لويس أبي ناضر... فرصة جديدة لتعزيز العلاقات العربية ـ اللاتينية

رئيس الدومينيكان تعود أصوله إلى بلدة بسكنتا اللبنانية

لويس أبي ناضر... فرصة جديدة لتعزيز العلاقات العربية ـ اللاتينية
TT

لويس أبي ناضر... فرصة جديدة لتعزيز العلاقات العربية ـ اللاتينية

لويس أبي ناضر... فرصة جديدة لتعزيز العلاقات العربية ـ اللاتينية

في السادس عشر من أغسطس (آب) المقبل تنتقل مقاليد الحكم في جمهورية الدومينيكان إلى الرئيس الجديد لويس أبي ناضر الذي انتخب في الخامس من هذا الشهر فاتحاً بذلك صفحة جديدة في سجلّ الرؤساء المتحدّرين من أصول عربية في أميركا اللاتينية، إذ تجدر الإشارة إلى أن والده يوسف أبي ناضر مولود في بلدة بسكنتا (قضاء المتن بلبنان)، مسقط رأس المفكّر والكاتب اللبناني المعروف ميخائيل نعيمة.

جمهورية الدومينيكان تتقاسم مع جارتها هاييتي جزيرة هسبانيولا، إحدى الجزر الـ13 في البحر الكاريبي والثانية من حيث المساحة بعد كوبا. ولقد كانت هسبانيولا أوّل موئل ثابت في القارة الأميركية للفاتحين الإسبان الذين نزلوا فيها بقيادة الإيطالي كريستوف كولومبوس عام 1492 بعد أشهر من سقوط مملكة غرناطة آخر الممالك العربية في الأندلس. ورغم أن اقتصاد الدومينيكان يسجّل أعلى مستويات النمو في أميركا اللاتينية منذ خمس سنوات معتمداً بشكل أساسي على قطاع السياحة، ما زالت نسبة الفقر فيها تتجاوز 45 في المائة من مجموع السكّان، ما يجعل منها واحدة من أكثر الدول تفاوتاً في مستوى الدخل بين مواطنيها.
من ناحية ثانية، لويس أبي ناضر ليس الرئيس الأول المتحدّر من أصول لبنانية في جمهورية الدومينيكان التي كان للمتحدّرين من هذا البلد حضور بارز في تاريخها السياسي منذ أن نالت استقلالها عن التاج الإسباني في أواخر القرن الميلادي الـ19. ثم تحررت من الاحتلال الأميركي مطالع العقد الثالث من القرن الماضي.
بطاقة هوية

ولد لويس يوسف أبي ناضر عام 1967 في عائلة ميسورة تتعاطى التجارة منذ أن هاجرت من لبنان في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكان والده يوسف ناشطاً في المعترك السياسي، فتولّى منصب نائب رئيس الحزب الثوري الذي كان من مؤسّسيه ومنظّره الأول قبل أن ينصرف إلى تأسيس جامعة معهد سانتو دومينغو للتكنولوجيا التي كان أوّل رئيس لها. وقد أطلق على قاعة المحاضرات الرئيسية فيها اسم مواطنه ميخائيل نعيمة الذي نقل أعماله إلى الإسبانية.
وتخرّج لويس من كليّة الاقتصاد في الجامعة التي أسسها والده. ثم سافر إلى الولايات المتحدة حيث تابع تخصصه في جامعة هارفارد العريقة، قبل أن يعود ليتولّى إدارة المؤسسات العائلية في مجالات السياحة وإنتاج مواد البناء، ويغدو رئيساً لمجموعة «آبيكور» السياحية التي تعتبر من أكبر شركات هذا القطاع في عموم أميركا اللاتينية.
وسار أبي ناضر الابن على خطى والده في السياسة فانضمّ إلى الحزب الثوري حتى العام 2014، عندما بدأ الحزب ينحرف عن الخط الذي رسمه والده. وعندها انشقّ عنه وأسس حزباً جديداً سماه «الحزب الثوري الجديد» (يسار الوسط) وترشّح عنه لرئاسة الجمهورية في العام 2016 حين نال 36 في المائة من الأصوات، معزّزاً موقعه وحظوظه استعداداً للانتخابات التالية.
وبالفعل، في الانتخابات التي أجريت يوم 5 يوليو (تموز) الجاري نال أبي ناضر نسبة 52.2 في المائة من الأصوات ليصبح الرئيس الأول الذي يخرج من صفوف المعارضة منذ 16 سنة، والأول في زمن جائحة «كوفيد - 19» التي أصيب بفيروسها هو وزوجته إستير عربجي... المتحدّرة هي أيضا من أصول لبنانية.

فوزه الانتخابي

من العوامل الرئيسية التي ساعدت على فوز أبي ناضر في الانتخابات الرئاسية ضد مرشح حزب التحرير الحاكم، الفساد الذي تراكم طوال 16 سنة احتفظ خلالها هذا الحزب بالحكم. وفي أول تصريح لأبي ناضر بعد انتخابه قال: «كان من الأسهل لو اقتصرت الأمور على معالجة إرث الفساد الذي تراكم طوال سنوات في المؤسسات الضعيفة والقضاء، لكن جائحة (كوفيد - 19) تفرض علينا تحديات لها الأولوية المطلقة في برنامج عمل الحكومة الجديدة». وللعلم، كان الرئيس الجديد قد وعد بإيجاد 600 ألف فرصة عمل جديدة خلال ولايته.
عودة، لمسألة أصل أبي ناضر، نشير إلى أنه في العام 1982 وصل متحدر آخر من أصول لبنانية إلى رئاسة جمهورية الدومينيكان هو يعقوب مخلوطة عازار، الذي كان رئيساً لمجلس الشيوخ، ثم صار نائباً لرئيس الجمهورية عندما توفّي الرئيس أنطونيو غوزمان، وتولّى مكانه لفترة 42 يوماً. وعاد ليترشّح في العام 1986 لكن الحظ لم يحالفه بسبب «انقلاب» عليه داخل الحزب الثوري الذي كان قد انضمّ إليه بعيد اغتيال الديكتاتور رافاييل تروخيّو عام 1961 وأصبح أصغر وزير في تاريخ الجمهورية عندما كان لا يزال في الثامنة والعشرين من عمره. ولقد أمضى مخلوطة آخر سنوات حياته في ولاية فلوريدا الأميركية حيث كان يعالج من مرض عضال. وظل رغم ابتعاده عن بلاده يتمتع بشعبية واسعة بين مواطنيه بدليل إطلاق اسمه بعد وفاته على أكبر شارع في العاصمة سانتو دومينغو.

جولة مع الماضي

جدير بالذكر أن حضور المتحدرين من أصول لبنانية في المشهد السياسي لجمهورية الدومينيكان يعود إلى أواسط القرن الماضي إبّان حكم الديكتاتور رافاييل تروخيّو الذي ارتبط اسمه بتاريخ الجزيرة ومنطقة حوض البحر الكاريبي بكاملها، إذ هيمن على الحياة السياسية طوال 32 سنة حتى اغتياله في العام 1961. حتى أن العاصمة سانتو دومينغو عرفت لفترة باسم سيوداد تروخيّو (أي مدينة تروخيّو). هذا، وكان تروخيّو جندياً في قوات مشاة البحرية الأميركية «المارينز» عندما اجتاحت الجزيرة عام 1916، ثم التحق بالكليّة الحربيّة التي أسستها الولايات المتحدة في الجزيرة ليتخرّج منها ويصبح قائداً للشرطة. ومن ثم، يتولّى قيادة الجيش ويحكم سيطرته على البلاد بعد رحيل الأميركيين. ولقد اتسمت فترة حكم تروخيّو الديكتاتور التي امتدت لخمس ولايات رئاسية ببطش موصوف، خلّده الكاتب والأديب البيروفي - الإسباني ماريو فارغاس يوسا في روايته الشهيرة «عيد التيس». وبالمناسبة، كان الديكتاتور تروخيّو هو الذي يختار الرؤساء في الفترات التي لم يكن يتولّى فيها الرئاسة شخصياً.
أما بالنسبة لظهور المتحدرين من أصول عربية، وبالذات اللبنانية، في المشهد السياسي للدومينيكان، فبدأ مع عام 1961 عندما اغتيل الديكتاتور الذي روّع الجمهورية ومنطقة الكاريبي على يد مهاجر لبناني اسمه سالفادور سعد الله. ولقد قال سعد الله بشجاعة أمام المحققين عندما ألقي القبض عليه «لم يعد بإمكاني أن أتحمّل رؤية هذه المظالم، فقرّرت القضاء على رأس التنّين». ومع أن أسرته حاولت إقناعه بالانتحار، خاصة أن والده كان من الموالين لتروخيّو وكان مقرّباً منه، فإنه رفض وأُعدم على يد ابن الديكتاتور الذي فرّ بعد ذلك إلى الخارج.

25 مليوناً يتحدرون من أصول عربية

يقدَّر عدد المهاجرين العرب أو المتحدرين من أصول عربية في دول أميركا اللاتينية بحوالي 25 مليون نسمة، جاء معظمهم من لبنان وسوريا وفلسطين، ولقد نزحت عائلاتهم في نهايات القرن الـ19 الميلادي ومطع القرن العشرين هرباً من الاضطهاد الذي كانوا يعانون منه تحت السيطرة العثمانية، وسعياً وراء سبل الرزق التي كانت تضيق في بلادهم. وما زال هؤلاء إلى اليوم يُعرفون بلقب «الأتراك» Turcos لكونهم وصلوا تلك البلاد حاملين وثائق سفر تركية إبان العهد العثماني.
ومنذ بداية تلك الهجرة، كانت البرازيل الوجهة الرئيسية التي قصدها أبناء بلاد الشام الذين يقدَّر عدد المتحدرين منهم هناك بما يزيد على 12 مليون نسمة، منهم حوالي تسعة ملايين من أصول لبنانية. وتأتي الأرجنتين في المرتبة الثانية حيث يشكّل المتحدرون من أصول عربية ما يقارب 10 في المائة من مجموع سكانها، ثم تشيلي التي كانت الوجهة المفضّلة للمهاجرين من فلسطين... وبالذات من رام الله وبيت لحم والقدس.
ورغم بروز العديد من أبناء الجاليات العربية في أميركا اللاتينية في عالم التجارة والاقتصاد، وتأثيرهم المباشر على نموّ المبادلات التجارية بين بلدان المنطقة والعالم العربي التي بلغت في بعض الحالات مثل البرازيل 12 في المائة من إجمالي حركة الاستيراد والتصدير، فإنهم برزوا أيضاً في المعترك السياسي، حيث يشكل الآن انتخاب أبي ناضر رئيساً للدومينيكان فرصة جديدة لتعزيز العلاقات بين أميركا اللاتينية والعالم العربي.
وحقاً، لعب كثرة من اللاتينيين العرب أدواراً مؤثرة وتولوا مناصب سياسية ودبلوماسية مرموقة، ووصل عدد كبير منهم إلى سدّة الرئاسة في أكثر من بلد على امتداد القارة من الدومينيكان إلى الأرجنتين جنوباً.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.