تونس... المشهد السياسي بعد سقوط الفخفاخ

نظام برأسين تصدّع... فهل تنجح محاولات ترميمه؟

تونس... المشهد السياسي بعد سقوط الفخفاخ
TT

تونس... المشهد السياسي بعد سقوط الفخفاخ

تونس... المشهد السياسي بعد سقوط الفخفاخ

«لم تعرف البلاد أزمة أخطر وأكثر تعقيداً من وضعها الحالي... وهناك مؤامرات داخلية وخارجية خطيرة جداً تحاك ضد الدولة ومؤسساتها...».
هكذا شخّص الرئيس التونسي قيس سعيّد المشهد السياسي الجديد في تونس بعد توتر علاقته بقيادة حزب «حركة النهضة» والبرلمان، والتوتر بين الأطراف السياسية بعد استقالة حكومة إلياس الفخفاخ، وبروز مؤشرات لما وصفه «تورط جهات محلية وأجنبية» في النيل من المؤسسات الشرعية للدولة وتعطيل سير البرلمان وعدد من كبريات مؤسسات الدولة الاقتصادية... قبل أن يتوعّد بالرد بقوة على تلك الجهات المتهمة بالتآمر.
فما هي ملامح المشهد السياسي التونسي الجديد بعد التصعيد بين قصري الرئاسة والبرلمان والائتلاف الحكومي السابق وانطلاق مسار تشكيل الحكومة التي ستعوض حكومة الفخفاخ؟ وكيف سوف تتطور العلاقة بين الكتل البرلمانية والسياسية المتصارعة في الحكومة والبرلمان ونقابات العمال ورجال الأعمال؟
اهتم المراقبون السياسيون بتعاقب تهديدات الرئيس التونسي قيس سعيّد لخصومه ومنافسيه في كلمات مصوّرة، لوّح فيها باستخدام كل الأسلحة ضدهم. كما توقف عدد من أبرز المحللين، مثل الوزير السابق والمؤرّخ عدنان منصر، عند عدد من الملاحظات حول تطوّر الخطاب السياسي للرئيس، مثل توجيه تهديداته المباشرة وغير المباشرة لقيادات البرلمان وحزب «حركة النهضة» من ثكنات الجيش ومقرات وزارتي الدفاع والداخلية وبحضور كبار المسؤولين فيها. وسجل هؤلاء تعمده تغييب رئيس البرلمان عن اجتماعات حضرها معظم أعضاء «مجلس الأمن القومي» من كبار القيادات العسكرية والأمنية، وهو ما اعتبره عدنان منصر «ممارسة غير دستورية».
ولقد ربط المراقبون بين هذا التغييب وكلام سعيّد عن «وجود رئيس واحد للبلاد»، ومعارضته في تصريحات صيغة «الرؤساء الثلاثة» التي يستخدمها الساسة والإعلاميون في تونس منذ 2011 عند الحديث عن رؤساء البرلمان والحكومة والجمهورية. إلا أن نور الدين البحيري، وزير العدل الأسبق والقيادي في «النهضة» علّق على كلام سعيّد قائلاً: «لدينا رئيس جمهورية واحد انتخبناه، لكن لدينا كذلك رئيس برلمان منتخب، ورئيس حكومة زكّاه البرلمان المنتخب مع فريقه، بصرف النظر عن الأسماء».

«معركة كسر عظام»
أيضاً، سجل عدد من الباحثين المتخصصين في تصريحات لـ«لشرق الأوسط»، بينهم وزير الثقافة الأسبق المهدي مبروك، والأكاديمي زهير إسماعيل، والحقوقي أيمن البوغانمي «تزايد تأثير التيار الشعبوي» سياسياً في تونس منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الماضية، ثم بعد تسلّم الرئيس سعيّد مهامه في قصر قرطاج الرئاسي.
ولاحظ سامي إبراهيم، الباحث في العلوم السياسية بـ«مركز الدراسات الجامعية الاقتصادية والاجتماعية» في الجامعة التونسية، أن «المواقف السياسية الشعبوية» انتعشت بين زعامات من المعارضة اليسارية مثل حمّة الهمامي، أمين عام الحزب العمالي الشيوعي، وتزايد تأثيرها في قصري الرئاسة والبرلمان وبعض الأحزاب العلمانية والإسلامية والقومية. كذلك رأى الوزير السابق عدنان منصر - الذي كان مقرّباً من سعيّد قبل أشهر - أن الخطاب الشعبوي وبعض المواقف «المتسرّعة» وتوترات ما بعد استقالة حكومة إلياس الفخفاخ قد تجرّ البلاد نحو «مواجهة خطيرة وغير متكافئة بين رأسي السلطة التنفيذية والبرلمانية وبين أنصار قيس سعيّد وحركة النهضة وحلفائها في حزبي قلب تونس وائتلاف الكرامة.
وحذّر الحبيب بوعجيلة، عالم الاجتماع والكاتب السياسي، من مضاعفات المزايدات السياسية في مرحلة اشتداد المنافسة والصراع بين «اللوبيات» السياسية والاقتصادية و«المافيات» عشية الإعلان عن اسم الشخصية المكلفة بتشكيل الحكومة التي ستخلف حكومة إلياس الفخفاخ، الذي فقد منصبه بعد اتهامه بالتورط في قضايا فساد إداري ومالي.
ويتزامن هذا الحراك داخل مؤسسات السلطة التنفيذية، برأسيها في قصري قرطاج والقصبة، مع معركة «كسر عظام» داخل البرلمان بين غالبية تتزعمها قيادات من أحزاب «النهضة» و«قلب تونس» و«ائتلاف الكرامة» ومعارضيهم «الحداثيين الليبراليين واليساريين» الذين يطالبون بإقالة راشد الغنوشي، زعيم «النهضة»، من رئاسة البرلمان. ويتزعّم المعارضين للغنوشي الحزب الدستوري الحرّ الذي ينتسب إلى نظام الحكم قبل يناير (كانون الثاني) 2011 بزعامة المحامية عبير موسي.

خطر داهم
لكن السؤال الذي يشغل المراقبين في تونس بعد تهديدات الرئيس سعيّد «للمتآمرين على الدولة في الداخل والخارج» هو... هل يلجأ الرئيس إلى «اعتبار البلاد أمام خطر داهم» يبرّر استخدام الفصل 80 من الدستور، وهو ما سيمنحه «صلاحيات استثنائية» منها ممارسة صلاحيات رئيس الحكومة وتعطيل السير العادي لبعض المؤسسات وللفصل بين السلطات «مؤقتاً»؟
وقد تراوحت ردود الفعل بين الترحيب والمعارضة الشديدة على هذا «السيناريو». وكان من بين أبرز المطالبين به عبيد البريكي، الزعيم النقابي والوزير السابق والقيادي المعروف في اليسار التونسي منذ 40 سنة، في حين حذّرت منه سلسبيل القليبي، أستاذة القانون الدستوري في الجامعة التونسية. إذ رأت القليبي أن الرئيس سعيّد لوّح حقاً بتفعيل الفصل 80 عندما خاطب الشعب قائلاً: «الوسائل القانونية المتاحة بالدستور موجودة لدي اليوم، بل هي كالصواريخ على منصات إطلاقها». ولم تستبعد القليبي أن يمضي الرئيس في تفعيل الفصل 80 لأنه تحدث في مداخلاته عن «تعطيل السير العادي لدواليب الدولة» في الوضع الحالي، وهي المذكورة في الفصل 80 والتي تُحيل له. غير أنها تحفّظت في تصريح لوسائل الإعلام التونسية عن توظيف هذا الفصل في المعارك السياسية الحالية لأن «الفصل 80 ينظم حالة الاستثناء وهي مختلفة عن حالة الطوارئ». وبينما توقع الخبير القانوني أمين محفوظ أن يكون تأكيد كلمة سعيّد - أمام رئيس البرلمان ونائبيه - على ما اعتبره «تعطيل سير دواليب الدولة» نوعاً من التمهيد للإعلان عن اللجوء لهذا الفصل من الدستور الذي يمنحه صلاحيات واسعة، قالت القليبي إن «اللجوء لهذا الفصل مسألة خطيرة جداً». وأوضحت أن إعلان حالة الاستثناء يخوّل للرئيس اتخاذ «كل التدابير»، ومن بينها التدخل في اختصاصات رئيس الحكومة وتعليق العمل لفترة بمبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، غير أن الدستور التونسي في فصله الـ80 ينص بوضوح على أن هناك حدوداً لهذا الفصل «من ذلك أن يتعلق الأمر بحالة مؤقتة لا يمكن أن تكون دائمة» ولأن «التدابير الاستثنائية لا بد أن تصبّ ضرورة في عودة تأمين السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، وألا تكون خارجة عن الدستور».
من جهته، قال هيكل بن محفوظ، خبير القانون الدولي ورئيس «وحدة الدراسات القانونية والسياسية» في الجامعة التونسية، لـ«الشرق الأوسط» إنه في حال تفعيل هذا الفصل «لا يمكن لرئيس الجمهورية أيضاً حل البرلمان، ومجلس النواب يكون في حالة انعقاد دائم، أي لا يمكن أن يدخل في عطلة برلمانية، ولا يمكن توجيه لائحة سحب ثقة من الحكومة».
وفي هذا السياق، يقول مسؤولون سابقون في الدولة وعدد من مسؤولي المعارضة والنقابات إن هذا الفصل لن يحسم الصراع بين رؤوس السلطتين التنفيذية والبرلمانية، وطالبوا الرئيس سعيّد بتوظيف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة بعد جائحة «كوفيد - 19» لـ«حل البرلمان الحالي وتنظيم انتخابات مبكّرة».

حلّ البرلمان في سبتمبر
وبالفعل، طالب عدد من الإعلاميين والساسة الرئيس سعيّد بحل البرلمان، لكن معظم خبراء القانون الدستوري اعترضوا على هذا الخيار السياسي، واعتبروا أن حل البرلمان من قبل رئيس الدولة مشروط بالفصلين 77 و89 من الدستور.
وأوضح خبير القانون الدستوري سليم اللغماني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن الفصل 77 يسمح لرئيس الدولة بحلّ البرلمان «في الحالات التي ينصّ عليها الدستور»، لكنه ينص على أنه «لا يجوز حلّ المجلس خلال الأشهر الستة التي تلي نيل أول حكومة ثقة المجلس بعد الانتخابات التشريعية أو خلال الأشهر الستة الأخيرة من المدة الرئاسية أو المدة النيابية»، أي أنه لا يحق لسعيّد حل البرلمان قبل سبتمبر (أيلول) المقبل. لكن الخبير بن محفوظ يذكر أن الفصل 89 من الدستور يشير أن «لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة» في حال عدم تصويت البرلمان على مرشح الرئيس لتشكيل الحكومة للمرة الثانية بعد الانتخابات البرلمانية رغم مرور 4 أشهر.

الاستفتاء الشعبي
في المقابل، دعا نور الدين الطبوبي، أمين عام اتحاد نقابات العمال بعد عدة جلسات عقدها مع الرئيس سعيّد إلى الخروج من الأزمة السياسية الحالية عبر «تنظيم استفتاء شعبي» على تعديل الدستور بسبب حدة الخلاف داخل الطبقة السياسية والنخب حول «النظام السياسي البرلماني المعدل» الذي تعتمده تونس منذ المصادقة على دستور يناير 2014، وبروز دعوات إلى العودة لـ«النظام الرئاسي» الذي كان معتمداً قبل انتفاضة يناير 2011. لكن غالبية الخبراء القانونيين والسياسيين في البرلمان وخارجه، وبينهم مصطفى بن جعفر، رئيس المجلس الوطني التأسيسي، ونائبته محرزية العبيدي والمقرّر العام لدستور 2014 المحامي الحبيب خضر، تحفّظوا عن هذا الاقتراح وسجلوا أن الفصل 82 من الدستور ينص على أنه يحق لرئيس الجمهورية أن يقترح على البرلمان تنظيم استفتاء شعبي في 4 قضايا فقط دون غيرها، هي «مشروعات القوانين المتعلقة بالموافقة على المعاهدات، أو بالحريات وحقوق الإنسان، أو بالأحوال الشخصية، والمصادق عليها من قبل مجلس نواب الشعب».

الشرخ أصبح كبيراً
في ظل هذا المشهد السياسي والبرلماني الفسيفسائي، يُطرح تساؤل؛ هل يمكن أن يحصل انفراج بعد إقالة حكومة إلياس الفخفاخ وتشكيل الحكومة الجديدة في ظرف أقصاه شهر، أم يحصل العكس، فتتعمق الهوة بين رأسي السلطتين التنفيذية والتشريعية، ويتوسّع التصدّع رغم الوساطات وجهود رأبه؟
محسن مرزوق، رئيس حزب «مشروع تونس» والقيادي السابق في حزب «النداء» بزعامة الباجي قائد السبسي، قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «هذه الحكومة لن تكون مختلفة عن سابقاتها، ولن تعمر طويلاً». كذلك اعتبر الوزير السابق الصادق شعبان أن «هذه الحكومة حتى إن ولدت فستسقط بسرعة، وستكون واحدة من بين شطحات نظام سياسي يموت، وسياسيين يعبثون بالقانون والدستور».
إلا أن أخطر ما يهدد «الاستثناء الديمقراطي التونسي»، حسب وزير المالية نزار يعيش، ووزير التجارة السابق محسن حسن، ورئيس الحكومة المستقيل إلياس الفخفاخ، هو تراكم مظاهر الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية، مع توقعات بأن تنخفض نسبة النمو السنوية بنحو 9 نقاط مئوية، بينما سترتفع نسبة البطالة إلى أكثر من 20 في المائة لأول مرة في تاريخ البلاد، ما ينذر باضطرابات اجتماعية وشبابية تشمل جيش العاطلين عن العمل والمهمّشين في المدن الكبرى والجهات الداخلية الفقيرة.

تحالف سياسي ـ نقابي ضد «النهضة»
> تتسارع الأحداث في تونس منذ أيام بنسق غير معهود، ولقد تعاقبت التحركات في كواليس قصري رئاسة الجمهورية في قرطاج ورئاسة الحكومة في القصبة وفي مقرات البرلمان والأحزاب والنقابات، ما أكد وصول البلاد إلى أخطر مأزق سياسي في تاريخها، ومن المتوقع أن يزداد تعقيداً خلال الأيام المقبلة بسبب تعفن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانخراط رئيس الدولة وقيادات نقابية في المعركة مع حزب «حركة النهضة».
ورغم تزامن التصعيد، مع جهود بعض «الوسطاء» لاحتواء الموقف، من بينهم رئيس البرلمان الأسبق مصطفى بن جعفر، يبدو الجميع مقتنعاً بكون المشهد السياسي الذي ساد البلاد منذ انتخابات 2014 قد انهار. وتؤكد معطيات كثيرة أن البلاد باتت مقسمة بين «جبهتين سياسيتين جديدتين متنافرتين»؛ الأولى بزعامة حزب عبير موسى المعادي بقوة لـ«حركة النهضة» و«الإخوان»، وتضم رموزاً من نقابات العمال والأحزاب العلمانية واليسارية والقومية. والثانية تضم «الغالبية البرلمانية» أي حزب «قلب تونس» بزعامة نبيل القروي وقيادات «حركة النهضة» وحلفائها داخل «ائتلاف الكرامة» بزعامة المحامي سيف الدين مخلوف.
وبينما يعتبر كل طرف أن «المنظومة السياسية التي تحكم البلاد منذ سقوط حكم زين العابدين بن علي انهارت»، يعتبر أنصار رئيس الحكومة المستقيل إلياس الفخفاخ، مثل الوزير محمد عبو، أن التوافق الهش السابق بين أحزاب «النظام القديم» بزعامة قائد السبسي وتلامذته و«حركة النهضة وحلفائها» قد انهار بصفة نهائية بسبب أخطاء الطرفين.
ويدعم هذه القراءة لتطورات المشهد السياسي في اتجاه القطيعة والصدام عدد من السياسيين والأكاديميين الذين حاورتهم «الشرق الأوسط»، بينهم الوزير السابق والأكاديمي خالد شوكات والإعلامي الباحث في علم الاجتماع المنذر بالضيافي. ومن جهة أخرى، يرى باحثون وخبراء في استطلاعات الرأي والعلوم الاجتماعية والسياسية أن غالبية نسبية من التونسيين ومن الحقوقيين والنساء صارت لأول مرة منحازة وبقوة، حزب «حركة النهضة» وقيادته، وتعمل على إبعاد راشد الغنوشي عن رئاسة البرلمان، وتدعم مضاعفة صلاحيات رئيس الدولة ضد صلاحيات البرلمان، وتنظيم استفتاء شعبي لتعديل الدستور والنظام السياسي في اتجاه التخلي عن النظام البرلماني المعدل المعتمد حالياً. ويستدل هؤلاء على ذلك بنجاح عبير موسى في تشكيل جبهة سياسية مناوئة للغنوشي، وسرعان ما انضم إليها لأول مرة معارضون سابقون لحكم بن علي وحزبه، من بينهم شخصيات قيادية كانت محسوبة على اليسار النقابي، وعلى المنظمات الحقوقية والأحزاب العروبية والليبرالية.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.