منبر القصِّ ومنصّة الشِّعر

الأول أكثر قدرة على تمثل الواقع الحياتي... وتخصص الثاني بالوزن والقافية جعل إنتاجه عزيزاً

منبر القصِّ ومنصّة الشِّعر
TT

منبر القصِّ ومنصّة الشِّعر

منبر القصِّ ومنصّة الشِّعر

تخبرنا المصادر التاريخية عن جوانب أكيدة نستشف منها أنّ الجاهلية في حياة العرب لم تكن تعني جاهلية الفكر والأدب البتة؛ إنما هي جاهلية إيمان ومعتقد واصطراع بين عادات ومعتقدات، بعضها مجسد في سجع الكهان، وبعضها الآخر غير محدد في صيغ من الأساطير والخرافات حول الكون والإنسان على وفق مفاهيم معينة وبهواجس شتى.
وواحدة من مظاهر العقل عند العرب في الجاهلية التقلب بين الإلحاد والإيمان، والمتمثل بوجود الأحناف جنباً إلى جنب اليهود والنصارى، مع وجود أصداء أديان أخرى كالزرادشتية والمندائية مثلاً. وصحيح أن قيم البداوة ومظاهرها كانت طاغية فلم تسمح لمثل هؤلاء بالمضي في التصومع المفضي إلى التفلسف داخل هذا المجتمع، غير أن في الأدب العربي حصيلة كافية تعكس أنماط التفكير بالواقع العقلي والروحي الذي كان متوفراً وقتذاك، وإن كان على نحو نزر.
ومن تلك الحصيلة الفكرية لدى العرب في جاهليتها ما عكسه الأدب من تمييز في الكلام بين قصٍّ وشعرٍ من دون حدود بينهما، فكانا يسترسلان على لسان العربي استرسالاً. ولئن كان أدبنا العربي حراً لا تؤطره قيود ولا تحده مواضعات، غدا العام الغالب منه هو القص والحكايا التي تغلغلت في الشعر والحكم والكهانة والخطابة والأمثال وأضرابها التي هي أهم مظاهر العقل العربي في الجاهلية.
ولأن القص هو الأكثر قدرة على تمثل الواقع الحياتي، محاكياً الحياة في أدق تفاصيلها، صار عمومياً بأساسات جمالية أرست قواعدها بقوة ومتانة في الأدب العربي، ومنها أساسان: أولهما: الاستناد إلى الحكاية، وثانيهما: تغلغل التخييل فيها. وهو ما نجد أمثلته في القص الشفاهي والكتابي على اختلاف أنواعه كالحكاية الخرافية والسيرة الشعبية والمقامة والرسائل والرحلات والمنامات والأمثال وغيرها.
والدليل على اتساع القص وتغلغله في كلام العرب أنّ الذات العربية معتادة على القص، تجده متاحاً على مائدة يومياتها باستمرار، ولأنّ العرب كانت تستحضر القص كجزء لا يتجزأ من تفصيلات حياتها، فلم يكن لديها من هو متخصص في فعل القص أو من هو ناقد لهذا الفعل بحسب عناصره، لأن الكل قادر على أدائه كوسيلة لتحقيق الحاجات اليومية.
وبالقص نُقلت تجارب الآباء للأبناء أو الأجيال للأجيال، فغدا هو المصدر الأول الذي عليه انبنى فعل التأرخة. وكان معيار الإجادة في القص يتوقف على الحكّاء وأسلوبه وعلى المتلقين ومدى انجذابهم له ومتابعتهم سرده. وفعل القص في الجاهلية متاح مباح في أي زمان أو أي مكان، لا لأنه شفاهي حسب؛ بل لأنه عام لا تخصيص فيه ولا تحديد.
أمّا الشعر فشكّل جانباً مخصوصاً من الأدب، لأنه إلى جانب احتياجه إلى الخيال والحكي احتاج إلى القافية والوزن اللذين هما أساس التخصص في نظم الشعر.
وهذا التخصص هو الذي جعل إنتاجه عزيزاً لا يؤتيه إلا من وُهب الفطرة والطبع اللذين بهما غدا المميز من الشعر معلقاً من المعلقات المذهبة، وصار لكل شاعر مجيد لقب به يُعرف كالمهلهل والصنّاجة، كما شُيدت للتباري فيه أسواق معلومة كعكاظ والمربد، فيها يحوز كل شاعر على مرتبة ما بعد أن يدخل في تسابق شعري ذي طابع فردي، فيُلقي قصيدته ليتم تقييمها من قبل محكمين هم أنفسهم شعراء نوابغ أو لهم باعهم في الدراية بكيفيات صناعة القصيدة.
ولقد عُرف محكمو الشعر في عصر التدوين منتصف القرن الثاني للهجرة باسم «علماء الشعر». وما كان للشعر أن يكون علماً لولا التخصصية في إبداعه، التي بسببها وضعت في الشعر كتب مهمة كطبقات الشعراء لابن سلام، والشعر والشعراء لابن قتيبة، ومعجم الشعراء للمرزباني، بينما لم تؤلف في القص كتب تهتم بنقده نظراً لعموميته وارتباطه بدقائق الحياة المعيشة، فلم يكن الحكاؤون على مراتب ولم تكن لهم أسواق يعرضون فيها بضاعتهم.
وحاولت بعض الكتب النقدية القديمة الجمع بين القص والشعر مثل كتاب «الصناعتين» لأبي هلال العسكري وكتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه؛ بيد أنها لم تضع للقص أصولاً وقواعد، ولم تتناوله نصاً مؤسساً، بل اقتصرت على تصنيف فنونه وتبويبها ومن ثم بقي الحكاء سائراً خلف الشاعر على عكس واقع الحال الذي كان في الجاهلية ومرحلتها الشفاهية.
وإذ خلا القص من الخصومات، صارت للشعر ميادين أخرى للاختصام، باركتها الحاضنة الثقافية وساهمت في إذكاء التباري الشعري فيها، فارتقى الشعر وصار فحولياً، ولم يعد تابعاً كما كان في الجاهلية، ولم تتأت هذه الفحولية للشعر إلا من أهمية علاقته بلغة القرآن وتأويله.
وبعد أن كان القص خيراً من الشعر وأشرف، صار الشعر خيراً من القص بينما تراجع القص، والمدهش أن هذا التشريف والارتقاء للشعر وذاك التراجع والتابعية للقص إنما كان على مستوى الحياة الرسمية وحاضنتها الأدبية، بينما ظل القص على المستوى الشعبي بلا حاضنة حراً في عموميته، مزدهراً بفنونه، لا سيما السير الشعبية التي صارت تلبي الحاجة المجتمعية.
وعلى الرغم من هذا الأثر الإيجابي الذي تركته الحياة السياسية على ذيوع الشعر، فإن لها تأثيراً سلبياً أيضاً تمثل في دخول النحل والوضع على الشعر الجاهلي، مما جعل كثيراً منه مشكوكاً في صحته، حتى عد طه حسين أغلب هذا الشعر هو من «انتحال الرواة واختلاق الأعراب وتكلف القصاص واختراع المفسرين والمحدثين».
وما كان للحاضنة الثقافية أن تقلب مسألة العموم والخصوص في القص والشعر لصالح الأخير، لولا استنادها إلى الكتابة التي بها حددت للأدب قوانين جديدة منها أنّ الحكاء ما عاد حراً في حكاياته وخيالاته، وإلا اتهم بالكذب والدجل.
وصار الحكاؤون ملزمين بمشروطيات جديدة، فلا مكان للمخالفين منهم في المساجد. ولم يعد أمام من يريد أن يساير الحاضنة الثقافية سوى أن يكون متحرياً متطلباتها. فصار على الحكاء أن يمتهن القص مرة بوصفه مؤرخاً وإخبارياً، ومرة أخرى يمتهنه مفسراً للقرآن وراوياً للشعر، ومرة ثالثة عالماً بالأنساب والأيام والأمثال ناقلاً خبرات قوم إلى قوم أو تجارب جيل إلى جيل أو مواعظ النابغين وحكمهم إلى الآخرين كي يفيدوا منها ناهيك عن حقيقة أن الموالاة للحاضنة الثقافية كانت قد جعلت مؤرخي الأدب يعترفون بالحكائين حين يكونون خاضعين خانعين، بينما يحجمون عن الاعتراف بهم حين يكونون واقعين خارج نطاق هذه الحاضنة.
هكذا حورب القص كتابياً ليظل أكثره شفاهياً شعبياً، ومع ذلك ظل محافظاً على أصالته، تتناقله الذاكرة الجمعية بوعي ولا وعي من جيل إلى جيل، بينما ظل الشعر على خصوصيته الكتابية، ربيب السياسة، يشتد كلما اشتدت السلطة والولاية والعصبية، ويكثر كلما كثر التنازع والتناحر، حتى بدا أكثر الشعراء إما ندماء للساسة وعلية القوم مدافعين عنهم أو مناوئين لهم ومعارضين لسياستهم موالين لساسة أو أقطاب غيرهم.
هذا الأمر جعل الشعر نخبوياً، فاعتلى الهرم الثقافي العربي، بينما قبع القص بعموميته بلا حظوة ولا نخبوية باستثناء نتاجات سردية دونها التاريخ الأدبي، كان مؤلفوها إما شعراء أو أدباء أو فلاسفة ممن وجدوا في السرد بغيتهم التي لا يستطيعها الشعر، متأثرين بما وفد إليهم من حكايات مترجمة كألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، فكتب المعري وابن طفيل وابن سينا وابن رشد رسائل رمزية، وكتب الهمذاني والحريري المقامات بنزعة اجتماعية، وكتب ابن جبير وابن بطوطة رحلاتهما الجغرافية سرداً.
وعلى الرغم من أن الجاحظ الذي هو أعظم حكاء عربي انقاد للحاضنة الثقافية فأعلى لواء الشعر؛ فإن هذا الشعر ظل في حاجة إلى القص فلا ديوان شعري إلا وهو يبتغي حكاء يسرده شارحاً مفرداته، ناسباً ألفاظه، مدللاً على أصل ما فيه من قصص وأخبار وأمثال.
هكذا استمر الأدب العربي يجمع التخييل بالحياة، حيث لا مستحيل مع السرد الذي هو الحياة نفسها بوصفها احتمالاً لا مستحيلاً.
وفي العصر الحديث، ظلت تراكمات السرد العربي، الشفاهية منها والكتابية، تعمل عملها في مختلف أجناس السرد، حتى إذا طرأت عليها تبدلات كانت بمثابة محصلات تستنهض تراكمات تاريخ القص العربي لدينا ومتأثرة بالسرد الغربي معاً.
واليوم تسعى سرديات ما بعد الحداثة إلى تأكيد ما أكده السرد العربي قديماً، وهي فاعلية التخييل في جعل السرد يتغلغل في الحياة بلا حدود أو مواضعات ليكون مجالاً حراً وخصباً للإنتاج الأدبي، وفي أي جانب من جوانب الثقافة الرسمية منها والشعبية.
ولا مناص من القول إن عمومية القص وشفاهيته وعفوية تشكله هي التي جعلته نصاً مؤسساً بوصفه أصلاً وجوهراً. بيد أن الحاضنة الثقافية ساهمت في تعزيز التأسيس للشعر بوصفه هو الجوهر عبر توكيد خصوصيته الصوتية التي قيّدها الخليل بن أحمد الفراهيدي بتفعيلات معلومة وبحور معمولة، ثم ساهم الأصمعي والجاحظ وابن قتيبة وابن قدامة وابن طباطبا والآمدي وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم من النقاد القدماء في وضع الحدود الموضوعية التي بتلاقيها مع الحدود الشكلية تكون القصيدة العربية الكلاسيكية قد أرست قالبها ودلت على فحولتها. ليكون (الشعر) هو السيد الذي تلبس العموم فعبر عنه، أما العموم (القص) فانزوى مخصوصاً جوهراً، واستمر فناً نمطياً لا يقبل البتة أن يتنازل للشعر عن عمومية الحكي وغيريته واحتمالية التخييل فيه.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.