فرنسا تمنح سامي خياط وسام الفنون والآداب من رتبة ضابط

المسرحي اللبناني لـ«الشرق الأوسط»: التكريم الحقيقي ينبع من حبّ الجمهور لي

المسرحي سامي خياط أثناء تكريمه في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت
المسرحي سامي خياط أثناء تكريمه في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت
TT

فرنسا تمنح سامي خياط وسام الفنون والآداب من رتبة ضابط

المسرحي سامي خياط أثناء تكريمه في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت
المسرحي سامي خياط أثناء تكريمه في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت

يعدّ الفنان اللبناني سامي خياط واحداً من ركائز المسرح اللبناني الفكاهي، وأحد رواده. فهو على مدى 60 عاماً، غرف من الطرافة والسخرية ما يكفي لسرد اعوجاجات وأخطاء ترتكب في حق وطنه الصغير. فحمّل مسرحه رسائل مباشرة وعكسها واضعاً أصبعه على جرح ينزف، ومسلطاً الضوء على المضحك المبكي في بلاد الأرز.
لم يستخف خياط يوماً بمسألة الذوق العام، فتمسك بتقديم الأعمال الساخرة النظيفة التي لا ترتكز على عبارات وكلمات مسيئة. فاستطاع الحفاظ على جمهوره الواسع وغالبيته من خلفية فرنكوفونية. فاستخدامه الفرنسية في عناوين يلعب فيها على معنيين تتراوح بينها وبين العربية كانت بارزة في أعماله وتميزها في عالم المسرح الهجائي الساخر.
في عام 1960، قدم مسرحية بعنوان «موليير هوغو وسوفوكول»، لتكر سبحة أعماله بعدها التي لم تتوقّف حتى في أيام الحرب اللبنانية. وتميّزت عناوين مسرحياته باللعب على الكلام ذي الطابع الفرنسي كـ«يس فور لياس» و«بعبدا بوم» و«أبو كليبس» و«ستار إيبيديمي» و«مين دريان mine de rien» و«قرف karafe» و«كوما سافا» وغيرها.
وفي لفتة تكريمية من فرنسا، منح المركز الثقافي في لبنان سامي خياط وسام الفنون والآداب من رتبة ضابط. وذلك في مبنى المركز في بيروت وقلدته الوسام مديرة المعهد فيرونيك أولانيون.
ويعلق خياط في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «سعدت جداً بهذه اللفتة التي كرّمتني فيها فرنسا. منذ صغري أغرمت بالفرنسية واستخدمتها بشكل رئيسي في أعمالي المسرحية. ولطالما جذبتني طريقة اللبناني في حديثه الذي يمزج فيه ما بين الفرنسية والعربية فكانت عنواناً لأطروحتي الجامعية. حتى عناوين مسرحياتي تألفت من عبارات فيها لعب على الكلام بين الفرنسية والعربية. واستخلصت من هذا المزيج مادة غنية من الفكاهة المسرحية التي طبعت أعمالي».
حتى اليوم، لم يُكرّم خياط رسمياً في لبنان. فمشواره الفني تلوّن بحفلات تقدير، كناية عن مبادرات خاصة من قبل جمعيات ومؤسسات. فكما «مؤسسة جبران تويني»، كذلك «مؤسسة فخر الدين الثاني»، احتفلت به وقدمت له تكريمات تليق بمشواره. ويقول خياط معلقاً في سياق حديثه: «لا يتملكني الشعور بالحزن أبداً عن عدم تكريمي من قبل بلدي لبنان بشكل رسمي. كما أنّني لا أنتظر ذلك من دولتي، ويكفيني أن أكون مكرماً من قبل جمهور يحبني ويستمتع بمشاهدة أعمالي. فالتكريم الحقيقي الذي يرغب به الفنان عامة، ينبع من حبّ الجمهور له».
وعن رأيه بما يعانيه لبنان اليوم من مشكلات اقتصادية وبيئية واجتماعية وغيرها، يقول: «لم يسبق أن شهدنا في لبنان حالة متردية بهذا السوء وأوضاعاً مضطربة تدفع إلى الشعور بالإحباط، لدى شريحة لا يستهان بها من اللبنانيين. فحتى في زمن الحرب لم نخض تجارب وأوضاعاً مشابهة. فكنا نتجاوزها بالأمل وبالعمل من أجل غد أفضل. ولكن لبنان اليوم يعاني من حقبة قاسية واللبناني تعب حالياً من اللا استقرار الذي يعيشه، ويبحث عن بصيص أمل يخرجه من هذا المأزق».
خياط الذي يحتفل اليوم بـ60 سنة على مشواره الفني، تتزاحم الأفكار المسرحية في رأسه، ويستوحيها من مشاهد حياتية كثيرة. «هناك وباء (كورونا)، وتلاعب الدولار، ومشكلة الفيول، وانقطاع التيار، وكثير غيرها من الأفكار التي أجدها لا شعورياً تداهمني وتبعدني عن النوم. فأمضي الليالي وحتى ساعات الصباح الأولى وأنا أترجمها على الورق ضمن مشاهد مسرحية ساخرة وانتقادية».
ولكن هل نحن على موعد قريب مع إحدى مسرحياته الجديدة يرد: «في فترة الجائحة ومع الأسف ليست هناك من فرصة لتقديم عمل مسرحي في ظل التباعد الاجتماعي التي تفرضه علينا. فجميع مسارح وصالات السينما في لبنان مقفلة حتى إشعار آخر. ولكنّي أغتنم الفرصة حالياً لتكملة موضوع ما بدأته مع أطروحتي الجامعية حول المزج بين الفرنسية والعربية في حديث اللبنانيين. وما أكتبه يكمن في إلقاء الضوء على الوضع الحالي لمشهدية الالتقاء ما بين الفرنسية والعربية. وأرتكز في كتابي الجديد هذا على دراسة لغوية تبيّن العلاقة الوطيدة بين اللغتين في لبنان. فهي وعلى الرّغم من دخول عنصر الإنجليزية، من قبل جيل الشباب، إلا أنها لا تزال تستحوذ على اهتمام اللبناني الذي يتوارثها من جيل إلى آخر».
وينوي خياط في حال سمحت له الظروف، إقامة حفل ضخم بمناسبة مرور 60 عاماً على عمله المسرحي. «أفكر في تنظيم حفل يتضمن لمحة تاريخية عن مشواري الفني مترجماً بمقاطع من مسرحياتي. فالأفكار موجودة وأنا شخصياً جاهز، تماماً كما الرياضي الذي ينتظر صفارة الحكم للانطلاق».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)