عين معاصرة تعيد اكتشاف الفنون التاريخية بالأقصر

عبر معرض تشكيلي دائم بـ«البر الغربي»

لوحة الفنانة إيناس عمارة مستوحاة من معبد الأقصر (إدارة  معرض فنون الأقصر)
لوحة الفنانة إيناس عمارة مستوحاة من معبد الأقصر (إدارة معرض فنون الأقصر)
TT

عين معاصرة تعيد اكتشاف الفنون التاريخية بالأقصر

لوحة الفنانة إيناس عمارة مستوحاة من معبد الأقصر (إدارة  معرض فنون الأقصر)
لوحة الفنانة إيناس عمارة مستوحاة من معبد الأقصر (إدارة معرض فنون الأقصر)

على مقربة من تمثالي «ممنون» العملاقين، يقع غاليري «الأقصر آرت غاليري» الذي تأسس قبل نحو عام مُحتفظاً بكيانه وموقعه المميز داخل منطقة «البر الغربي» بمدينة الأقصر جنوب مصر، إلا أن عروضه الفنية انتقلت أخيراً إلى الفضاء الإلكتروني بعد أن أثرت جائحة «كورونا» على حركة زوار وسائحي تلك المدينة التاريخية المعروفة بمدينة «الشمس».
وقد شغلت الكاتبة والفنانة الأميركية دومينيك نافارو خلال زياراتها الطويلة لمدينة الأقصر تساؤلات عن تلك العلاقة بين الفنان المصري القديم الذي ملأ جدران المعابد والأحجار بنقوشه، وبين الفنان المصري المُعاصر حفيد ذلك الإبداع البصري، وخلال رحلة بحثها تعرفت دومينيك على العديد من الفنانين المعاصرين في الأقصر، تقول: «لقد بحثت عن فنانين معاصرين في الأقصر لسنوات، وأنا أحاول فهم معنى الفن المعاصر في مدينة بعراقة الأقصر وتاريخها التي ما زال السائحون يأتون إليها من جميع أنحاء العالم لمشاهدة المعابد والمقابر، وسط رهبة النقوش وتماثيل المصريين القدماء».
وتقول نافارو لـ«الشرق الأوسط»: «ما اكتشفته تدريجياً هو أن الفن حي ومزدهر في الأقصر رغم قلة فرص عرضه، فرغم زخم حركة الفن المعاصر في مصر، ولكن نادراً ما توجد أي فرص لمشاهدة مثل هذه الأعمال في الأقصر، مع وجود عدد قليل من المعارض المؤقتة في أماكن محدودة كل عام، لذلك فكرت أن الأقصر بحاجة إلى معرض فني دائم ومعاصر، وكان القرار بافتتاح معرض فنون الأقصر».
ومع تفشي جائحة «كورونا» تم تفعيل نشاط المعرض إلكترونياً بتقنية العرض الافتراضي، كما تقول دومينيك نافارو، مؤسسة «الأقصر آرت غاليري»: «فضلنا نقل نشاط الغاليري حاليا إلى العالم الافتراضي، خصوصا أن حركة السياحة الآن منخفضة للغاية، لذلك فتلك الخطوة يمكنها أن تُبقي على هذا المشروع الفني الحديث إلى حين تستقر الأمور من جديد كما نأمل».
وقد تم أخيراً إعادة افتتاح أربعة من المواقع الأثرية بالأقصر بعد إغلاق دام نحو ثلاثة أشهر، حيث تم إعادة فتح معابد الكرنك والأقصر شرقاً، ومقابر وادي الملوك ومعبد الملكة حتشبسوت بالبر الغربي، بعد تأكيد وزارة السياحة المصرية الانتهاء من تنفيذ تدابير السلامة الاحترازية الخاصة بافتتاح المناطق الأثرية، ضمن خطتها لتجنب تفشي فيروس «كورونا».
وتتسم عروض غاليري الأقصر بغنى فني لافت، يتخذ من فنون مصر القديمة والتراث المحلي بصعيد مصر خيطاً مشتركاً يجمع المشاركات الفنية به من مختلف الأجيال، معظمهم لفنانين مقيمين بالأقصر أو الذين يجمعهم حب لتلك المدينة القديمة سواء من مصريين أو فنانين أجانب، من بينها أعمال الفنان المصري علاء عوض المقيم في الأقصر، التي تزخر بسرديات مصر الفرعونية، والتراث الحي للحياة الريفية التي لا تزال قائمة في الضفة الغربية بالأقصر، ومن بين أعماله في المعرض لوحة تحاكي الطقوس الجنائزية في مصر القديمة، وكذلك يعرض الغاليري بورتريهات فوتوغرافية للفنان المصري خالد أبو الدهب المعروف ببورتريهاته النوبية التي يقترب فيها من جماليات وجوه النوبة من مختلف الأعمار، كما يعرض الغاليري عددا من لوحات الفنانة إيناس عمارة التي تجد في معالم الأقصر ومعابدها والمناظر الطبيعية النوبية عالماً بصرياً بانورامياً خصباً.
وخلال الجولة الافتراضية لأعمال الغاليري، تسكن دائماً القصص والحكايات وراء إلهامات فنانيها، ففي لوحة للفنانة التشكيلية المصرية شذى خالد، تبرز عرائس محلية من القماش وكأنها جزء من حكاية محلية، وتقول عنها شذى خالد لـ«الشرق الأوسط»: «استوحيت تلك اللوحة من أطفال البر الغربي بالأقصر، الذين يقومون منذ الصغر بتعلم صنع العرائس من الأقمشة، فقد تعلقت جداً بهذا النوع من الفنون بما فيه من فطرة وقيمة جمالية عالية، فاستوحيت من تصميم الأطفال لعرائسهم المفهوم الفني لعملي هذا، وخاصة من طريقة حياكتهم للعرائس وتفاعلهم مع قصاقيص الأقمشة، لذلك أضفت إلى الرسم أيضاً عنصر الكولاج بالخيط والقماش، وكأنني أقدم مع هؤلاء الأطفال عملا مشتركاً».
وما زالت تسكن أرض الأقصر (طيبة) قديما حكايات وميثولوجيا مصر القديمة التي لا تكف عن إدهاش فناني العالم، يستلهم الفنان التشكيلي المصري مصطفى سيف النصر لوحتين له معروضتين في الغاليري من الحكايات التي ارتبطت بتمثال الإلهة «سخمت»، التي يوجد لها تماثيل في البر الغربى بالأقصر، وكان المصريون القدماء يطلقون عليها إلهة الحرب، في رمز للقوة النارية للشمس، يقول عنها مصطفى سيف النصر في كلمته لـ«الشرق الأوسط»: «حاولت من خلال لوحتي التعبير عن مشاعر الغضب والرعب المحيطة بأسطورة سخمت مستعينا بالتوظيف اللوني لدرجات اللون الأحمر، علاوة على الظلال التي تقترب من الإحساس بالنار والحرارة، وفي لوحة ثانية لفت نظري في إحدى المرات رؤية سائحين مذهولين أمام تمثال سخمت، فحاولت التقاط هذا الاقتراب ما بين مشاعر المتلقي الحديث وقوة سخمت عبر الزمن».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».