«صاحب المقام» يفتح المجال أمام الأفلام المصرية للعرض الرقمي

تداعيات «كورونا» منعت منتج العمل من طرحه بالسينما

أفيش فيلم «صاحب المقام»
أفيش فيلم «صاحب المقام»
TT

«صاحب المقام» يفتح المجال أمام الأفلام المصرية للعرض الرقمي

أفيش فيلم «صاحب المقام»
أفيش فيلم «صاحب المقام»

بعد توقف دور العرض السينمائية المصرية عن عرض أفلام محلية جديدة، خلال الأشهر الأربعة الماضية، بفعل أزمة «كورونا»، حاول بعض المنتجين المصريين تجاوز الأزمة عبر البحث عن حلول بديلة، من بينهم المنتج أحمد السبكي، الذي أعلن أخيراً عن عرض فيلمه «صاحب المقام»، بشكل حصري على منصة «شاهد. نت» الإلكترونية، خلال عيد الأضحى المبارك المقبل، وذلك بعدما تراجع عن عرضه في دور السينما خلال الموسم ذاته بسبب مخاوفه من تحقيق خسائر بسبب تداعيات «كورونا»، ويفتح هذا العرض الأول من نوعه المجال أمام الأفلام السينمائية المصرية للعرض الرقمي، بعد تعثر العرض السينمائي التقليدي أخيراً.
المنتج أحمد السبكي، الذي أعلن في وقت سابق عن عزمه عرض أفلامه خلال عيد الأضحى المقبل بدور السينما المصرية من أجل دعم الصناعة وحسب، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «العرض السينمائي حالياً لن يكون الخيار الصحيح لأن القدرة الاستيعابية للأماكن التي حددها مجلس الوزراء بـ25 في المائة لن تعود بالنفع على المنتجين أو الموزعين، لكن إذا سُمح بفتح دور العرض بشكل كامل أمام الجمهور، فإنه من الممكن طرح الأفلام لدعم السينما المصرية، وإعادة الحياة للحركة الفنية»، مشيراً إلى أنّ «المنتج يعمل برأس مال معين، ولا بد من إعادة تدويره».
ويعتبر السبكي أنّ عرض فيلمه عبر منصة رقمية أمر موفق، وأكد أنّه يفضل أن يكون العرض الثاني لفيلمه «صاحب المقام» عبر القنوات الفضائية، وليس عبر شاشات السينما خلال الفترة القصيرة المقبلة، قائلاً: «معظم المنتجين لا يزالون متخوفين بسبب تبعات أزمة كورونا».
فيلم «صاحب المقام»، بطولة يسرا، وآسر ياسين، وأمينة خليل، وبيومي فؤاد، وريهام عبد الغفور، ونسرين أمين، ومحمود عبد المغني، وإنجي المقدم، وإخراج ماندو العدل، انتُهي من تصويره نهاية العام الماضي، وتأجل عرضه سينمائياً بسبب وباء «كورونا»، وتدور أحداثه حول شاب يقع في العديد من المتاعب والأزمات، ويصبح الأمل الوحيد في حياته امرأة، تحاول مساعدته على التقرب من الله.
وبعد نحو ثلاثة أشهر من الإغلاق التام، سمحت السلطات المصرية في نهاية الشهر الماضي، بإعادة تشغيل دور العرض بنسبة إشغال 25 في المائة، مع الالتزام بإجراءات الوقاية والتباعد الاجتماعي.
ويرى نقاد مصريون، من بينهم دعاء حلمي، أن فكرة طرح الفيلم رقمياً «جريئة وجيدة جداً»، لا سيما بعد قرار مجلس الوزراء المصري بالفتح التدريجي لدور العرض السينمائي بنسبة 25 في المائة، وتقول حلمي لـ«الشرق الأوسط»: «عرض الفيلم بعد فترة كبيرة من تصويره أمر حتمي، فمن غير الطبيعي أن تظل الأعمال الفنية حبيسة، وهناك إمكانية لعرضها على المنصات التي تصدرت الواجهة بالآونة الأخيرة».
وتكتفي دور السينما المصرية حالياً بعرض بعض الأفلام القديمة التي سبق عرضها في مواسم سابقة، من بينها «لص بغداد» بطولة محمد عادل إمام وأمينة خليل، ومن إخراج أحمد خالد موسى، و«الفلوس» بطولة تامر حسني وزينة وخالد الصاوي وإخراج سعيد الماروق، و«رأس السنة» بطولة شيرين رضا وإياد نصار وأحمد مالك وبسمة وإخراج محمد صقر، و«صندوق الدنيا» بطولة رانيا يوسف وعمرو القاضي ومن إخراج عماد البهات، و«بنات ثانوي» بطولة جميلة عوض وهدى المفتي ومايان السيد وإخراج محمود كامل.
وحققت هذه الأفلام إيرادات ضعيفة منذ استئناف نشاطها مجدداً، في ظل الإجراءات الحكومية، وحذر المنتجين، وعدم طرح أفلام جديدة تستطيع اجتذاب الجمهور إلى دور السينما مرة أخرى.
ويؤكد الخبراء أنّ المنصات الرقمية، هي الوسيلة الأنجع حالياً في ظل تداعيات وباء «كورونا»، التي أثرت على صناعة السينما والدراما بشكل ملموس، وتعتمد بعض المنصات العالمية الشهيرة خلال السنوات الأخيرة على غرار «نتفليكس»، على إنتاج وعرض الأفلام الحصرية، قبل أن تبدأ منصة «شاهد» عرض فيلم مصري بشكل حصري لأول مرة بتاريخ السينما المصرية، وفق نقاد مصريين توقعوا أن يفتح «صاحب المقام» المجال لأفلام أخرى للعرض على المنصات الرقمية، لا سيما مع عزوف المنتجين عن عرض أعمالهم بدور العرض التقليدية.
وحرمت جائحة «كورونا» ثمانية أفلام مصرية جديدة من العرض في موسم عيد الفطر الماضي، من أبرزها «البعض لا يذهب للمأذون مرتين» بطولة كريم عبد العزيز ودينا الشربيني، و«أشباح أوروبا» الذي يمثّل عودة سينمائية لهيفاء وهبي بعد غياب خمس سنوات منذ أن قدمت فيلم «حلاوة روح»، ويشاركها البطولة كل من مصطفى خاطر وأحمد الفيشاوي، وكذلك فيلم «هيكل نظمي» بطولة رامز جلال وخالد الصاوي وغادة عادل.
ومن ضمن الأفلام التي كان مقرراً عرضها أيضاً خلال الموسم الماضي الفيلم الكوميدي «ديدو» بطولة كريم فهمي وحمدي الميرغني، وهو العمل الذي أُجّل من موسم رأس السنة الماضي، وفيلم «العنكبوت» بطولة أحمد السقا ومنى زكي وظافر العابدين، وفيلم «توأم روحي» بطولة حسن الرداد وأمينة خليل، وفيلم «الغسالة» بطولة هنا الزاهد وأحمد حاتم ومحمود حميدة، بالإضافة إلى فيلم «العارف... عودة يونس» بطولة أحمد عز وأحمد فهمي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)