هل تقلب جائحة «كوفيد ـ 19» معادلات انتخابات الرئاسة الأميركية؟

وسط اتهام ترمب للإعلام بالانحياز للديمقراطيين

هل تقلب جائحة «كوفيد ـ 19» معادلات انتخابات الرئاسة الأميركية؟
TT

هل تقلب جائحة «كوفيد ـ 19» معادلات انتخابات الرئاسة الأميركية؟

هل تقلب جائحة «كوفيد ـ 19» معادلات انتخابات الرئاسة الأميركية؟

من الواضح أن المعركة التي يخوضها الأميركيون في مواجهة الفيروس المسبب لجائحة «كوفيد 19» باتت مزدوجة. فمن ناحية هناك حرص على وقف تمدد الجائحة ووقف تأثيرها على حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية، لكن من ناحية أخرى بات توظيف تلك الجهود ينصب في كيفية تحويل هذا «النجاح أو الفشل» إلى أداة رئيسية في المعركة السياسية التي يخوضها الحزبان الجمهوري والديمقراطي للفوز في السباق الرئاسي والعام في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وغني عن القول أن كلا الطرفين يوظف ماكينته وأدواته الإعلامية للنيل من الطرف الآخر وتحميله المسؤولية عن الإخفاق الذي أدى إلى تصدر الولايات المتحدة قائمة الدول الأكثر تضررا سواء في عدد الإصابات أو الوفيات في العالم.

اتهمت وسائل الإعلام المحسوبة على التيار الليبرالي منذ بعض الوقت الجمهوريين والرئيس دونالد ترمب بأنهم يتحملون عبر «إدارتهم السيئة» المسؤولية الأكبر في تفشي جائحة كوفيد - 19 في الولايات المتحدة. وفي المقابل، صور الإعلام الليبرالي الديمقراطيين على أنهم تمكنوا من وقف التفشي، وخصوصاً في الولايات التي يسيطرون عليها.
هذا الكلام يرد عليه المتعاطفون مع الجمهوريين وترمب بأرقام تكشف عن مفارقات لا بد من التوقف أمامها، بمعزل عن تأييد أو معارضة هذا الطرف أو ذاك. فخلال الأسابيع الأخيرة وبعد إعادة فتح البلد، تفشى فيروس الجائحة في الولايات الجنوبية، وخصوصا تلك المحسوبة على الجمهوريين، وتجاوزت ولاية فلوريدا في أعداد الإصابات ولاية نيويورك، لتصبح الولاية الثانية الأكثر تضرراً بعد ولاية كاليفورنيا. غير أن أعداد الوفيات تكشف حقيقة لا يمكن تجاوزها، وهي أنه من بين 10 ولايات الأكثر تضرراً هناك 6 ولايات يحكمها الديمقراطيون مقابل 4 يحكمها الجمهوريون، مع أن أعداد الإصابات لا يمكن مقارنتها أيضاً.
وفقاً لبيانات جامعة جونز هوبكنز قبل نحو أسبوع، سجلت ولاية نيويورك وفاة 32645 ونيو جيرسي 15804 وكاليفورنيا 8455 وإيلينوي 7608 وبنسلفانيا 7131 وميشيغان 6405. وهي ولايات يحكمها الديمقراطيون. في المقابل توفي في ولاية فلوريدا 5931 وتكساس 5085 وأوهايو 3344 وأريزونا 3304 وهي ولايات يحكمها جمهوريون.
ولاية كاليفورنيا تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد الإصابات مع 453155 حالة، تليها فلوريدا بـ432747 ونيويورك بـ412344 وتكساس بـ394927. وتعكس الأرقام حجم هذه الولايات التي تعد الأكبر من حيث عدد السكان. لكن لماذا يصار فقط إلى تركيز الأضواء على الولايات الجمهورية، وخصوصاً من قبل وسائل الإعلام؟
هذا السؤال طرحه العديد من الخبراء والنقاد والمراقبين، من دون إغفال الجانب السياسي الدعائي سواء من هذا الطرف أو ذاك.
وإذا ما أضيفت إلى أرقام الكوفيد - 19 والتغطية الإخبارية «غير المتوازنة»، بحسب المدافعين عن الجمهوريين وترمب، فإن هؤلاء يرون أن التساؤل «المشكك» بصبح مشروعاً أكثر لدى النظر إلى التغطية المحتدمة للاحتجاجات المستمرة في عدد من الولايات الأميركية بعد مقتل جورج فلويد الأميركي الأسود على يد شرطي أبيض في مدينة مينيابوليس يوم 25 مايو (أيار) الماضي، وخصوصا في مدن بورتلاند وسياتل وأوستن. ووفقاً لمناصري ترمب من الجمهوريين واليمين المحافظ كل هذا يجب أن يسلط الضوء على «الأهداف الحقيقية لتلك الحملات».
وفي هذا السياق يقول الإعلامي المحافظ هيو هيويت في مقالة له في صحيفة «واشنطن بوست» الليبرالية «صدرت عناوين الصحف الرئيسية في الأسبوعيين الماضيين بتعابير «الفيروس التاجي يدمر فلوريدا لأن حاكمها الجمهوري رون دي سانتيس قام بتهميش الخبراء والأطباء ونفذ رغبة ترمب» أو «أن الجمهوريين يخشون المرشحين الديمقراطيين المغمورين في مجلسي الشيوخ والنواب... فالجمهور يتأثر في المقام الأول من خلال أنماط التقارب العميق بين الإنسان» بحسب قوله.
- رد ديمقراطي عاجز
في هذه الأثناء، يقول بعض المحللين الجمهوريين والمحافظين اليمينيين إن الحزب الديمقراطي «أظهر تخلفاً» في ردوده السياسية وفي اقتراحاته لمعالجة الأزمة، وبات همه الرئيس إسقاط ترمب في الانتخابات «من دون أن يتمكن من صياغة برنامج سياسي حقيقي يعيد تشكيل طبقته السياسية وتجديدها بعد الاهتراء الذي أصابها»، وعجز معها عن اختيار مرشح مناسب يستطيع إعادة توحيد الحزب «ويضع حداً للميول الشعبوية واليسارية الطفولية في صفوفه».
ورغم أن إعادة فتح الولايات قد أدى إلى عودة انتشار الكوفيد - 19. وخصوصاً في ولايات الجنوب، كان من الصعب تجاهل حقيقة أن التظاهرات الاحتجاجية، وكذلك التجمعات الانتخابية ساهمت هي أيضا في زيادة الانتشار. لكن كان من الواضح، وفق المتعاطفين مع ترمب، أنه جرى «تسييس» الجائحة سواء لحشد المعارضين الرئيس أو لتطويقه سياسيا بمشاكل ظهر بشكل واضح عدم وجود رغبة لدى الطرفين في احتوائها بشكل علمي ووطني، في ظل حالة من الانقسام السياسي الشديد، لم تعهدها الولايات المتحدة من قبل.
- «المنطقة الحمراء»
اليوم ثمة تحدٍ كبير لترمب والجمهوريين في ولايات أريزونا وفلوريدا ونورث كارولينا وويسكونسن، التي صوتت للرئيس عام 2016 واعتبرت «منطقة حمراء» (نسبة للون الأحمر الذي لون الجمهوريين) في ظل التفشي السريع للإصابات فيها. هذه الولايات بالذات تعد حاسمة بالنسبة لآمال ترمب في إعادة انتخابه، مع الإشارة إلى أن كاليفورنيا وفلوريدا سجلتا أرقاما قياسية للوفيات في يوم واحد. ويعتقد خبراء الانتخابات أن جزءاً كبيراً من المعركة الانتخابية الرئاسية سيقع في الولايات التي صنفها تقرير فيدرالي بأنها بين الـ21 ولاية التي سجلت العدد الأكبر من الإصابات.
ومن ثم، إذا فاز المرشح الديمقراطي المفترض جوزيف بايدن بالولايات التي فازت فيها هيلاري كلينتون قبل أربع سنوات، فإن فوزه في أي ثلاث ولايات من الولايات الست المتأرجحة في «المنطقة الحمراء» إضافة إلى ولايتي ميشيغان وبنسلفانيا - اللتين عانتا باكراً، لكن لم يضربهما الفيروس بشدة في الفترة الأخيرة - فسيكون ذلك كافياً لإلحاق الهزيمة بترمب.
وحقاً، تقوم العديد من الولايات بإعادة النظر في سياسات الاقتراع عبر البريد، كي لا يضطر الناخبون إلى الذهاب إلى مراكز الاقتراع مخاطرين بالتقاط العدوى. ولقد سمحت الولايات الست المتأرجحة دائماً بالتصويت السهل نسبياً عبر البريد، في حين ستسمح ثماني ولايات بهذه الوسيلة أو الاقتراع عبر شخص ثانٍ فقط مع عذر شرعي، وهي قضية خلافية كبيرة بين الديمقراطيين والجمهوريين.
- كوفيد ـ 19 أمام أعتاب الجمهوريين
ترمب، من جهته، ما زال يرفض نتائج استطلاعات الرأي التي تشير إلى تفوق بايدن عليه، مدللا على نتائجها السابقة عام 2016. ومقللاً من شأن الكوفيد - 19 وشدتها على الولايات المتحدة. غير أن وفاة هيرمان كاين، المرشح الرئاسي الجمهوري الأسود عام 2012 وصاحب سلسلة مطاعم للبيتزا متأثراً بالفيروس، جعلت الجمهوريين والرئيس ترمب يواجهان حقيقة أن كوفيد - 19 بات يقترب أكثر فأكثر من أعتاب منازلهم.
كين، كان بين كثرة من الجمهوريين الذين استخفوا بالفيروس، ومن أبرز المتصدرين لحملة دفاع ترمب عن رفض ارتداء الكمامة، والمتحمسين لإعادة انتخابه، متحديا إرشادات الصحة العامة. وفي المقايل، ترمب وصف كاين على تويتر بأنه «صوت قوي للحرية وكل ما هو جيد».
وفي الأسبوع الماضي، انضم روبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي، إلى قائمة الأشخاص المصابين بالفيروس، وهو من بين قلة لديهم إمكانية الوصول المباشر إلى الرئيس. كذلك انضمت إلى المصابين كيمبرلي غيلفويل، المعلقة السابقة اليمينية في شبكة فوكس نيوز التي تلتقي على الدوام بدونالد ترمب «الابن»، ابن الرئيس، وتنخرط بشكل مباشر في قيادة جهود حملة ترمب لجمع الأموال.
ومعلوم أن الجمهوريين كانوا ولا يزالون يتبنون شعارات تدعو للحفاظ على القيَم المحافظة للحرية الاقتصادية والحرية الشخصية، ويشككون في نصائح خبراء الصحة. وهم يرون أن مطالبة الشركات بالإغلاق أو تقييد قدرتها سيخنق الاقتصاد ولن ينقذ سوى القليل من الأرواح. ومن ثم، اتهموا وسائل الإعلام الإخبارية والمعارضين السياسيين بالمبالغة في المخاطر لإيذاء فرص الرئيس في إعادة انتخابه.
وفي خط موازٍ، يعتبر العديد من المدافعين المحافظين عن الرئيس، أن فرض ارتداء الكمامات والالتزام بإجراءات تقييدية أخرى تهديدا للحرية الشخصية وتدابير مبالغ فيها أيضا. وحسب كلام غروفر نوركويست، وهو ناشط محافظ يمارس الضغط من أجل تخفيض الضرائب واللوائح وعمل في مجلس إدارة «الجمعية الوطنية للبنادق»، إن استخدام وفاة هيرمان كاين لمهاجمة الجمهوريين أمر «يزيد عن حده». لكنه أضاف «هناك فرق بين عدم التحمس لما يقال لي ما يجب فعله، ورفض القيام بذلك تماماً... ولكن عندما تكون في الخارج، عليك ارتداء الكمامة».
- الديمقراطيون يسعون لنجاح ثلاثي
على الضفة السياسية المقابلة، لا تزال غير واضحة التقديرات حول انعكاسات جائحة كوفيد - 19 على السباق وعلى الغالبية في مجلس الشيوخ، أو تأثير اختيار بايدن لنائبته على سباقه مع ترمب أو على السباقات الفردية على مقاعد مجلس الشيوخ.
الديمقراطيون الذين يسيطرون راهناً على مجلس النواب يعتقدون أن بإمكانهم الاحتفاظ به في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، ويعتقدون أيضا أن الفرصة متاحة أمامهم لتحقيق فوز كبير والسيطرة على الغالبية في مجلس الشيوخ، عبر مرشحين يعتقدون أن بإمكانهم الفوز، وقد نجحوا في تنظيم حملة تبرعات قوية لذلك.
لدى الديمقراطيين حالياً 46 مقعدا في مجلس الشيوخ مقابل 51 للجمهوريين، وهم يسعون للظفر بما لا يقل عن أربعة مقاعد لضمان الغالبية، في حين يمكن لنائب الرئيس أن يكون الصوت المرجح في أي عملية تصويت داخل مجلس الشيوخ. والحال، أنه إذا تمكن الديمقراطيون من تحقيق الفوز في الانتخابات الرئاسية وفي مجلسي الشيوخ والنواب، فسيتمكنون من فرض سيطرة مطلقة على السلطتين التنفيذية والتشريعية معاً. وهذا يعني قدرتهم على تمرير العديد من القوانين، من دون الاضطرار إلى استخدام الرئيس لأوامره التنفيذية بشكل مكثف، على غرار ما قام ويقوم به الرئيس ترمب، منذ توليه الرئاسة عام 2016. لكن مع وجود الكثير من الضبابية في المشهد الانتخابي هذه السنة، لا تبدو الصورة واضحة لكيفية تحقيق ذلك.



«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
TT

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)

«لقد انتصرت روسيا اليوم في جورجيا... علينا أن نعترف بذلك»... بهذه الكلمات لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تخوض بلاده حرباً مفتوحة مع روسيا منذ 33 شهراً، المشهد في جمهورية جورجيا السوفياتية السابقة. وبالفعل، عكست عبارته البُعد الأوسع للصراع الانتخابي في البلد القوقازي الصغير، الذي تحدى منذ سنوات قيود الكرملين وانفتح على توسيع علاقات تحالف مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، فدفع أثماناً باهظة. ولا شك أن الانتخابات النيابية الأكثر سخونة في تاريخ جورجيا، شكّلت علامة فارقة في مسار تطور هذا البلد، الذي شهد كثيراً من التقلبات وخاض صراعات عدة، أسفرت في وقت سابق عن اقتطاع أجزاء منه. هذا الوضع أدّى إلى استفحال معركة سياسية داخلية حادة بين طرفين، يدين أحدهما بالولاء لـ«الحلم الأوروبي» التي ظل على مدى سنوات هاجساً لطموحات كثيرين رأوا أن تبليسي العاصمة يمكن أن تتحول إلى «باريس قوقازية» إذا نعمت بالأمن والاستقرار، وفقاً لمقولة رئيسة البلاد سالومي زورابيشفيلي. وفي المقابل، ثمة طرف آخر حظي بدعم كامل من جانب الكرملين، يؤكد على ضرورة المحافظة على علاقات وثيقة مع روسيا، رافعاً شعار «الحلم الجورجي» بديلاً عن الأحلام الطامحة لتحالفات مع أوروبا و«الناتو».

فاز «الحلم الجورجي» في الانتخابات العامة بجورجيا، التي أثير حولها كثير من الشكوك، بعد اتهامات واسعة بوقوع عمليات تزوير وحشو صناديق، وتأثير دعائي وتدخّل مالي واسع من جانب مؤسّس «الحلم» رجل الأعمال الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي. وهو شخصية مقرّبة من الكرملين، ويطلق عليه الجورجيون لقب «سيد جورجيا» كونه يدير فعلياً - من وراء ستار التمويل والدعم الواسع - الحكومة التي تدير شؤون البلاد منذ عام 2012.

وفق نتائج فرز الأصوات، حصل حزب «الحلم الجورجي» الحاكم على نحو 54 في المائة من الأصوات، مقابل أقل بقليل من 38 في المائة لتحالف المعارضة، الذي يحظى بدعم رئيسة البلاد، سالومي زورابيشفيلي، في الجمهورية التي يقوم الحكم فيها على نظام شبه رئاسي.

عندها، سارعت المعارضة، التي كانت توقّعات سابقة رشّحتها للفوز بأكثر من 52 في المائة من الأصوات، إلى رفض النتائج، وأعلنت أنها لن تشارك في جلسات البرلمان المنتخب على أساسها. ومع اشتعال مظاهر الاحتجاج في الشارع، بدا أن معركة دستورية وقانونية قد انطلقت للتوّ، إذ رفضت «لجنة الانتخابات» التشكيك بنتائج عملها، واستندت إلى دعم واسع من جانب الحكومة، التي حرّكت بدورها النيابة العامة لمواجهة تحالف المعارضة. بل شكّل استدعاء رئيسة البلاد للمثول أمام النيابة العامة من أجل تقديم أدلتها على اتهامات التزوير، تطوراً جديداً ولافتاً قد يمهد للإطاحة بها، وتقويض سلطات الفريق الذي يدعم «الحلم الأوروبي» نهائياً.

«تحدّي» الأدلة الواضحةباختصار، إذا لم تنجح زورابيشفيلي في تقديم أدلة واضحة ومقنعة على وقوع انتهاكات، فإنها ستواجه اتهامات قضائية بالخداع وتضليل الجورجيين وإطلاق اتهامات غير مُثبتة ضد أركان الدولة، بما فيها الحكومة والجهاز الانتخابي.

هنا يقول أنصار الرئيسة إن الهدف هو القضاء نهائياً على هذا التيار. وفي المقابل، تحذّر الحكومة من أن «المهزومين في المعركة الانتخابية يعدون لانقلاب دستوري كامل من خلال مقاطعة البرلمان وشلّ حكومة البلاد وتعيين حكومة تصريف أعمال تقنية».

وهكذا، اشتعلت الآن المعركة الداخلية، والشارع لا يكاد يهدأ، والمخاوف تعاظمت من مواجهات قد تسفر عن صراع داخلي دامٍ يعيد إلى الأذهان الأوضاع المعقدة التي خاضتها جورجيا خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال.

امتداد معركة أوكرانيا

الرئيسة زورابيشفيلي (تاس)

كان من الطبيعي أن تشكّل التطورات الساخنة في جورجيا حلقة متجددة في الصراع المحتدم بين روسيا والغرب. وطوال سنوات كان ينظر لجورجيا ومولدوفا (مولدافيا) المجاورة على أنهما ستكونان «ساحتي» المواجهة المقبلة بعد «إنجاز» مهمة الكرملين في أوكرانيا.

ومع أن الحكومة الجورجية نجحت في النأي بنفسها حتى الآن عن الصراع الدامي في أوكرانيا، ورفضت الانخراط في تنفيذ رزم العقوبات المفروضة على موسكو التزاماً بموقفها الداعي إلى التقارب مع الكرملين. وتحسباً لوصول نيران الحرب إلى الداخل الجورجي، وصل الانقسام الحاد في المجتمع الجورجي إلى «لحظة الحقيقة»، كما يقول ساسة جورجيون. ويبدو أن نتائج الانتخابات والتداعيات المنتظرة مع احتدام المواجهة الداخلية ستدفع أكثر إلى تعاظم التأثير الخارجي على البلاد، من طرفي روسيا والغرب.

لقد ظهرت أولى تلك التداعيات مباشرة بعد ظهور النتائج، إذ تلاحقت ردود الفعل الغربية الداعية إلى التحقيق في «الانتهاكات» مقابل تزايد الشعور بالنصر في روسيا، التي طغت فيها مقولات تؤكد هزيمة التيار الموالي للغرب في جورجيا، وأن الجورجيين اختاروا «الطريق الروسي».

يبدو أن نتائج الانتخابات ستدفع أكثر نحو تعاظم التأثير الخارجي على جورجيا من روسيا والغرب

وفي هذه الظروف، برزت تحركات رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الذي يوصف بأنه «رجل بوتين في الاتحاد الأوروبي»، لتظهر مستوى امتداد المواجهة الروسية الغربية إلى جورجيا حالياً. فقد سارع أوربان إلى تهنئة الحزب الحاكم بـ«الفوز المقنع»، وتوجّه فوراً إلى تبليسي ليظهر دعمه الكامل. وبعكسه، دخل زيلينسكي على خط التوقعات المتشائمة بعد الانتخابات، فوجّه رسالة تحذيرية للغرب بأن خسارة جورجيا تعني «الهزيمة أمام الكرملين». إذ كتب الرئيس الأوكراني: «علينا أن نعترف بأن روسيا انتصرت اليوم في جورجيا. في البداية، استولوا على جورجيا، ثم غيّروا سياستها، وغيّروا الحكومة. والآن هناك حكومة مؤيدة لروسيا، وخيارها هو عدم الذهاب إلى الاتحاد الأوروبي. لقد غيّروا موقفهم. لقد فازت روسيا اليوم. سلبوا حرية جورجيا».

مولدوفا... المحطة التاليةفي حال لم تكن جورجيا كافية للغرب، يحذّر زيلينسكي من أن مولدوفا ستكون الاستحواذ التالي لروسيا، محذراً: «سترى أن روسيا تسير في الاتجاه ذاته. إنهم يريدون أن يفعلوا الشيء نفسه، وسيفعلونه إذا لم يوقفهم احد (...) الغرب يواصل التلويح بالخطوط الحمراء، لكنه لا يفعل شيئاً، وإذا استمر هذا الخطاب، فسيخسر مولدوفا خلال سنة أو سنتين».

ولكن، تعليقاً على هذه الكلمات، كتب المعلّق السياسي في وكالة أنباء «نوفوستي» أن «هذا يعني أن كييف تخيف الغرب الآن، ليس بالدبابات الروسية فقط في وارسو وبوخارست، بل بخسارة جورجيا ومولدوفا أيضاً». ويرى المحلل أن «روسيا لم تنتصر في جورجيا، ولم تُخضعها، بل انتصرت المصالح الوطنية والحسابات الرصينة في جورجيا. وبطبيعة الحال، ساعد الضعف العام للاتحاد الأوروبي والغرب كله، في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ كانوا يرغبون في تغيير السلطة في تبليسي».

هذا السجال يظهر واقع الحال في ساحة المواجهة الجديدة بين روسيا والغرب، وسط توقعات بأن تكون الانتخابات البرلمانية الحالية حاسمة بالفعل لمستقبل جورجيا المنقسمة بين معارضة مؤيدة لأوروبا، وحزب حاكم موالٍ لروسيا... ومتهم بالانحراف نحو السلطوية. هذا، بينما تمارس موسكو تأثيراً على الناخبين والنتائج.

رأي تقرير أميركيعلى صعيد متصل، رأى تقرير لـ«معهد دراسة الحرب» في واشنطن، أن الكرملين ركّز جهوده للتأثير على الانتخابات لمساعدة حزب «الحلم» الحاكم على الفوز، وبالتالي إعادة تأسيس النفوذ الروسي على جورجيا بشكل كامل.

ويشير التقرير، في هذا السياق، إلى مخاوف حقيقية من تحوّل مؤسس حزب «الحلم» ورئيسه بيدزينا إيفانيشفيلي، إلى «لوكاشينكو جديد»، في إشارة إلى الرئيس البيلاروسي وحليف موسكو الأوثق ألكسندر لوكاشينكو.

ومن ثم، يلفت التقرير إلى أن موسكو استخدمت على مدى سنوات مجموعة من الوسائل للوصول على هذه النتيجة، أبرزها العمل العسكري المباشر من خلال احتلال أراضي أبخازيا وأوسيتيا الجورجيتين منذ عام 2008. كذلك، يدعي التقرير أن الكرملين استخدم وسائل الضغط الاقتصادي كرسوم الاستيراد المرتفعة والجمارك حتى العقوبات المباشرة على جيرانه الجورجيين لثنيهم عن مساعيهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ما سبق ذكره، عمد الكرملين - وفقاً للتقرير - منذ شهور إلى إطلاق حملات إعلامية مباشرة في جورجيا، تصوّر روسيا على أنها قوة استقرار، وتروّج لفكرة أن الحكومة الجورجية المؤيدة لروسيا هي الخيار الأفضل لمستقبل جورجيا.

طبيعة جورجيا الجميلة (غيتي)

 

حقائق

جورجيا: استقلال مخضّب بالثورات والدماء

جورجيا كانت بجبالها الشاهقة وسواحلها على البحر الأسود تعد «لؤلؤة» الدولة السوفياتية في زمان مضى. وكانت منتجعاتها الساحرة تعد على مرّ العصور محطّ الأنظار، ومقرات الراحة والضيافة للقياصرة والزعماء، الذين تعاقبوا على مقعد الحكم في الكرملين.

نجحت هذه الجمهورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في أن تخطو سريعاً، مثل جمهوريات حوض البلطيق، نحو بناء حكم جديد قضى على الفساد المستشري المزمن، وكرّس مبادئ تداول السلطة وبناء دولة حديثة. إلا أنها، رغم ذلك، ظلت حبيسة أقدار التاريخ والجغرافيا. ولم تصلح مظاهر السيادة والعلم والنشيد الوطني ومشاعر سكان الجبال التواقة إلى الاستقلال، في تجاوز حقيقة أن هذا البلد الصغير يشكل امتداداً طبيعياً لمنطقة النفوذ الروسي في جنوب القوقاز.

التطورات التي شهدتها جورجيا خلال تاريخ قصير من «الاستقلال» أظهرت صعوبة تخلص بلد صغير ومحدود الموارد من هيمنة «الأخ الأكبر». فالبلد الذي أعلن انفصاله عن الاتحاد السوفياتي قبل أشهر معدودة من إعلان الوفاة الرسمية للدولة العظمى في السابق، سرعان ما خاض حرباً أهلية دامية، قادت بعد سنوات إلى انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدعم روسي. وتم تكريس أمر واقع جديد، عزّز وجود القوات الروسية في الإقليمين. ولم تمر سنوات قليلة بعد ذلك حتى جاءت «ثورة الزهور» التي أطاحت الرئيس الجورجي الأول، إوارد شيفارنادزه، ووضعت خططاً للتقارب مع الغرب.

هذه الأحداث، إلى جانب اتهامات بتورّط جورجيا في «حرب الشيشان الثانية»، أدت إلى تدهور حاد في العلاقات مع روسيا. وغذّى هذا النزاع أيضاً دعم ومساعدة روسيا المفتوحة لانفصال الإقليمين. ولم تنجح الاتفاقات التي أبرمها الطرفان في ظروف معقدة للغاية في تخفيف حدة التوتر، برغم التزام موسكو بتنفيذ بنود حول سحب القواعد العسكرية الروسية (التي يعود تاريخها إلى العهد السوفياتي) من محيط مدينتي باتومي وأخالكالاكي. إذ جاءت الحرب الروسية الجورجية صيف عام 2008 لتكرس اقتطاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية نهائياً بعدما وصلت الدبابات الروسية إلى العاصمة تبليسي في غضون 3 أيام من المعارك الضارية، التي أجبرت الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي على الاستسلام بوساطة أوروبية، قضت بالقبول بالأمر الواقع الجديد من دون الاعتراف رسمياً باستقلال الإقليمين، اعترفت بهما روسيا وعدد محدود من حلفائها، في مقابل انسحاب القوات الروسية من الأراضي الجورجية.

هذه الخلفية مهّدت للمواقف الجورجية لاحقاً، لجهة دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. لكن في الوقت ذاته، برز تيار واسع داخل جورجيا حظي بدعم الكرملين، وطالب بالانكفاء عن «الحلم الأوروبي» وتعزيز الروابط مع الجارة الكبرى روسيا. وردّد أصحاب هذا التيار مقولة تعكس تنامي القلق من أن تلاقي جورجيا مصيراً مماثلاً لأوكرانيا في حال واصلت عنادها وتحديها لواقع الجغرافيا ودروس التاريخ.