كلينتون: لحظات من الانتصار والانكسار

في الـ67 من عمرها أكثر انضباطا وفطنة سياسية وهي تتطلع إلى البيت الأبيض

هيلاري رودهام كلينتون وابنتها تشيلسي والرئيس الأسبق بيل كلينتون يلقي كلمة في حفل لجمع التبرعات في لوس أنجليس عام 2000 (نيويورك تايمز)
هيلاري رودهام كلينتون وابنتها تشيلسي والرئيس الأسبق بيل كلينتون يلقي كلمة في حفل لجمع التبرعات في لوس أنجليس عام 2000 (نيويورك تايمز)
TT

كلينتون: لحظات من الانتصار والانكسار

هيلاري رودهام كلينتون وابنتها تشيلسي والرئيس الأسبق بيل كلينتون يلقي كلمة في حفل لجمع التبرعات في لوس أنجليس عام 2000 (نيويورك تايمز)
هيلاري رودهام كلينتون وابنتها تشيلسي والرئيس الأسبق بيل كلينتون يلقي كلمة في حفل لجمع التبرعات في لوس أنجليس عام 2000 (نيويورك تايمز)

عندما كانت محامية شابة وعضوا في اللجنة المعنية بقضية «ووترغيت» في سبعينات القرن الماضي، سافرت هيلاري رودهام إلى بلدتها ذات ليلة برفقة رئيسها، برنارد نوسبوم. وأثناء جلوسها بجانبه في السيارة بأخبرته أنها تود أن تقدمه إلى صديقها. وقالت «بيرني، إنه سيصبح ذات يوم رئيسا للولايات المتحدة».
إلا أن نوسبوم تحت وطأة الضغوط التي اتسمت بها تلك الفترة لم يملك سوى الانفجار غضبا بوجهها بسبب سذاجتها، وقال «هيلاري، هذا أحمق شيء سمعته». لكنها صرخت بوجهه في المقابل، قائلة «أنت لا تدري شيئا عما تتحدث عنه!»، ثم وجهت إليه سبابا. وعن الموقف، قال نوسبوم «يا إلهي، لقد بدأت في الصياح في وجهي، ثم خرجت من السيارة وأغلقت الباب بعنف، قبل أن تدخل بعصبية إلى المبنى المجاور».
ومرت الأيام وأثبتت أنها كانت على صواب وأنه كان مخطئا. لقد آمنت رودهام، التي تزوجت لاحقا صديقها الطموح، بيل كلينتون، حتى في ذلك الوقت بأن الحياة ستحملها نحو البيت الأبيض. والآن، ربما تسعى للعودة مجددا، ليس كزوجة وشريكة، وإنما بشروطها هي.
خلال الشهور الأخيرة، وفي الوقت الذي بدأت فيه هيلاري كلينتون تستعد لاحتمالات خوضها حملة انتخابية رئاسية عام 2016، فإنها غالبا ما كانت تصف السنوات التي قضتها داخل البيت الأبيض بأنها كانت سنوات نضال بالنسبة لها، مثلما الحال مع الكثير من الأمهات، بين احتياجات تنشئة ابنة شابة ومطالب العمل. أما الأمر الذي تغفل ذكره بخصوص السنوات التي قضتها كسيدة أولى للبلاد فهو تعاملاتها الفوضوية وأحيانا الغاضبة والمفتقرة إلى اللباقة السياسية مع الجمهوريين من أعضاء الكونغرس ومساعدي البيت الأبيض. الآن، صدرت مجموعة من الأوراق مؤلفة من 6.000 صفحة تحوي لقاءات مع أكثر من 60 من مسؤولي إدارة كلينتون، وترسم صورة أدق لسيدة أولى رائعة، لكنها لا تتحلى دوما بالذكاء السياسي.
وتكشف اللقاءات عن لحظات الانتصار والانكسار في حياتها خلال فترة رئاسة زوجها، وصدر الكتاب الذي يحوي المقابلات الشهر الماضي عن مركز ميلر التابع لجامعة فيرجينيا.
الواضح أن تلك السنوات أسهمت في تشكيل شخصية هيلاري كلينتون، وهي فترة طغت عليها مشاعر الجرأة والغطرسة، وهي فترة تطورت خلالها من محامية شابة عنيدة منبهرة بشدة بالرجل الذي ستتزوجه إلى شخصية سياسية في حد ذاتها. وخرجت من المعارك التي خاضتها حول الرعاية الصحية وقضية «وايت ووتر» أكثر حنكة، لكنها خرجت أيضا مليئة بالندوب العميقة وأصبحت سياسية حذرة تملك فكرة أعمق عن كواليس الحياة داخل واشنطن، وأصبحت شديدة الحذر تجاه المشروعات الطموحة التي ربما تفتقر إلى الشعبية.
الآن، في الـ67 من عمرها، أصبحت هيلاري أكثر انضباطا، بينما اتسمت آنذاك بالعصبية الشديدة وميلها لتوجيه تعليقات ساخرة غير متوقعة خلال الاجتماعات الخاصة وجلسات الاستماع داخل الكونغرس. وبينما تواجه هيلاري حاليا انتقادات بأنها تميل لتيار الوسط مما يعرضها لهجوم من اليسار، كانت هيلاري حينها تعد ليبرالية تهمس في أذن زوجها كي يرفض اتفاقية التجارة الحرة بأميركا الشمالية وإصلاح منظومة الرفاه.
من جهته، قال آلن بليندر، الذي عمل خبيرا اقتصاديا لدى البيت الأبيض «لقد أصبحت تمتلك الآن فطنة سياسية أكبر عما كان عليه الحال مطلع عام 1993. أعتقد أنها تعلمت مما سبق، خاصة أنها ذكية حقا. إنها تتعلم باستمرار وتعي الأخطاء التي ارتكبتها».
الواضح أنه لم يسبق أن حظي أي رئيس أميركي بشريكة مثل هيلاري رودهام كلينتون، فقد حرصت على حضور اجتماعات صياغة استراتيجية الحملة الرئاسية في ليتل روك بأركنساس، وأصبحت لاحقا السيدة الأولى الوحيدة حتى الآن التي كان لها مكتب في الجناح الغربي من البيت الأبيض. وكانت تتدخل لإنهاء اجتماعات زوجها التي كانت تمتد بلا مبرر. وصاغت حججه الدفاعية للخروج من الفضائح التي واجهته.
وأعربت أليس ريفلين، التي عملت مديرة لشؤون الموازنة بالبيت الأبيض، عن اعتقادها أن «الأمر الذي يفتقده هو النظام، في الحياة الشخصية وحياته الفكرية أو المتعلقة باتخاذ القرارات، إلا إذا تدخل أحد لإنقاذه. وأعتقد أنه على امتداد جزء كبير من حياته المهنية كانت هيلاري من ينقذه لكونها أكثر حسما وانضباطا منه، ولحرصها على العمل المستمر».
شكلت هيلاري قوة مستقلة داخل البيت الأبيض، حيث عملت بمفردها على دفع قضية الرعاية الصحية لداخل أجندة العمل، وأجبرت من خشوا أن تسيء إدارة هذا الملف على الصمت، لكنها عانت نوبات من الغضب الشديد وحملت بداخلها كراهية شديدة تجاه واشنطن. كما تحملت عبء علاقة شديدة التعقيد مع زوجها اللعوب. ومع ذلك، كانت هي الشخص الذي غالبا ما يقوم بتوجيه طاقاته ودفعه نحو النجاح وإنقاذه من نفسه. وقال نوسبوم الذي أصبح المحامي الأول بالبيت الأبيض في إدارة بيل كلينتون، إن هيلاري «ربما كانت ناقدة وتعاني من نوبات غضب من وقت لآخر، لكنها كانت قوية للغاية، وكان هو بحاجة ماسة لها. أعتقد أنه لم يكن ليصل للرئاسة من دونها».
رغم تفاخرها أمام نوسبوم، كانت هيلاري عقلانية تماما في حساباتها بخصوص ما إذا كان زوجها على استعداد للترشح للرئاسة. عندما كان حاكما لأركنساس، فكر بيل كلينتون في الترشح للرئاسة عام 1988، عندما يكمل عامه الـ42، معتقدا أن التجربة ستفيده حتى إذا خسر، لكن زوجته اعترضت. وقالت له حينها «إما أن تترشح لتفوز أو لا تترشح على الإطلاق». وعن ذلك، قال فرانك غرير، خبير وضع الاستراتيجيات الإعلامية «أعتقد أنها شعرت بأنه غير مستعد آنذاك».
ربما كانت هناك أسباب أخرى أيضا، حيث اشتكى بيل كلينتون لصديقه بيتر إدلمان من أن السيناتور آل غور من تينيسي، الذي كان يعد حملته للترشح عن الحزب الديمقراطي عام 1988 «ينشر شائعات حول أن لديه علاقات خارج الزواج».
وقد سمع آخرون بهذا الأمر أيضا. بعد لقائها بيل كلينتون، تحدثت ريفلين عنه لصديقتهما المشتركة دونا شالالا. وقد اتفقت شالالا مع فكرة أن كلينتون شخصية «رائعة»، لكنها استطردت بأنه «لن يصبح رئيسا للولايات المتحدة قط». وعندما استفسرت ريفلين عن السبب، قالت شالالا «إن لديه مشكلة مع النساء»، حسبما ذكرت ريفلين.
بحلول عام 1992، أصبحت هيلاري مقتنعة بأنه أصبح مستعدا لخوض التنافس الرئاسي، وحرصت على مواجهة «مشكلته مع النساء» مباشرة خلال الاجتماعات التي عقدت لوضع استراتيجيات الحملة الانتخابية.
من جهته، قال ستانلي غرينبرغ، مسؤول استطلاعات الرأي بالحملة «عقدنا اجتماعا تم تخصيصه بالكامل لهذا الأمر. كان اجتماعا غير مريح. وأتذكر أن هيلاري قالت «طبعا إذا كان بإمكاني رفض الأسئلة بهذا الخصوص، كنت سأرفضها». وقد تحدثت عن هذا الأمر بقدر ما تحدث هو.
وفي الوقت الذي شكلت فيه غراميات كلينتون تحديا، فإن بعض مساعديه شعروا بالقلق من أن زوجته تشكل تحديا هي الأخرى، حيث رأى بعضهم أن شخصيتها القوية قد تجعل بيل يبدو بجانبها شديد الضعف. وعن ذلك، قالت سوزان توماسيز، الصديقة المقربة من هيلاري كلينتون والتي شاركت بالحملة «كانت شخصيتها قوية للغاية لدرجة أن البعض شعر بأنه أثناء وجودهما معا فإن شخصيتها القوية تجعل كلينتون يبدو ضعيفا».
بمجرد دخولها البيت الأبيض تحولت هيلاري لنمط آخر من السيدات الأوائل، فعندما تولت مسؤولية إصلاح منظومة الرعاية الصحية استعانت بمستشار ذكي وشديد الثقة بنفسه وهو إيرا ماغازينر، ووضعا خطة جريئة وشديدة الدقة. بيد أن جهود إصلاح الرعاية الصحية وتوسيع نطاق المشاركة الحكومية داخل القطاع الخاص أثارت مشكلات سياسية وانقسامات داخلية عميقة بالبيت الأبيض. وجرى النظر لماغازينر باعتباره شخصا يأبى التعاون مع الآخرين، بينما أبدى القليلون استعدادهم للدخول في تحد مع زوجة الرئيس. وكانت شالالا، التي تم اختيارها وزيرة للصحة والخدمات الإنسانية، واحدة من هؤلاء القلائل.
وقال إدلمان، الذي عمل مساعدا لشالالا، إنها أخبرته بأنها «أخبرت هيلاري بأن هذا الأمر سيؤدي لكارثة، وردت علي بأنني أشعر بالغيرة لأنني لست مسؤولة عن الأمر ولهذا اشتكي». في النهاية، شعر بيل وهيلاري بصدمة بالغة جراء انهيار جهودهما بهذا المجال داخل الكونغرس، في هزيمة أدت لسيطرة الجمهوريين على الكونغرس عام 1994.
في هذا الصدد، قال ويليام إيه غالستون، مستشار السياسات الداخلية «ربما شكل الزوجان قوة يتعذر مقاومتها، لكنهما واجها عقبة لا سبيل للتغلب عليها». وفي أعقاب هذا الفشل «انسحبت هيلاري لبعض الوقت كي تضمد جراحها»، حسب تعبير غالستون، حيث قل ظهورها في الجناح الغربي وزاد سفرها للخارج. وعملت على التأكيد على نفوذها بأساليب أقل وضوحا، حيث أقنعت زوجها باختيار مادلين أولبرايت كأول وزيرة خارجية، ووضعت المعاملة الوحشية للنساء على أيدي «طالبان» على أجندة البيت الأبيض.
إلا أن فصول فضيحة أخرى كانت بانتظار الزوجين، ورفضت هيلاري الكشف عن ملفات بخصوص استثماراتها هي وزوجها في صفقة شراء أرض فاشلة في أركنساس، وهو ما عرف بقضية «وايت ووتر». وبدأ المحقق المستقل كينيث دبليو ستار في التحقيق في ما إذا كان بيل قد حنث بيمينه في ما يخص شهادته حول علاقته بمونيكا لوينسكي، المتدربة بالبيت الأبيض. وظل الرئيس ينكر هذه العلاقة لشهور، وأعلنت زوجته أنها تصدقه، لكن هذه الثقة لم تمتد لجميع المقربين من الزوجين. وقالت توماسيز إن هيلاري شعرت بغضب عارم تجاه زوجها، لكنها لم تفكر في الانفصال قط. وأضافت «أعتقد أنها لم تكن لتتردد في ضربه بمقلاة لو أتيحت لها، لكنها لم تفكر قط في تركه أو الطلاق منه».
بدلا من ذلك، اتجهت السيدة الأولى لـ«كابيتول هيل» لحشد دعم الديمقراطيين ضد سحب الثقة من الرئيس. وبدلت هذه الأزمة صورة هيلاري العامة تماما، حيث أظهرت استطلاعات الرأي ارتفاع شعبيتها بصورة هائلة، مما شجعها على التفكير في الترشح لعضوية مجلس الشيوخ عن نيويورك، وهي فكرة بدت حينها غير محتملة إطلاقا لدرجة دفعت السكرتير الصحافي للبيت الأبيض، جو لوكهارت، لنفيها علانية، حتى تدخلت هي وبدأت تلمح للأمر.
ومن هنا بدأت الحياة السياسية لهيلاري، والآن بعد عقد ونصف العقد تبدو أعينها متركزة ثانية على البيت الأبيض. ولك أن تتخيل ما كان نوسبوم ليقوله لو أنها صارحته بذلك في السبعينات!

* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)