سجون طرابلس... مقار للمنسيين وبقايا نظام القذافي

ضمت آلاف المعتقلين... بينهم السنوسي ومنصور والساعدي

لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)
لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)
TT

سجون طرابلس... مقار للمنسيين وبقايا نظام القذافي

لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)
لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)

قبل 24 عاماً، اقتحمت مجموعة من القوات الخاصة غالبية زنازين سجن «أبو سليم»، بضواحي العاصمة الليبية طرابلس، التي كانت تضم حينها 1269 معارضاً لنظام العقيد معمر القذافي، وفتحت النيران عليهم فأردتهم قتلى، في قضية شهيرة ظلت متداولة في المحاكم الليبية إلى أن أُغلقت منتصف ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
غير أن الجريمة التي روعت الليبيين، وشغلتهم منذ ارتكابها في التاسع والعشرين من يونيو (حزيران) عام 1996، تظل واحدة من جرائم القتل الجماعي الكاشفة لما يجري داخل ردهات وزنازين سجون ومعتقلات طرابلس، قديماً وحديثاً، قبل إسقاط نظام القذافي وبعده.
ورصدت الأمم المتحدة، في تقرير قدمته إلى مجلس الأمن الدولي، احتجاز آلاف المواطنين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، في مرافق تخضع اسمياً لسيطرة وزارتي الداخلية والدفاع التابعتين لحكومة «الوفاق»، بزعامة فائز السراج، أو في مرافق تديرها مباشرة جماعات مسلحة، و«لم تتح لهؤلاء المحتجزين فرصة للطعن في مشروعية احتجازهم، أو التماس الإنصاف عن الانتهاكات التي تعرضوا لها».
وبالتبعية، كما تبدل الحال، عقب رحيل النظام السابق قبل 9 أعوام، تغيرت الأوضاع داخل تلك السجون بمجيء نظام «ثورة 17 فبراير (شباط)»، فأصبحت تضم بعضاً من «المتهمين بجرائم تعذيب» في الماضي من أنصار القذافي، لكنها في ظل الفوضى الأمنية والعسكرية، ومع توسيع نفوذ الأفراد والمدن والقبائل، اتسعت رقعتها وتمددت، فأصبح القائمون عليها في كثير من الأوقات بمثابة «القاضي والسجان»، بل إن بعضهم اتخذ لنفسه سجوناً خاصة.
ويُنظر إلى هذه السجون والمعتقلات، وفقاً لروايات من دخلوها وعايشوها، على أنها «عالم سري مخيف، ليس لتنفيذ محكومية محددة بحكم قضائي مُعلن، بقدر ما هي غياهب يُلقى فيها من يُراد له الاختفاء، مؤقتاً أو بشكل دائم». ويرى رئيس «المنظمة الليبية للتنمية السياسية»، جمال الفلاح، في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، أن «السجون السرية أو الخاضعة للمجموعات المسلحة هي معتقلات، ولا تخضع لسلطة الدولة، سواء الأجهزة الأمنية أو القضائية، ومن يديرها الميليشيات المسلحة، إذ تمتلك كل مجموعة سجنها الخاص، ومنها ما هو سري، ومكانه غير معلوم إلى الآن».
وذهب الفلاح الذي ينتمي إلى مدينة بنغازي (شرق البلاد) إلى أن «هذه المجموعات هي من تمارس صلاحية الضبط القضائي، وهي القاضي أيضاً، بحيث أصبح كل آمر مجموعة يمتلك سجناً يُلقي القبض على من يشاء من مواطنين أو يُطلق سراحهم، من دون أي سند قانوني».

«الرويمي» الأشد قسوة

والسجون في غرب ليبيا أنواع، لكل منها اسم رسمي وآخر غير رسمي، ويعد أشدها قسوة سجن عين زارة (الرويمي) بجناحيه، أو سجن عين زارة السياسي (البركة) للإصلاح والتأهيل، ويقع في ضواحي جنوب شرقي طرابلس. وترصد منظمات حقوقية أنه منذ إسقاط القذافي في عام 2011، يشهد هذا السجن انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وتديره وتسيره الميلشيات المسلحة كيفما تشاء، رغم تبعيته اسمياً لوزارة العدل بحكومة «الوفاق».
والرويمي بشقيه يضم قرابة ألفي سجين موقوفين على ذمة قضايا سياسية وعسكرية، لكنه في نظر منظمات حقوقية ودولية، من بينها «هيومان رايتس ووتش»، شهد على مدار السنوات التسع الماضية عمليات تعذيب واعتقالات تعسفية مطولة، أشهرها ما رصدته المنظمة، وتحدثت عنه أطراف محلية، في أغسطس (آب) 2013، عندما شهد تمرداً من المعتقلين والمساجين، تنديداً بتعرضهم للعنف المفرط بهدف إجبارهم على إنهاء الإضراب. وفي هذه الحادثة، وفقاً لشهادات حقوقيين وأُسر المعتقلين «أصيب عدد من السجناء بإطلاق الرصاص الحي بشكل مباشر من قبل الحراس».
وتعرض سجن عين زارة «الرويمي» لقصف صاروخي في الثالث والعشرين من مارس (آذار) 2020، مما دفع وزارة العدل بحكومة «الوفاق» إلى مناشدة المجتمع الدولي التدخل الفوري لإيقاف قصفه، بعدما قالت إنه أسفر عن إصابة 3 من العاملين على الأقل.
وحملت سلطات «الوفاق» المسؤولية القانونية والأخلاقية لـ«القوات المعتدية على العاصمة»، في إشارة إلى «الجيش الوطني الليبي»، بقيادة المشير خليفة حفتر، محذرة من «وقوع كارثة إنسانية إذا لم يتوقف الاستهداف المباشر للمؤسسة ومحيطها».
وعلى مدار السنوات الماضية، والأنباء الكاشفة لما يجرى في ردهات وزنازين «الرويمي» بشقيه مُروعة، فضلاً عن التقارير التي أعلنت عنها منظمة «ضحايا» الليبية لحقوق الإنسان، خلال العامين الماضيين، من «تعرض كثير من السجناء به إلى أمراض فتاكة سارية، إلى جانب إصابة ما يزيد على 10 في المائة من النزلاء بالدرن».
وتحدث الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن «تسجيل انتشار الأمراض بين السجناء، وخاصة الأمراض المعدية والسارية، مثل داء السل والجرب، وفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، والتهاب الكبد، بزيادة كبيرة»، و«عملت البعثة مع وزارة العدل لدعم تحسين الرعاية الطبية للسجناء».
ورصد غوتيريش، في التقرير الذي قدمه إلى مجلس الأمن منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، أنه خلال الفترة المشمولة بالتقرير، كان نحو 8500 شخص محتجزين في 28 سجناً رسمياً تشرف عليها وزارة العدل، وكان نحو 60 في المائة من هؤلاء رهن الاحتجاز السابق للمحاكمة، كما بلغ مجموع النساء المحتجزات 280 امرأة، منهن 180 من غير الليبيات، وكان 109 من الأطفال بين المحتجزين في السجون، أو لدى الشرطة القضائية.

تصفية معتقلين

والجريمة التي لا تقل بشاعة عما سبق، وفقاً لرئيس قسم التحقيقات بمكتب النائب العام الصديق الصور، تمثلت في «تصفية 12 معتقلاً عقب صدور حكم قضائي بالإفراج عنهم من سجن الرويمي، منتصف يونيو (حزيران) 2016». وحينها، وجهت جهات ومنظمات ليبية عدة اتهامات إلى الميليشيات بقتل الشباب الذين ينتمون إلى منطقة وادي الربيع. وكالعادة، لم تدافع تلك الميليشيات عن نفسها، بل زادت من حشر المواطنين في السجون.
وقال الصور، في تصريحات صحافية سابقة، إن السجناء كانوا متهمين في القضية التي اتهمت فيها مجموعة من أعضاء ما كان يسمى إبان النظام السابق «فريق العمل الثوري»، وقتل فيها متظاهرون يومي 19 و20 من فبراير 2011. وأضاف الصور أن عدداً من ذوي ضحايا المتظاهرين في أثناء الثورة، أقاموا دعوى قضائية تتهم مجموعة من «فريق العمل الثوري» بقتل وتعذيب أبنائهم. وبعد استيفاء التحقيق من مكتب المحامي العام في طرابلس، أحيل المتهمون إلى محكمة الجنايات بتهمة القتل والانتماء إلى تشكيل عصابي.
وذكر الصور أنه صدر حكم بالإفراج عن 19 سجيناً، قائلاً: «غادر السجناء السجن مع عائلاتهم، وفق سجل بلاغات السجن. وبعدها، فوجئنا بالعثور على 12 جثة من السجناء المفرج عنهم».
غير أن الخبير في «مركز الخبرة القضائية والبحوث»، التابع لوزارة العدل في الحكومة المؤقتة (شرق ليبيا)، وسام الورفلي، أرجع تزايد هذه الانتهاكات في السجون إلى «إخفاق الحكومات المتعاقبة بعد عام 2011 في التصدي لها». وتذكر الورفلي، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، جانباً من أحداث السنوات التسع الماضية، قائلاً إن «مجموعات مسلحة عدة تكونت في تلك الفترة لمواجهة حكم القذافي، فسيطرت على الأرض، وتوسعت بشكل ملحوظ، وبالتالي أصبح الاعتقال التعسفي لفترات طويلة سمة مميزة في ليبيا». وشرح أن «هذه المجموعات كانت تحتجز حتى من تشتبه بتعاطفه مع نظام القذافي في ثكنات عسكرية أو مزارع أو حتى منازل».
و«الرويمي» ليس وحده في اعتماد القسوة وتعذيب المعتقلين، فهناك معتقلات عدة خارجة على القانون كان يوارى فيها كثير من السياسيين والمعارضين فترات زمنية طويلة، لعل منها سجن «الهضبة» الذي كان يضم قيادات من النظام السابق، مثل البغدادي المحمودي آخر رئيس وزراء في عهد القذافي، وأبو زيد دوردة رئيس جهاز الأمن الخارجي، وعبد الله السنوسي الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية، وعبد الله منصور المدير الأسبق للأمن الداخلي، والساعدي القذافي نجل الرئيس الراحل، قبل أن يتم اقتحامه في اشتباكات بين الميليشيات في 2017، ما اضطر حكومة «الوفاق» إلى إغلاقه، ونقل جميع نزلائه إلى «الرويمي».
وأطلقت سلطات طرابلس سراح دوردة والمحمودي، وقيادات عدة من النظام السابق، العام الماضي، عقب 8 سنوات من الاعتقال. وفي أول ظهور علني له، أطل دوردة من على إحدى شاشات الفضائيات في الخامس من يناير (كانون الثاني) الماضي، ليؤكد دعمه لـ«الجيش الوطني»، ويحذر من «مخططات تركيا وتنظيم الإخوان في ليبيا والمنطقة».

إخفاء الخصوم

وتشهد طرابلس عمليات خطف وإخفاء واسعة لسياسيين وقضاة وصحافيين وإعلاميين ومواطنين، لعل أشهرها ما تم مع رئيس الوزراء الليبي السابق علي زيدان في أثناء وجوده بأحد الفنادق بالعاصمة، في 13 أغسطس (آب) 2017، عندما دهمت ميليشيات مسلحة كانت تستقل سيارات دفع رباعي فندق «الشرق»، واقتادوا الرجل الذي كان يبلغ حينها 67 عاماً، إلى وجهة سرية لعشرة أيام، حتى توسط لديها السراج، ونجح في إطلاق سراحه.
وسبق لزيدان الذي تولى رئاسة وزراء ليبيا من 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 إلى 11 مارس (آذار) 2014، أن خُطف عندما كان بالمنصب في 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2013، على أيدي ميليشيات «غرفة عمليات ثوار ليبيا»، لكن تم تحريره بعد ساعات.
ورغم أن حكومة «الوفاق» تقول إنها تفرض سيطرتها على جميع السجون، فإن حقوقيين يرون أن «معتقلات طرابلس باتت مقار لمن يريدون نسيانه، أو الإبقاء عليه مدى الحياة وراء القضبان، لكون وجوده في الحياة العامة يتعارض مع توجهات الميليشيات».
لكن مسؤولاً في إحدى هذه الميليشيات دافع عنها في مواجهة تحميلها مسؤولية إخفاء معارضيها قسراً في غرب البلاد. وأقر في حديث إلى «الشرق الأوسط»، شرط عدم ذكر اسمه، بـ«وجود مجموعات مسلحة تمتهن خطف وابتزاز المواطنين»، لكنه قال إن «هؤلاء يمارسون أعمالاً يعاقب عليها القانون، لكننا سلطة تنفيذ للقانون، بحكم أننا لدينا شرعية، ونتبع وزارة الداخلية».
واستغرب مستشار الشؤون الخارجية لرئيس المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية، خالد الغويل، الإبقاء على بعض قيادات النظام السابق في المعتقلات، بعد حصولهم على أحكام بالبراءة.
وقال الغويل إن «القضاء يبرئ عبد الله منصور والساعدي القذافي وعبد الله السنوسي، ولم يتم الإفراج عنهم إلى الآن». وأرجع الإبقاء عليهم إلى أن «القضاء ليست في يده السلطة، بقدر ما هي في قبضة عصابات مارقة خارجة على القانون... يوجد كثير من معتقلي الرأي في السجون منذ سنوات، ولم يعرضوا أمام القضاء».

تجاوزات خلف القضبان

وكان مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قد رصد مخالفات قانونية وإنسانية عدة، في تقرير سابق جاء تحت عنوان «تجاوزات خلف القضبان»، وقال إنه «لا تتوافر أرقام دقيقة عن عدد المحتجزين، ومراكز الاحتجاز الموجودة في ليبيا. كما أنه لا توجد إحصاءات بشأن مراكز الاحتجاز التابعة شكلياً لوزارتي الداخلية والدفاع، ولا تلك التي تديرها المجموعات المسلحة مباشرة».
ولفت التقرير إلى أن «هناك عدداً من مراكز الاحتجاز العاملة الخاضعة لسيطرة الدولة بمستويات مختلفة»، وصنفها إلى مراكز الاحتجاز الخاضعة شكلياً لسيطرة المؤسسات الوطنية، غير أنها تخضع لسيطرة جزئية أو كاملة للمجموعات المسلحة، والتي كانت تديرها قبل دمجها شكلياً في الوزارات المعنية، وتشمل: سجون الشرطة القضائية التابعة لوزارة العدل، والمستخدمة في احتجاز فئات مختلفة من المعتقلين، بمن فيهم المتهمون أو المدانون بارتكاب جرائم عادية، فضلاً عن المحتجزين «لأسباب ذات صلة بالنزاع»، والمحتجزين لأسباب أمنية أو سياسية.
والمراكز التابعة لوزارة الداخلية، مثل مركز الاحتجاز التابع لـ«قوة الردع الخاصة» في معيتيقة، ومركز الاحتجاز التابع للأمن المركزي في أبو سليم، يقتضي القانون أن يتم احتجاز المعتقلين فيها لفترات قصيرة فقط. غير أن فترات الاعتقال تمتد في الواقع لفترات مطولة، بجانب السجون التابعة لوزارة الدفاع، مثل سجن «السكت» في مصراتة، المستخدم لاحتجاز العسكريين وكذلك المدنيين المسلوبة حريتهم لأسباب ذات صلة بالنزاع أو الأمن القومي.
وتحدث رئيس «المنظمة الليبية للتنمية السياسية» إلى «الشرق الأوسط» عن سلطة الميليشيات وحريتها فيما تقرره. وقال الفلاح إن «هناك مجموعة منها تعتقل المواطنين أو السياسيين وتخفيهم في سجون سرية، ولكل من هذه المجموعة أماكن تسيطر عليها وتتحكم فيها، سواء من ناحية القبض أو الانتشار داخلها»، وأضاف: «للأسف، حتى وزارة الداخلية بحكومة (الوفاق) ليست لها السيطرة على هذه المجموعات، وكذلك القضاء، وهناك عدد من الأوامر التي أصدرها النائب العام بالقبض على أفراد من هذه المجموعات المسلحة، ولم يستطع أحد القبض عليهم أو الاقتراب منهم، وطبعاً لن يسلموا أنفسهم بمحض إرادتهم».
ما ذهب إليه الفلاح، لفت إليه التقرير الأممي، متحدثاً عن وجود مراكز احتجاز تخضع للسيطرة المباشرة من المجموعات المسلحة، ولا ترتبط بأي صلة رسمية بمؤسسات الدولة «وإن كانت تبدو في بعض الحالات تعمل بمعرفتها، إن لم تكن بموافقتها ضمنياً... ويتم نقل المحتجزين فيها بشكل دوري إلى مراكز احتجاز رسمية، ومن بينها مراكز مؤقتة دشنتها في ثكنات ومنازل ومزارع ومبان مهجورة».
و«قوة الردع الخاصة» الخاضعة اسمياً لسلطة وزارة الداخلية بـ«الوفاق» تدير واحداً من أكبر مراكز الاحتجاز في مدينة طرابلس في قاعدة «معيتيقة الجوية»، بحسب التقرير الأممي الذي يفيد بأن العدد الدقيق من المحتجزين هناك غير معروف. ورغم الطلبات المتكررة، لم يسمح لقسم حقوق الإنسان بالبعثة الأممية بزيارة السجن سوى مرة واحدة في مايو (أيار) 2016. كما لم يسمح للفريق بمقابلة المحتجزين على انفراد. ووفقاً للإحصائيات التي قدمتها «قوة الردع الخاصة» إلى قسم حقوق الإنسان في أثناء الزيارة، يقبع في «معيتيقة» 1500 معتقل من الذكور، ومائتان من الإناث، بمن فيهم الأطفال.

تعذيب ممنهج

وتشير إفادات الشهود وتقارير الطب الشرعي والتقارير الطبية، فضلاً عن الصور التي جمعها قسم حقوق الإنسان بالبعثة، إلى الطابع الممنهج للتعذيب وسوء المعاملة في مراكز الاحتجاز في جميع أنحاء ليبيا. وقالت الغالبية الساحقة من المحتجزين السابقين الذين قابلهم موظفو قسم حقوق الإنسان إنهم «يتعرضون إما للتعذيب المباشر أو سوء المعاملة، أو شهدوا تعرض آخرين لذلك»، حسب زعمهم.
ويتعرض المعتقلون لأسباب أمنية أو «لأسباب ذات صلة بالنزاع» للتعذيب، ولا سيما في الفترة الأولى من احتجازهم، وفي أثناء الاستجواب. ويبدو أنهم عادة ما يتعرضون للتعذيب بهدف انتزاع «اعترافات» أو معلومات أخرى، ومعاقبتهم على ارتكاب جرائم مزعومة، ولإذلالهم أو إهانتهم. وفي بعض الحالات، أفاد المحتجزون السابقون بأنهم نقلوا من مكان احتجازهم الاعتيادي إلى مراكز أخرى لاستجوابهم وتعذيبهم، حسب زعمهم.
وقالوا إن من بين أساليب التعذيب الأكثر شيوعاً وتوثيقاً الضرب على الرأس والجسم بأدوات مختلفة، بما في ذلك القضبان المعدنية وأنابيب المياه وأعقاب البنادق والجلد على باطن القدمين (الأسلوب المعروف بالفلقة) والركل واللكم، والتعليق وإبقائهم في أوضاع مجهدة لفترات طويلة من الزمن والصعق الكهربائي والحرق بالسجائر أو القضبان الساخنة والسحب من اللحى.
وهنا، يلفت الفلاح إلى أن أكثر من محكمة ليبية أصدرت أحكاماً بالإفراج عن سجناء وبرأتهم، إلا أن المجموعات المسلحة لم تستجب لكونها تقبض بيد من حديد على إدارة السجون، وقال: «هذا دليل قاطع على أن هذه المجموعات لديها السيطرة التامة الكاملة على هذه السجون (المعلنة)، أما السرية منها، فإنها إلى هذه اللحظة غير معلومة، ولا يُعرف من يديرها، وهناك المئات من المختفين قسراً لم يُستدل على أماكنهم إلى الآن... لكن في بعض المرات كان يتم الإفراج عن بعض المختفين بوساطة من الأعيان والحكماء عن طريق العرف، أو بالمفاوضات مثل من كانوا في سجن الكلية العسكرية بمصراتة، أو من كانوا لدى (قوة الردع) في طرابلس، في أوقات سابقة».
وتطرق الورفلي، الخبير القضائي، إلى عمليات التفاوض التي جرت بواسطة الحكومات المتعاقبة لإدماج هذه المجموعات المسلحة في المؤسسات الأمنية والعسكرية، وذهب إلى أن ذلك «تم من دون التدقيق لضمان استبعاد من لديهم سجلات بارتكاب جرائم سابقة... وتم تغيير أسماء هذه المجموعات المسلحة بأكملها بعد شرعنتها، ومنحها وضعاً رسمياً داخل المؤسسات». ونوه الورفلي بأن هذه الشرعنة «مكنت هذه المجموعات من ممارسة أعمالها بعيداً عن رقابة الدولة، إضافة إلى تخصيص رواتب لها، وتزويدها بالأسلحة والآليات، مما عزز من سلطاتها وجنبها العقاب».
وانتهى إلى أنه على مدار السنوات الأربع الماضية، رصد كثير من المنظمات والمؤسسات والأفراد المعنيين بمجال حقوق الإنسان على الصعيد المحلي والدولي «مدى استفحال هذه الجرائم والانتهاكات المتزايدة التي ترقى إلى جرائم ضد الإنسان، وما خفي كان أعظم».
وأمام جملة هذه المخالفات المتراكمة في عموم سجون الغرب الليبي، ضمن الأمين العام للأمم المتحدة، في تقريره، مجموعة من التوصيات، وقال: «يساورني بالغ القلق لأن الجماعات المسلحة في أنحاء البلاد، بما فيها التابعة للدولة، تضع الآلاف من الرجال والنساء والأطفال في الاحتجاز التعسفي غير المشروع لفترات طويلة، وتخضعهم للتعذيب وغيره من الانتهاكات والتجاوزات لحقوق الإنسان»، داعياً إلى «الإفراج الفوري غير المشروط عن المحتجزين تعسفياً، أو المحرومين من حريتهم بصورة غير مشروعة، وإلى نقلهم إلى مرافق الاحتجاز الرسمية، ومعاملتهم وفقاً للقانون والمعايير الدولية».
وتقول السلطات الأمنية في طرابلس إنها أفرجت عن قرابة ألفي سجين على خلفية جائحة {كورونا}.



المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

TT

المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

بعد 9 أشهر من الحرب التي شنها قائد «الجيش الوطني الليبي»، المشير خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر» الروسية، دفعت أنقرة بمرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي غالبية عناصره من تركمان سوريا، إلى ليبيا. وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فايز السراج، في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية لطرابلس.

وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف شهادات موثقة، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية بليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن عدد عناصر «المرتزقة السوريين» في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم