من بين القادة الأوروبيين كافة الذين عبروا عن فرحتهم بالاتفاق الاستثنائي الذي توصلوا إليه في بروكسل بعد 92 ساعة من المفاوضات الدرامية الشاقة، يحق للرئيس الفرنسي أن يكون الأكثر سعادة. ولم يخف إيمانويل ماكرون هذه السعادة؛ إذ سارع إلى كتابة تغريدة صباحية اعتبر فيها أن الاتفاق على خطة نهوض اقتصادي للاتحاد الأوروبي تبلغ قيمتها 750 مليار يورو بمثابة «يوم تاريخي بالنسبة لأوروبا» وستكون فرصة من أجل بناء «اتحاد أوروبي مزدهر وأخضر» في إشارة إلى الالتزامات المنصوص عليها في الخطة لربط المساعدات والقروض بالتوجه نحو اقتصاد «صديق للبيئة». وفي تغريدة لاحقة كتب ماكرون ما يلي «تم تبني خطة مكثفة من أجل تعافي الاقتصاد وهي عبارة عن استدانة موحدة للرد على تحديات الأزمة بشكل تضامني (أوروبي) وللاستثمار في المستقبل، وهو أمر لم نكن قد قمنا به سابقاً. لقد كانت فرنسا صاحبة هذا الطموح». وكرر ماكرون في مؤتمر صحافي مشترك مع المستشارة الألمانية، أن «مرحلة حاسمة قد تم اجتيازها». ولم تحد أنجيلا ميركل عن خطاب الرئيس الفرنسي؛ إذ اعتبرت أن أوروبا «عرفت يوماً تاريخياً»، وأنها نجحت في أن توفر «الرد (المناسب) على أكبر أزمة عرفها الاتحاد الأوروبي منذ إنشائه». وبلغة أقل حماسية، رأت ميركل التي ترأس الاتحاد الأوروبي حتى نهاية العام الحالي، أن الأوروبيين «نجحوا خلال شهرين في بناء إجماع لتحويل خطة التعافي الاقتصادي إلى واقع»، مضيفة أن ذلك «يمثل إشارة يصل مداها أبعد من الاتحاد».
خلال الأيام الأربعة، عمل ماكرون وميركل معاً. وثمة إجماع قوامه أنه في غياب التفاهم الفرنسي - الألماني لم يكن بالإمكان التوصل إليه والتغلب على المعارضة الشرسة التي واجهها من خمس دول أعضاء أطلق عليها اسم الدول «المقتصدة» لرفضها المبدئي قبول الاستدانة الجماعية. وأكثر من ذلك، فإن «الخطة» هي في الأساس مشروع تم التفاهم عليه بين ماكرون وميركل في شهر مارس (آذار) الماضي وعمدت المفوضية الأوروبية ممثلة بشخص رئيستها الألمانية أورسولا فان دير لايين إلى تبنيها وتحويلها إلى خطة أوروبية من غير أن تدخل عليها أي تعديل. ونصت الخطة على توفير صندوق إطلاق مشروع استدانة باسم المفوضية أي باسم الأعضاء الـ27 من الأسواق المالية تصل قيمته إلى 750 مليار يورو. وهذا المبلغ الضخم يقسم إلى قسمين: الأول، وقيمته 500 مليار يورو وهو كناية عن مساعدات أو هبات تقدم للبلدان الأوروبية الأكثر تضررا بوباء «كوفيد – 19» فيما مبلغ الـ250 مليار يورو سيوزع قروضاً. والفرق بين الاثنين أن الهبات لن يتم إيفاؤها بينما القروض سوف تستحق يوماً ما. وبحسب الاتفاق، فإن آخر مهلة للإيفاء ستحل في عام 2058.
المعروف تاريخياً أن محرك البناء الأوروبي قوامه المحور الفرنسي - الألماني. ومنذ نشوء «المجموعة الأوروبية» كان هذا المحور هو «محرك» العربة الأوروبية. والثنائي الفرنسي - الألماني بدءاً من الجنرال ديغول والمستشار أديناور مروراً بالرئيس فاليري جيسكار ديستان والمستشار هيلموت شميت، وصولاً إلى الرئيس فرنسوا ميتران والمستشار هلموت كول، كانت له دوماً الكلمة - الفصل في المسائل الأوروبية. وطموح ماكرون، منذ أن وصل إلى قصر الإليزيه كان إعادة بناء هذا التحالف. إلا أن خلافات كثيرة ليس أقلها التمايز في مواقف البلدين في موضوع بناء الصناعات الدفاعية المشتركة دفعت أحياناً هذا الطموح إلى البراد. يضاف إلى ذلك أن ميركل، كما الدول المقتصدة (هولندا، الدنمارك، السويد، النمسا، وأخيراً فنلندا) كانت من أشد المعارضين للاستدانة المشتركة، وخصوصاً لمنح الهبات بدل القروض. والجامع بينها كلها اعتبارها بلدان جنوب أوروبا التي هي، في الواقع، الأكثر تضرراً من جائحة كورونا (إيطاليا، إسبانيا، فرنسا...) لا تلتزم بالصرامة في موضوع الميزانيات وتعيش فوق إمكاناتها وفيما اقتصادياتها في حاجة إلى عمليات إصلاح شاملة. ولذا؛ فإنها ترفض توفير منح لها من جيوب مواطنيها. لكن ميركل، بفعل ضغوط ماكرون، واقتناعها أخيراً أن مستقبل الاقتصاد الأوروبي ومنه الألماني والمحافظة على قيمة العملة الموحدة واستمرار الصناعات الألمانية بالاستفادة من الأسواق الأوروبية، غيرت مواقفها ما كان له كبير الأثر على الآخرين.
وهكذا، بعد مساومات شاقة وبفضل المقترحات المتلاحقة التي قدمها رئيس الاتحاد البلجيكي شارل ميشال، فقد أبرم اتفاق مبني على المقترح الفرنسي – الألماني، ولكن مع عدد من التعديلات والشروط. فالهبات تراجعت قيمتها إلى 390 مليار يورو وارتفعت قيمة القروض إلى 360 مليار يورو والكل مدعوم بميزانية أوروبية مشتركة من ست سنوات بقيمة 1047 مليار يورو. وسوف تبلغ حصة إيطاليا من الهبات 70 مليار يورو وإسبانيا 60 مليار يورو، بينما سوف تحصل فرنسا على 40 مليار يورو. وكل هذه الأموال من أجل إجراء الإصلاحات المطلوبة وإعادة إطلاق العجة الاقتصادية.
حقيقة الأمر، أن تغيراً أصاب «المحرك» الفرنسي - الألماني وبدا واضحاً أن الزمن الماضي قد ولى إلى غير رجعة والدليل على ذلك أن رئيس وزراء هولندا، مارك أوتي، استطاع الوقوف طيلة أربعة أيام بوجه ضغوط ماكرون – ميركل، بل إنه هدد بعدم التصديق على الاتفاق ما كان سيعني وأده أو تأجيله. ويروى أن ماكرون استشاط غضباً ليل الأحد ـ الاثنين وهدد بالانسحاب متهماً مارك أوتي بأنه شبيه بديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي كان كثير الجدل والعناد في المسائل الأوروبية، سائراً بذلك على خطى رئيسة الوزراء الأسبق مارغريت ثاتشر. كذلك هاجم ماكرون المستشار النمساوي لأنه ترك اجتماعاً حساساً للرد على اتصال هاتفي. وكان من الأخير أن رد على ماكرون بقوله إن «بعضهم يفقد أعصابه بسبب السهر الطويل وندرة النوم» في إشارة إلى الرئيس الفرنسي.
وفي حديث صباحي أمس، قال وزير الاقتصاد والنال الفر نسي برونو لو مير، إن الخطة هي بحق «صك ولادة جديدة» للاتحاد الأوروبي. وهذا التوصيف صحيح لكن الولادة كانت، أقل ما يقال فيها، إنها جاءت عسيرة. والأهم من ذلك كله أنها وجدت ونجح الأوروبيون في توفير الأدوات المالية لمداواة اقتصادياتهم التي أنهكها «كوفيد – 19».
ولادة «عسيرة» لعلاج اقتصادات أنهكها «كورونا»
750 مليار يورو لـ«اتحاد أوروبي مزدهر وأخضر»
ولادة «عسيرة» لعلاج اقتصادات أنهكها «كورونا»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة