم من حوله، لتصبح كل منحوتة في حد ذاتها صرخة وحيدة في عالم مضطرب نجح الفنان في سبر أغوار طبقاته العميقة و«تعرية» جنون العالم في آن واحد.
المعرض الذي يقيمه علي نوري في مركز إبداع قصر الأمير طاز، بحي الخليفة بالقاهرة، تحت عنوان «اضطرابات»، يضم 14 منحوتة من الجرانيت، يرسم كل منها عالماً مختلفاً لمفهوم الاضطراب الإنساني، وتداخله مع اضطراب العالم، من خلال رمزية مفهوم «الحركة الالتوائية» الذي أعطى كل قطعة فرصتها كاملة للتعبير عن اضطرابها الشخصي كأنها كائن حي مستقل في اضطرابه، غير أنها أيضاً تشكل جزءاً من لوحة الاضطراب الإنساني المتكاملة. وفور الدخول إلى قاعة العرض التي يغمرها عبق المكان التاريخي، هناك مجال للنظرة الأولى، أو لما يسمى «الانطباعات الأولية»، إذ إن رمزية الحركة التي اعتمدها الفنان للتعبير عن أفكاره أعطت منحوتاته قدرة أكبر على التعبير عن نفسها، ويمكن للزائر أن يشعر بذلك «الصرير» الذي تصدره الكائنات الجرانيتية الحية، وكأن أعضاء وعظام جسدها تحاول جميعها الدوران عكس اتجاهاتها الطبيعية.
عالم «الحركة الالتوائية» الذي صاغه الفنان أعطى لكل منحوتة خصوصيتها في التعبير عن آلامها، دون أن تنفصل كلياً عن رفاق الألم، مما فتح مجالاً واسعاً لإبراز مفهوم التشارك الإنساني، وكأن كل قطعة تدرك كحال الإنسان أنه مهما اختلفت مأساتها، فإن ثمة تشابهات في معاناتها يمكنها أن تكون جسراً للحوار والتواصل الإنساني. التداخل بين معاناة الإنسان الشخصية وقسوة العالم فكرة تبدو واضحة في المعرض الذي يستمر حتى نهاية الشهر الحالي، إذ حاول الفنان المزج بين معاناته الشخصية بصفته إنساناً، وبين مفهومه بصفته فناناً لـ«اضطراب العالم»، فقد ولد في العاصمة العراقية بغداد التي أقام فيها كثيراً من المعارض بين عامي 1986 و2003، وهو عضو نقابة الفنانين العراقية، وجمعية الفن العراقي، وحصل على كثير من الجوائز، منها الجائزة التشجيعية من وزارة الثقافة العراقية، والمركز الأول في مسابقة الوزارة عام 2002، والمركز الثالث لجائزة الفنان التشكيلي والنحات إسماعيل الترك عام 2001، وهو يعيش في مصر بالوقت الراهن، حيث أقام فيها كثيراً من المعارض، إذ يعد المعرض الحالي هو الثامن في مسيرته المهنية، والثالث في مصر. يقول علي نوري لـ«الشرق الأوسط» إن «منحوتات المعرض بالنسبة لي ليست مجرد عمل فني يُعبر عن اضطراب الإنسان وتداخله مع ما يحدث في العالم من حوله، إذ مَزجتُ فيها بين معاناتي الشخصية وعالمي الصغير وصولاً إلى العالم الأكبر، وحاولت من خلال التعبيرية والرمزية إبراز ذلك التداخل بين نفسية الفرد وعالمه، فلديّ مشكلاتي العائلية بصفتي إنساناً. فمثلاً، أولادي لديهم أبناء عمومة لا يرونهم، وهو ما شكل هذا الرابط بين الشخصي والعام، بدءاً من الاضطراب النفسي في عالمي الخاص وصولاً للمتغيرات الدولية التي تتجلى في الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي».
ورغم أن كل منحوتة تعبر بطريقتها الخاصة عن اضطرابها الشخصي، فإن التباين رسم منحنى تصاعدياً لمفهوم الاضطراب، وكأن «المنحوتات المأزومة» تصطف صعوداً على سلم، حيث تزداد حدة الصرخات صعوداً، فالمنحوتة أسفل السلم عبرت عن مستوى أقل من الاضطراب، بينما تعتلي قرينتها في الأعلى قمة الاضطراب، وهو ما يفسره الفنان علي نوري موضحاً أن «مفهوم (الحركة الالتوائية) ساهم في إبراز مستويات مختلفة من الاضطراب في كل منحوتة، وعزز ذلك التباين معايشتي لتلك المشاعر خلال العمل على القطع نحو 6 أشهر كاملة».
ويؤكد نوري أن المدة التي عكف فيها على نحت أعماله كانت أشبه بـ«المعسكر المغلق»، وهو «ما أدى إلى حالة استغراق واندماج كانت نتيجتها مستويات مختلفة من التعبير عن الاضطراب، فالمنحوتة التي أنهيتها أولاً تبدو أقل اضطراباً، كأنها بداية السلم التصاعدي للمشاعر، والخيط الأول للإمساك بما أشعر به، وبداية تدفق يعيد صياغة وقراءة الأفكار والمشاعر المتداخلة. وبالفعل، جاءت آخر منحوتة أكثر تعبيراً وعمقاً، وكأنها الأعلى صوتاً، بمعنى أنه مع خصوصية كل قطعة، فإنها مجتمعة تشكل غوصاً متأنياً تصاعدياً للتعبير عن مستويات وأشكال مختلفة من اضطراب الإنسان».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».