كيسنجر... عرّاف العالم الغربي

لا يزال كبار السياسيين على تنوع اتجاهاتهم يطلبون مشورته ورأيه

«حتمية التراجيديا: هنري كيسنجر وعالمه»  -  المؤلف: باري غوين  -  الناشر «دبليو. دبليو. نورتن وكومبني»  -  2020
«حتمية التراجيديا: هنري كيسنجر وعالمه» - المؤلف: باري غوين - الناشر «دبليو. دبليو. نورتن وكومبني» - 2020
TT

كيسنجر... عرّاف العالم الغربي

«حتمية التراجيديا: هنري كيسنجر وعالمه»  -  المؤلف: باري غوين  -  الناشر «دبليو. دبليو. نورتن وكومبني»  -  2020
«حتمية التراجيديا: هنري كيسنجر وعالمه» - المؤلف: باري غوين - الناشر «دبليو. دبليو. نورتن وكومبني» - 2020

طال العمر بهنري كيسنجر. فهو الآن في السابعة والتسعين، وما زال يعدّ عند مثقفي العالم الغربي أكثر رجال الدولة والدبلوماسيّة الباقين على قيد الحياة تأثيراً في صياغة واقع عالمنا المعاصر، وقد صوّت أساتذة علوم السياسة وباحثوها عبر الجامعات الأميركيّة عام 2014 على حسبانه أكبر وزراء الخارجيّة فعاليّة خلال الخمسين سنة الأخيرة، ولا يزال كبار متعاطي السياسة في الولايات المتحدة على تنوع اتجاهاتهم يطلبون مشورته ورأيه فيما يستعصي عليهم من الأمور رغم أنّه لا يحتفظ بأي منصب رسمي، فهذا ديك تشيني الذي تولى منصب نائب الرئيس قال حينها: «ربّما أنا أتشاور مع هنري كيسنجر أكثر من أي أحد آخر»، وهذه هيلاري كلينتون تكتب: «كيسنجر صديق مقرّب، وكنت لا أستغني عن نصائحه عندما كنت أتولى منصب وزيرة الخارجيّة»، وكثيراً ما شوهد في زيارات متكررة لسكان البيت الأبيض: من كارتر إلى ريغان، ومن جورج دبليو بوش إلى ترمب اليوم.
تمتع كيسنجر دائماً في المخيال الغربي بمكانة وشهرة لم يسبقه إليهما ربما سوى نجوم الفكر السياسي في العصور الأوروبيّة ما قبل الحديثة: ميكافيللي وريشيليو وماتزييني، ومن دون أدنى شك فهو أهم من تولى منصبي وزير الخارجيّة ومستشار الأمن القومي في تاريخ الدّولة الأميركيّة، وكان يسمى داخل أوساط ثعالب السياسة في وزارة الخارجيّة البريطانيّة بـ«عرّاف العالم الغربي»، وقد حصل على جائزة نوبل للسلام (1973)، كما أعلى جائزة للكتّاب في بلاده (الجائزة الوطنيّة للكتّاب - 1980) عن مؤلفاته - المرجعيّة لمثقفي الغرب وواسعة الانتشار -، وتلك مكانة لا بأس بها لأكاديمي تخصصه الدّقيق تاريخ مؤتمر فيينا، ومهاجر من ألمانيا المدمّرة بالحروب إلى العالم الجديد.
ومع مطلق النجوميّة تلك، فإن كيسنجر وسياساته لم يكونا موضع اتفاق قط داخل الولايات المتحدة ولا خارجها، ولا أيّام توليه المناصب الرسميّة ولا بعد تركها، ولطالما تعرضت مواقفه لانتقادات من اليمين الأميركي قبل اليسار بوصفها غير أخلاقيّة وذرائعيّة ومرحليّة؛ كل بحسب مرجعيته الآيديولوجيّة... البعض رآه مجرم حرب موغلاً في دماء الملايين وظّف إمكانات دولة العالم العظمى لفرض الهيمنة على الشعوب الفقيرة وتدمير مجتمعات كاملة من لاوس وكمبوديا إلى فيتنام، ومن تشيلي إلى بنغلاديش، دون أن يرفّ له جفن... ناهيك، بالطبع، بآلاف القتلى والمعوقين من الشباب الأميركيين؛ ومنهم بيرني ساندرز المرشّح الرئاسي السابق عن الحزب الديمقراطي الذي صرّح خلال جدال انتخابي هذا العام بأنّه «فخور بأنه ليس صديقاً لهنري كيسنجر».
وعده البعض الآخر مسؤولاً عن تراجع هيبة الولايات المتحدة في العالم نتيجة دفعه باتجاه الحلول الدبلوماسيّة عبر القنوات الخلفيّة بدل فرض نفوذ الإمبراطوريّة من خلال فائض القوة الهائل؛ ومنهم الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان في خطابه أمام مؤتمر الحزب الجمهوري عام 1976، الذي اتهمه والرئيس جيرالد فورد بتعريض الولايات المتحدة للخطر وربما الاندثار بعدما تسببا بتوجهاتهما المهادنة في تراجع بلادهم إلى المركز الثاني في مواجهة القوة العسكريّة السوفياتيّة آنذاك.
هذا التفاوت الحاد في النظرة إلى الرجل وتقييم أعماله، انعكس بالضرورة على الكتب التي رصدت تجربته فانحازت إلى طرفي النقيض، لكن أغلب نتاجات المؤسسة الثقافيّة الرسميّة كانت متعاطفة معه، بل وهناك مؤخراً موجة مستجدة من رؤية أكثر تفهماً لواقعيّة «السياسة الكيسنجريّة» وتقبلاً لهفواتها الأخلاقيّة لمصلحة أهميتها الفائقة في تحقيق انتهاء الحرب الباردة لمصلحة المنظومة الرأسماليّة - الأميركيّة، ومنها مؤخراً السيرة التي وضعها له الأكاديمي اليميني البريطاني نيل فيرجسون وطوّبه فيها نبياً للمثاليّات.
ولذلك؛ فإن كتاب باري غيوين، المحرر في «نيويورك تايمز»، الصادر حديثاً «التراجيديا المحتّمة: هنري كيسنجر وعالمه*» يبدو الأكثر توازناً إلى الآن ويقدّم قراءة أعمق لـ«المنهجيّة الكيسنجريّة» - إذا جاز التعبير - ويضعها في سياقات قابلة لاستخلاص العبر - أقلّه من قبل الساسة الغربيين المعاصرين -: نظرته إلى التاريخ، وفهمه لديناميكيّات القوّة، وموقفه من الديمقراطيّة، ومنهجيته في تحقيق الغايات الاستراتيجيّة بغض النظر عن طبيعة الوسائل المستخدمة في ذلك، وتصوره للنظام السياسي العالمي.
ليس نص غيوين «حتمية التراجيديا – هنري كيسنجر وعالمه» (نحو 450 صفحة) بسيرة ذاتيّة لكيسنجر الشخص من المهد إلى اللحد؛ بقدر ما هو متابعة للرّحلة الفكريّة للرجل خلال المراحل المختلفة لحياته من بداياته الأكاديميّة بجامعة هارفارد - معاصرا لرفاق مثل زيبيغنيو بريجنسكي وصمويل هانتغتون وستانلي هوفمان وآرثر شليزنجر جونيور - مروراً بتجربة السلطة في خدمة الرئيسين نيكسون وفورد، وانتهاء بدوره لاحقاً عرّافاً و«شاماناً» يستعان برأيه في إدارة واشنطن أوجاع العالم. ولذلك يتضاءل الجانب الشخصي المحض عن «العزيز هنري» - كما كان يدعوه تحبباً الرئيس المصري الراحل أنور السادات - لمصلحة استنطاق للفلسفة السياسيّة الواقعيّة التي تستهدف الحفاظ على المصالح القوميّة العليا للولايات المتحدة ببناء توازنات للقوى الدوليّة تضمن عقلنة الصراعات، وترشيدها في إطارات خطوط حمراء وخوضها دائماً ضمن منظور طويل المدى بدلاً من الوقوع في مطبات اللحظي والمرحلي والعابر.
غيوين يرى أن تجربة كيسنجر لا يمكن فهمها دون إدراك تأثره العميق بمعضلة صراعات القوّة والنفوذ في أوروبا ما قبل الحرب العالميّة الثانية، وتلك الهشاشة المفرطة للنظام الديمقراطي الذي أمكن للقوى الفاشية في غير ما بلد تسلقه لإنهاء الديمقراطيّة الليبراليّة وانتخاب الديكتاتوريين، ومن ثم الدخول في صراعات طاحنة ضد برجوازيات الدول الأخرى كانت أثمانها البشريّة والمادية فادحة ومؤلمة.
وهو من خبرته الشخصيّة تلك طعّم السياسة الخارجيّة الأميركيّة بواقعيّة عملانيّة جريئة وازاها فكريّاً في ميادين العلوم النظريّة والمعارف الأخرى جيل المثقفين اليهود الذين هاجروا من أوروبا الرايخ الثالث واتخذوا الولايات المتحدة وطناً جديداً: حنة أريندت وليو ستراوس وهانز مورغينثاو وغيرهم الذين خلصوا بطرق مختلفة إلى النتيجة ذاتها: البشر، يمكن خداعهم وسوقهم لخدمة الديماغوجيّات وليسوا بقادرين على مواجهة الشرّ أو حتى رؤيته أحياناً.
ولا شكّ في أن كيسنجر كان أكثر بصيرة من صقور النخبة الأميركيّة بإحساسه المتشائم بالتراجيديا المحتمّة؛ إذ أدرك أن جبروت الإمبراطوريّات ليس دائماً؛ إذ هي تتجه حتماً إلى السقوط (روما القديمة) أو الضعف (بريطانيا المعاصرة)، مما يستدعي البحث عن طرائق غير القوّة العسكريّة المحض لتمديد الهيمنة، وهي عنده في بناء توازنات لقوى متقاطعة ومتنافسة في نوع من نظام عالمي يضمن أن أياً منها لن يكون قادراً على مواجهة الولايات المتحدة في أي وقت قريب.
فبدلاً من معاداة الكتلة الشيوعيّة كقطعة صماء واحدة مثلاً، كان كيسنجر وراء نظريّة منع التحالف بين الصين والاتحاد السوفياتي عبر التقارب مع بكين، وكذلك دعوته المتكررة سابقاً واليوم إلى تحجيم المنافسة الحادة مع العملاق الصيني الصاعد؛ لأن ذلك سيكون بشكل أو بآخر ترجيحاً لكفة العناصر المتصلبّة والصقور الذين قد يصبحون أعظم نفوذاً وأكثر عداءً للولايات المتحدّة، والاشتباك الإيجابي مع روسيا لمنع تصاعد خطر مواجهة نووية ديستوبيّة، وخوض حروب تقليم الأظافر الإقليميّة كوجه آخر للدبلوماسيّة وضمن حدود وقواعد اشتباك لمنع تدحرجها مواجهة كارثيّة بين الدول الكبرى.
إذا وضعنا أكوام الجثث التي تسببت بها سياسات كيسنجر وقتها جانباً، فإن هذه الواقعيّة لسياسته الباردة تبدو شديدة العقلانيّة مقارنة بالتوجهات الحاليّة لإدارة الرئيس ترمب.
غيوين مع دفاعه عن سياسات كيسنجر الدمويّة في جنوب شرقي آسيا وأميركا الجنوبيّة بوصفها ضرورات استراتيجيّة وتكاليف لا بدّ من دفعها لضمان استمرار توازن القوى العالمي على حاله لمصلحة تأبيد هيمنة الولايات المتحدة ومنع انكسارها، فإنّه مع ذلك يُبقى مسافة نقديّة من موضوع كتابه، تسمح له بحسبان العقل الاستراتيجي في الثنائي نيكسون - كيسنجر كان الأوّل، فيما كانت عبقريّة الثاني وراء تنفيذ الاستراتيجيّات وتحويلها إلى مكاسب للمشروع الأميركي. العارفون بدواخل إدارة نيكسون يعلمون بأن الرئيس - بصفته الشخصيّة صديقاً - دعاه لطلب معالجة سيكولوجية تخفف من غلواء هستيريا صراعات القوة التي استحوذت عليه.
ينقل جون فاريل من «نيويورك تايمز» عن كيسنجر إعجابه الشديد بشخصيّة الكاردينال ريشيليو. والأخير كان داهية سياسة قال عنه البابا أوربان الثامن يوماً: «إذا كان ثمّة إله يحكم هذه الدنيا؛ فإن الكاردينال سيواجه حساباً عسيراً على ما ارتكبت يداه، وبعكس ذلك؛ فإنّه سيكون قد عاش حياة صاخبة أصاب فيها من النجاح». البابا لن يجد بالطبع كلمات أفضل لوصف كيسنجر لو كان التقاه.


مقالات ذات صلة

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

ثقافة وفنون جورج أورويل

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

بـ10 آلاف جنيه إسترليني يمكن شراء رسالة كتبها بخط اليد، مؤلف رواية «1984» إريك بلير (1903 – 1950)، الشهير بالاسم الأدبي جورج أورويل.

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون «مريم ونيرمين».. الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء

«مريم ونيرمين».. الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت رواية «مريم ونيرمين» للكاتب عمرو العادلي، التي تعزف في قضيتها الكبرى على وتر الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء عبر لغة بسيطة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «توسيع دائرة الشكوكيين» لخالد الغنامي

«توسيع دائرة الشكوكيين» لخالد الغنامي

صدر للباحث خالد الغنامي كتاب جديد بعنوان «توسيع دائرة الشكوكيين»، وحسب المؤلف، فإن الداعي لهذه الدراسة في أول الأمر قبل توسع البحث هو خطأ يتكرر في الدرس الفلسفي

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

ثمة بحر من الكتب المرجعيّة عن تاريخ النّازية والنّازيين ودورهم في الحرب العالمية الثانية، كما دراسات كثيرة عن أدولف هتلر، وسير ذاتية لمعظم قادة ألمانيا النازية

ندى حطيط
كتب زينب فواز

نسويات ينتصرن لزينب فواز صاحبة «أول رواية عربية»

تعود الكاتبة زينب فواز إلى الواجهة، مع صدور طبعة جديدة من روايتها «غادة الزاهرة»، التي نشرت لأول مرة عام 1899 في القاهرة.

سوسن الأبطح (بيروت)

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية
TT

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

ثمة بحر من الكتب المرجعيّة عن تاريخ النّازية والنّازيين ودورهم في الحرب العالمية الثانية، كما دراسات كثيرة عن أدولف هتلر، وسير ذاتية لمعظم قادة ألمانيا النازية الكبار. على أن المؤرخ البريطاني والبروفيسور ريتشارد جيه إيفانز مؤلف الثلاثية الشهيرة «تاريخ الرايخ الثالث – 2003» اختار في كتابه الأحدث «شعب هتلر: وجوه من الرايخ الثالث – 2024*» صيغة مغايرة لمنهجه الأثير في تجنّب شخصنة التاريخ، وذلك المزاج المعتاد لدى مؤرخين آخرين في إلقاء اللوم في مجمل التجربة النازية على عاتق الفوهرر وبعض رجاله المقربين مع إعفاء غالب الألمان من المسؤولية؛ إذ استفاد إيفانز من توافر مواد توثيقيّة جديدة ليعيد قراءة المرحلة برمتها عبر استكشاف الأدوار الفرديّة لأربع وعشرين شخصية من مستويات قيادية وتنفيذية مختلفة دون إغفال النظر في أي لحظة عن الإطار الكليّ الأكبر.

ينقسم «شعب هتلر» إلى أربعة أجزاء تغطي سيرة 24 شخصاً من مختلف مستويات تراتب القيادة في المجتمع الألماني اختيروا لوضعهم بكل خصوصياتهم وخصائصهم وتوفر المواد عنهم في السياق الأعم للتاريخ الألماني خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. أول تلك الأجزاء قسم طويل في مائة صفحة عن هتلر نفسه، وثانيها عن عدد من أفراد دائرته المباشرة هاينريش هيملر – قائد القوات الخاصة الألمانية والرجل الثاني في النظام -، وهيرمان غورينغ – رئيس الغستابو (جهاز الاستخبارات) -، ورودلف هس – نائب الفوهرر وممثله الشخصي -، ويوهانس إرفين رومل – قائد الجيوش الألمانية والإيطالية في شمال أفريقيا -، وبول جوزيف غوبلز - وزير الدّعاية النازية -، لكن الإضافة النوعية للكتاب تبدأ في ثالث أجزائه مع سير مجموعة من الممكنين الذي قادوا التنفيذ، وكذلك آخرها الرابع، عن المستوى الأدنى من (الأدوات) الذين خدموا النّظام ونفّذوا أوامره.

هتلر

وللحقيقة، فإن سيرة هتلر كما قطّرها إيفانز في الكتاب تبدو الأقل إثارة للدهشة مقارنة بالشخصيات الأخرى، فالقائد الألمانيّ وإن كان شخصاً آيديولوجياً صرفاً، إلا أنّه كان انتهازياً أيضاً ويعرف كيف يخفف من غلوائه عندما لا يكون أمام الجمهور؛ ولذلك كانت خطاباته شكلاً من أشكال الأداء المسرحيّ المدروس، لكن بقية الشخصيات في الكتاب فقد كانت من النّوع الشديد الإيمان بالقائد لدرجة الإصابة بالإغماء عند الاستماع لخطاباته المدويّة.

يجزم إيفانز بأن هتلر على تفرده لم يكن عبقري سياسة أو حرب، لكنّه كان يمثل تقاطعاً عجيباً في الزّمان والمكان بين تبلور ظاهرة الخطابات العامّة أمام الحشود، وذلك الإحساس الوطني العام بالإذلال بسبب الهزيمة في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) ومعاهدة فرساي (1919) - التي أقرَّت فيها ألمانيا بذنبها في اندلاع الحرب، ومسؤوليتها الوحيدة عن الخسائر والأضرار التي نجمت عنها، إضافة إلى قبولها التخلي عن أراضٍ واسعة يسكنها ناطقون بالألمانية – وما تبع ذلك من دمار اقتصادي وكساد مديد. لقد نجح هتلر بديماغوجيته في أن يصبح للألمان تجسيداً لآمالهم بترميم النظام الاجتماعي المتهتك واستعادة الكرامة الوطنيّة المهدورة، وذلك بعد التجربة الفاشلة لجمهورية فايمار التي قامت على أنقاض الإمبراطورية المهزومة.

وبحسب إيفانز، فإن الوجوه التي اجتمعت حول هتلر لم تكن جميعها بالسمات ذاتها، فبينما كان يوليوس شترايشر – رئيس تحرير جريدة الحزب – معادياً لليهود بشدة، كان هيلمر مثلاً أقل اهتماماً بتأثير سلبيّ مزعوم لليهود على المجتمع الألماني، لكنه حقد بالمقابل على المثليين الشواذ، واستمر في الضغط على هتلر لتوسيع دائرة الفئات المستهدفة في مشروع (الحل النهائي) لتشمل إلى اليهود، الشواذ المثليين والشيوعيين والغجر والمرضى. على أنّ القاسم المشترك بين كل هذه الوجوه كان بالدّرجة الأولى تلك الصدمة الجمعية للشعب الألماني بعد الهزيمة التامّة المذلة في الحرب العالميّة الأولى وما أعقبها من حراك اجتماعي هابط، فكان أن قدّم لها الفوهرر نظريّة مؤامرة عن أسطورة «الطعنة في الظهر» من قِبل اليهود واليسار لتفسير الانكسار ومخرجاً للدونية، بدلاً من تقبل الحقيقة الموضوعية بثانوية ألمانيا أمام الهيمنة الصاعدة للتحالف الأنجلوساكسوني على جانبي الأطلسي.

لكن إيفانز يؤكد أن هتلر لم يكن ليصل إلى أي مكان لولا دعم النخب اليمينية المحافظة التي دعته إلى تولي السلطة مستشاراً للرايخ في عام 1933. لم يكن وقتها لدى الأرستقراطيين والبرجوازيين وكبار قادة الجيش الألمان قناعة خاصة بالأفكار والتكتيكات النازية العنيفة، لكنهم تلاقوا على كراهية ديمقراطية فايمار الفاسدة، وأرادوا إطاحتها، ومن بينهم لمعت لاحقاً الشخصيات القيادية في النظام النازي. سير الشخصيات المختارة للكتاب من هؤلاء تشير بمجموعها إلى مجموعة من أنماط السلوك التي ارتبطت بالتجربة المشتركة لها، ومنها تلك القدرة على التوحش التي أنتجتها السلطة المطلقة على البشر الآخرين المختلفين والمحتقرين آيديولوجياً، وكذلك الحماسة الظاهرة للسحر والتنجيم والباطنيات. لكن كان هناك أيضاً «صيادو الفرص»، أي أولئك الأشخاص الطموحين المفتقرين إلى الأخلاق ممن رأوا في المشروع النازيّ منصة للصعود والتقدم والظهور على نحو لم يكن متاحاً لهم في ظل النظام السابق. أما فيما يتعلّق بـ«الأدوات» - وفق تسمية إيفانز دائماً – فباستثناء شخصية واحدة من الطبقة العاملة في كل الكتاب – ابن أحد الخبازين –، فإن كتلة اللحم الأساسية للنظام النازي جاءت كما يبدو وبأغلبية ساحقة من خلفية الطبقة الوسطى المسكونة بأحلام التّرقي الاجتماعي، ولو على حساب الآخرين الأقل حظاً.

يأتي كتاب إيفانز في توقيت مثاليّ إذ يغرق الغرب في لجّة من صعود يمين متشدد يستمد مادته من ديماغوجيّة العداء للآخر المختلف

يأتي كتاب إيفانز في توقيت مثاليّ ربّما؛ إذ يغرق الغرب في لجّة من صعود يمين متشدد يقف على أقصى نهاية طرف الطيف السياسيّ ويستمد مادته من ديماغوجيّة العداء للآخر المختلف، وهذه المرّة للمهاجرين الأجانب، لا سيمّا المسلمين منهم. ولا شكّ أن إعادة تفكيك التجربة النازية – وشقيقتها الفاشيّة في جنوب القارة – سيضيء على دروس قد تساعد البشرية على تجنب كارثة كونية أخرى قد تكون نتائجها أكثر فداحة من الحرب العالمية الأخيرة، كما أن مغامرة المحافظين اليمينيين بتصعيد النازيين الجدد اليوم قد تمنح المؤرخ عدسة أخرى ليقرأ بها تاريخ النازية متسلحاً بفهم أعمق للحراك الاجتماعي المعاصر.

شعب هتلر: وجوه الرايخ الثالث

Hitler's People: The Faces of the Third Reich

المؤلف: ريتشارد إيفانز

الناشر:

Allen Lane – 2024