هوة الفكر بين زنبيلي ولوثر

ظاهرة الصعود والهبوط الفكري للأمم

مارتن لوثر
مارتن لوثر
TT

هوة الفكر بين زنبيلي ولوثر

مارتن لوثر
مارتن لوثر

إن صعود أمم أو هبوطها عبر التاريخ قد يكون مرتبطاً بكلمة. وكما يقول الأديب الراحل عبد الرحمن الشرقاوي «الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور»، فالفكر يؤسس لأمم أو يمهد لهبوطها، ولكن هل يمكن أن يتصادف في تاريخ الأمم والشعوب لحظة زمنية أو عام فارق يكون فيه تماس زمني ومفصلي بين فكر أو فعل يؤديان لصعود أمة وهبوط أخرى؟ هل يمكن أن تحدث هذه المصادفة التاريخية؟ وإن حدثت، هل يمكن أن نقدم لها تفسيراً فكرياً، خاصة إذا ما لم يكن هناك تماس جغرافي بين أمة أو أخرى؟ واقع الأمر أن المصادفة التاريخية تشير إلى عام حاسم يمكن أن نجازف بعده عاماً فارقاً شهد بداية الهبوط الفكري والثقافي لأمة، والصعود الفكري لأخرى، وهو بالتحديد عام 1517. ففي هذا العام، انطفأت شعلة الثقافة في العالم العربي إثر الاحتلال العثماني لمصر، ومعها الشام والحجاز، وهي السنة نفسها تقريباً التي تغير فيها نمط الفكر والثقافة في الغرب، ممهداً لانطلاقة جديدة ساهمت في صناعة أوروبا الحديثة، وأثرت في العالم كله. والأغرب من كل هذا أنها لم تأتِ وفق تفسير لابن خلدون، بصفتها نتيجة طبيعية لعوامل التآكل التدريجي للدولة، أو رؤية هيجل، في ضوء أن التاريخ لا يسير بشكل أفقي؛ ولكن الإجابة مع الأسف قد تكون في فكر «نيتشه»، على الرغم من تحفظنا الشديد عليه.
ففي الوقت الذي كانت ترزح فيه أوروبا تحت الحكم المشترك للإمبراطور والأمراء، بغطاء كنسي فاسد تمثل في الكنيسة الكاثوليكية، تحت شعار أممي ديني، على أساس أمة مسيحية تقود روحها الكنيسة، بينما يقود الإمبراطور مقدراتها الدنيوية. ومن خلال موضعها، استباحت الكنيسة وضعيتها الدينية لمحاولة السيطرة الروحية على المواطن المسكين، بالسيطرة على مقدراته في الآخرة، فباتت تبيع له صكوك الغفران لتمنحه الغفران الإلهي! وفي عام 1516، كان الراهب الشاب «مارتن لوثر» يدرس الإنجيل، ويتعمق فيه لوضع صياغة فكرية تبرز فساد الكنيسة، في محاولة لإصلاحها، فأخذ يجهز ردوده الفكرية والعقائدية حتى صاغها في خمس وتسعين رسالة علقها على كنيسة مدينة «فيتنبرغ» في 1517، وهو ما فتح الباب أمام ثورة إصلاح ديني أطاحت تدريجياً بسلطان البابا في روما، ودفعت أوروبا إلى آفاق ثقافية واسعة. فقد صنع هذا الشاب المعجزة الفكرية التي جعلت أوروبا تتحرر من السيطرة الفكرية الفاسدة لممارسي السلطة الدينية، ليفتح المجال أمام موجات من حركات الاستنارة والفكر، وهو ما سبق أن تناولناه في مقالات سابقة. وبالتالي، يمكن عد 1517 سنة انطلاقة الثورة الفكرية والاجتماعية والسياسية الأوروبية.
وعلى بعد ما يقرب من ألفي ميل من «فيتنبرغ»، وقبيل هذا الفتح الأوروبي الفكري بأشهر معدودات، وبالأخص في مدينة إسطنبول، استخدم السلطان سليم الأول المفتي العثماني «زنبيلي أفندي» (علي علاء الدين الجمالي)، ليحصل على فتوى دينية تُشرع له محاربة دولة المماليك، لاحتلال الشام ومصر والحجاز، إذ وضع ثلاثة استفسارات، فجاء الرد بجواز محاربتهم لأنهم يخالطون أولادهم (بناتهم) بعائلات غير المؤمنين (الشركس أو المماليك المسلمين). كما أفتى بجواز محاربتهم لأنهم ينقشون اسم المولى -عز وجل- على عملتهم التي يتم تداولها لدى شعوب غير مسلمة قد يدخلون بها لقضاء حوائجهم أو وهم غير أطهار. وبهذا العبث الفكري، برر العثمانيون حربهم ضد مسلمين سنة آخرين واستباحوهم، فملكوا عظمة مصر وقدسية الحجاز وثراء الشام بفتوى دينية فاسدة، وأدخلوا الهلال العربي في قرون ممتدة من الفساد والإفساد الفكري، وأخرجونا من مسيرة التاريخ والحركات الفكرية والعلمية لقرون.
حقيقة الأمر أن المرء ليتفكر في هذا العبث والهوة الفكرية والثقافية بين زنبيلي ولوثر، ولكن تُرى كيف كان مفكرون عرب وغربيون ينظرون لهذا المصادفة التاريخية؟ لو تخيلنا نظرة العبقري ابن خلدون، لوجدناه سيميل لتفسير هذا الحدث من خلال رؤيته لعوامل ظهور الأمم واضمحلالها بالشيخوخة، وكان ليعزو النجاح العثماني ليس لفتوى أصدرها فاسد، ولكن لعوامل تحلل الدولة المملوكية، وظهور العنصر القبلي العثماني وشدة بأسه مقابل دولة أخرى بحسابات القوة والخسارة التقليدية. أما الفيلسوف «هيجل»، فكان سينظر لعام 1517، بصفته حدثاً تاريخياً بمحتويات مختلفة على أصعدة جغرافية متفرقة، فالتاريخ بالنسبة له لا يسير بشكل أفقي، كما ذكرنا سابقاً، كما أنه لن يتأخر في عدها ظاهرة غير مترابطة بحكم مراحل قدراتنا الاستيعابية المتشعبة في رؤية فلسفية قد لا يسعنا شرحها في هذا المقال.
ومع الأسف، فقد يأتي أقوى الردود من الفيلسوف الألماني «نيتشه» الذي ستكون إجابته واضحة قاسية في آن، وهي جملته الشهيرة «تذكر أنك عندما تنظر إلى الهوة (الظلمات)، فإن الهوة تعيد النظر إليك»؛ أي أننا عندما نتذكر الماضي بآلامه، فهو أيضاً يتذكرنا ويؤثر علينا، وسيسعى لتكرار نفسه فينا. فهل نسمح بظهور «زنبيلي» جديد في زمننا يشرع لطامعين في استباحة بلادنا وخيراتها مرة أخرى؟ لا أعتقد، فقد أوصانا الرسول -عليه الصلاة والسلام- بحديثه: «لا يُلدَغ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين».



ليزا جيرارد واللغة الخاصة

ليزا جيرارد واللغة الخاصة
TT

ليزا جيرارد واللغة الخاصة

ليزا جيرارد واللغة الخاصة

من وجهة نظر الموسيقار الألماني هانز زيمر، قلائل في العالم من يُتقنون الغناء، منهم المغنية الأسترالية ليزا جيرارد. ولعل أشهر أغنياتها هي التي عُرفت بعنوان «الآن قد أصبحنا أحراراً»، تلك التي عرفها العالَم من خلال فيلم ريدلي سكوت «المجالد» 2000، الذي سيُعرض الجزء الثاني منه هذا الشهر وستكون ليزا من يُلحنه ويضع موسيقاه التصويرية، من دون هانز زيمر هذه المرة.

في سنة 2000 استمتعت الجماهير بالصوت العميق العذب لكنهم احتاروا في اللغة التي تغني بها السيدة. بدت لأناس شبيهة بالعبرية، وآخرون ظنوا أنها تشبه اليديشية، لكنها ليست من هذه ولا من تلك. ولا علاقة لها باللاتينية ولا باللغات الميتة ولا الحية. لقد ألقت بنا في حيرة لفترة من الزمن. لكن المؤكد أنها فازت بجائزة «غولدن غلوب» على تعاونها مع زيمر في إبداع موسيقى الفيلم، ورُشحت لـ«أوسكار» ذلك العام.

بعد البحث عن لغة هذه الفنانة، اتضح أن ليزا جيرارد تغني بلغة خاصة بها، لغة اخترعتها هي للحديث بواسطتها إلى الله، عندما كانت طفلة صغيرة. تقول ليزا:

«أغنِّي بلغة القلب، لغة مخترَعة امتلكتها منذ زمن طويل. أعتقد أنني بدأت الغناء بها عندما كان عمري 12 عاماً تقريباً. وحينها اعتقدت أنني كنت أتحدث إلى الله، عندما غنيت بهذه اللغة. الموسيقى هي مكان للجوء. إنها ملاذ من الرداءة والملل. إنها شيء بريء للغاية، ومكان يمكن أن تتوه فيه عن نفسك، في الأفكار والذكريات وكل التعقيدات. أعلم أنني سأغني لبقية حياتي. سأغني ما حييت، لأنني أؤمن بأنها هبة من الله ويجب التشارك فيها مع الآخرين».

رغم عذوبة ما قالت والأفكار التي أثارتها فإنها من ناحية فلسفية قد دخلت في «أرض العمالقة» دون أن تشعر بذلك، فقضية اللغة الخاصة من كبرى قضايا فلسفة اللغة في القرن العشرين، ولطالما تَجادل الفلاسفة حولها بين مُثبتٍ ونافٍ. فهذا جون ديوي ولودفيغ فتغنشتاين في فلسفته المتأخرة وويلارد كواين، كلهم يُنكر اللغة الخاصة، لأنه إذا ثبت قيامها ثبت أن أسماء الإحساسات تكتسب معناها عن طريق الارتباط بموضوع عقلي لا نلاحظه إلا ملاحظة داخلية.

إنهم لا يعترفون بلغة يبتكرها شخص واحد لا يفهمها سواه، ويرفضون أيضاً القول إن ما يدور في الذهن أمر خاص بكل فرد بصورة جوهرية ولا سبيل إلى إيصاله إلى الآخرين. وعندما نفكر في أفكارنا الروحية الخاصة، فإننا نستخدم المفردات التي تتقيد بالتعبير العام. لا بد من قواعد عامة، حتى عند الحديث عن الألم. قد أصف ألمي، وقد أصف ألمك، لكن لن يشعر بالألم إلا من وقع عليه.

لا بد أن نلاحظ هنا أن اللغة الخاصة ليست مجموعة من الرموز التي يضعها شخص فيأتي آخر فيفك رموزها. اللغة الخاصة لا يمكن تعليمها للآخرين مثل سائر اللغات المعروفة، بل هي مثل شطحات الصوفية، لا يمكن اعتمادها معرفةً مكتسَبةً تُدرّس للطلبة. هي لغة تشير كلماتها إلى الإحساسات الخاصة الذاتية وإلى الحياة الداخلية المعروفة للمتكلم وحده، والتي تكون مغلقة في وجه أي شخص آخر.

في حقيقة الأمر، حجة اللغة الخاصة، لو وقع الاعتراف بقيامها، تفنِّد الكثير مما قامت عليه الفلسفة الحديثة فيما يتعلق بالعقل والمعرفة، مثل الثنائية الديكارتية، أو المعطيات الحسية وأهميتها عند التجريبيين الإنجليز. وهي أيضاً تفنّد وجهة نظر فتغنشتاين في فلسفته المبكرة التي تقول بفكرة «الأنا وحدية» أي «الأنا» وحدها هي الموجودة. يقول فتغنشتاين:

«ما تعنيه الأنا وحدية صحيح تماماً، ومع ذلك لا يمكن قوله، وإنما يُظهر نفسه. والقول إن العالم هو عالمي يُظهر نفسه في الحقيقة القائلة إن حدود لغتي تعني حدود عالمي».

إنه يرفض كل الافتراضات التي تقوم عليها اللغة الخاصة، وعنده أن فهم اللغة والتمكن منها يستلزم القدرة على استعمال كلماتها وفقاً لقواعد معينة. واتباع قواعد استعمال اللغة هي ممارسة اجتماعية، فهي فعالية نتدرب عليها بوصفنا أعضاء في جماعة لغوية، ولا يمكن أن يكون اتباع القاعدة مسألة خاصة، لأنه في الحالة الخاصة لا توجد طريقة للتمييز بين اتباع القاعدة بالفعل وأن نظن أننا نتبعها. عند فتغنشتاين تكلُّم اللغة يعني الاشتراك في صورة الحياة، ويعتمد هذا الاشتراك في صورة الحياة على تدريب الإنسان، وهذا التدريب يحدث علانية في المجتمع. ولهذا لا توجد «خبرة خاصة» ولا «لغة خاصة» تُستخدم للتعبير عن تلك الخبرة، فاستعمال اللغة يتطلب معايير عامة وعلنية. ولا يمكن أن تقوم لغة من دون وسط سياقي. وجود اللغة يعني وجود قواعد تحكم استعمالها، وهذا يستلزم إمكانية فحص ذلك الاستعمال. والكلمات الدالّة على الإحساس والمشاعر الخاصة لا يمكن فحصها. إذن اللغة الخاصة مستحيلة، ولو افترضنا وجودها، فإنها ستكون عديمة الفائدة تماماً، حسب عبارة فتغنشتاين.

بهذا التقرير يتضح أنه ليس من الصواب أن نسمي ترانيم ليزا جيرارد لغة، فاللغة يجب أن تكون مفهومة في وسط اجتماعي معين ويجب أن تقوم على قواعد. لكنَّ هذا لا ينطبق على شطحات الصوفية، فلغتهم ليست لغة شخص واحد، بل هناك قاموس كامل خاص بهم، وهو تداولي فيما بينهم، ويمكن تدارسه وفهمه.

* كاتب سعودي